﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها واللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وهو سَرِيعُ الحِسابِ﴾ ﴿وقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وسَيَعْلَمُ الكُفّارُ لِمَن عُقْبى الدّارِ﴾ ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾
(p-٤٠٠)الضَّمِيرُ في ﴿أوَلَمْ يَرَوْا﴾ عائِدٌ عَلى الَّذِينَ وُعِدُوا، وفي ذَلِكَ اتِّعاظٌ لِمَنِ اتَّعَظَ، نُبِّهُوا عَلى أنْ يَنْظُرُوا بَعْضَ الأرْضِ مِن أطْرافِها. و(نَأْتِي) يَعْنِي بِالأمْرِ والقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَأتى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ﴾ [النحل: ٢٦] والأرْضُ أرْضُ الكُفّارِ المَذْكُورِينَ، ويَعْنِي بِنَقْصِها مِن أطْرافِها لِلْمُسْلِمِينَ: مِن جَوانِبِها. كانَ المُسْلِمُونَ يَغْزُونَ مِن حَوالَيْ أرْضِ الكُفّارِ مِمّا يَلِي المَدِينَةَ، ويَغْلِبُونَ عَلى جَوانِبِ أرْضِ مَكَّةَ، والأطْرافُ: الجَوانِبُ. وقِيلَ: الطَّرَفُ مِن كُلِّ شَيْءِ خِيارُهُ، ومِنهُ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ: العُلُومُ أوْدِيَةٌ، في أيِّ وادٍ أخَذْتَ مِنها خَسِرْتَ، فَخُذُوا مِن كُلِّ شَيْءٍ طَرَفًا يَعْنِي: خِيارًا، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ مَعْنى طَرَفًا جانِبًا وبَعْضًا، كَأنَّهُ أشارَ إلى أنَّ الإنْسانَ يَكُونُ مُشارِكًا في أطْرافٍ مِنَ العُلُومِ؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُهُ اسْتِيعابُ جَمِيعِها، ولَمْ يُشِرْ إلى أنَّهُ يَسْتَغْرِقُ زَمانَهُ في عِلْمٍ واحِدٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ: نَأْتِي أرْضَ هَؤُلاءِ بِالفَتْحِ عَلَيْكَ، فَتَنْقُصُها بِما يَدْخُلُ في دِينِكَ مِنَ القَبائِلِ والبِلادِ المُجاوِرَةِ لَهم، فَما يُؤْمِنُهم أنْ يُمَكِّنَهُ مِنهم. وهَذا التَّفْسِيرُ لا يَتَأتّى إلّا أنْ قُدِّرَ نُزُولُ هَذِهِ الآيَةِ بِالمَدِينَةِ. وقِيلَ: (الأرْضَ) اسْمُ جِنْسٍ، والِانْتِقاصُ مِنَ الأطْرافِ بِتَخْرِيبِ العُمْرانِ الَّذِي يُحِلُّهُ اللَّهُ بِالكَفَرَةِ. ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا ومُجاهِدٍ، وعَنْهُما أيْضًا: الِانْتِقاصُ هو بِمَوْتِ البَشَرِ، وهَلاكِ الثَّمَراتِ، ونَقْصِ البَرَكَةِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا: مَوْتُ أشْرافِها وكُبَرائِها، وذَهابُ الصُّلَحاءِ والأخْيارِ، فَعَلى هَذا الأطْرافُ هُنا الأشْرافُ. وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: الطَّرْفُ والطَّرَفُ: الرَّجُلُ الكَرِيمُ. وعَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ: ذَهابُ فُقَهائِها وخُيّارِ أهْلِها. وعَنْ مُجاهِدٍ: مَوْتُ الفُقَهاءِ والعُلَماءِ. وقالَ عِكْرِمَةُ والشَّعْبِيُّ: هو نَقْصُ الأنْفُسِ. وقِيلَ: هَلاكُ مَن أهْلَكَ مِنَ الأُمَمِ قَبْلَ قُرَيْشٍ، وهَلاكُ أرْضِهِمْ بَعْدَهم. والمُناسِبُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ هو الأوَّلُ. ولَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ إلّا ما هو قَرِيبٌ مِنهُ قالَ: ﴿نَأْتِي الأرْضَ﴾ أرْضَ الكُفْرِ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها بِما يُفْتَحُ عَلى المُسْلِمِينَ مِن بِلادِهِمْ، فَيُنْقِصُ دارَ الحَرْبِ، ويُزِيدُ في دارِ الإسْلامِ، وذَلِكَ مِن آياتِ الغَلَبَةِ والنُّصْرَةِ. ونَحْوُهُ: ﴿أفَلا يَرَوْنَ أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها أفَهُمُ الغالِبُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٤] ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ﴾ [فصلت: ٥٣] والمَعْنى: عَلَيْكَ بِبَلاغِ الَّذِي حَمَلْتَهُ، ولا تَهْتَمَّ بِما وراءَ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَكْفِيكَهُ، ونُتِمُّ ما وعَدْناكَ مِنَ الظَّفَرِ، ولا يُضْجِرُكَ تَأخُّرُهُ، فَإنَّ ذَلِكَ لِما نَعْلَمُ مِنَ المَصالِحِ الَّتِي لا تَعْلَمُها، ثُمَّ طَيَّبَ نَفْسَهُ ونَفَّسَ عَنْها بِما ذَكَرَ مِن طُلُوعِ تَباشِيرِ الظَّفَرِ. ويَتَّجِهُ قَوْلُ مَن قالَ: النَّقْصُ بِمَوْتِ الأشْرافِ والعُلَماءِ والخُيّارِ، وتَقْرِيرُهُ: أوْلَمَ يَرَوْا أنا نُحْدِثُ في الدُّنْيا مِنَ الِاخْتِلافاتِ خَرابًا بَعْدَ عَمارِهِ، ومَوْتًا بَعْدَ حَياةٍ، ذُلًّا بَعْدَ عِزٍّ، ونَقْصًا بَعْدَ كَمالٍ، وهَذِهِ تَغْيِيراتٌ مُدْرَكَةٌ بِالحِسِّ. فَما الَّذِي يُؤَمِّنُهم أنْ يُقَلِّبَ اللَّهُ الأمْرَ عَلَيْهِمْ ويَصِيرُونَ ذَلِيلِينَ بَعْدَ أنْ كانُوا قاهِرِينَ.
وقَرَأ الضَّحّاكُ: (نُنَقِّصُها) مُثَقَّلًا مِن نَقَّصَ عَدّاهُ بِالتَّضْعِيفِ مِن نَقَصَ اللّازِمِ، والمُعَقِّبُ الَّذِي يَكُرُّ عَلى الشَّيْءِ فَيُبْطِلُهُ، وحَقِيقَتُهُ الَّذِي يُعْقِبُهُ؛ أيْ: بِالرَّدِّ والإبْطالِ، ومِنهُ قِيلَ لِصاحِبِ الحَقِّ: مُعَقِّبٌ؛ لِأنَّهُ يُقَفِّي غَرِيمَهُ بِالِاقْتِضاءِ والطَّلَبِ. قالَ لَبِيَدٌ:
؎طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّهُ المَظْلُومُ
والمَعْنى: أنَّهُ حَكَمَ لِلْإسْلامِ بِالغَلَبَةِ والإقْبالِ، وعَلى الكُفْرِ بِالإدْبارِ والِانْتِكاسِ. وقِيلَ: تَتَعَقَّبُ أحْكامَهُ؛ أيْ: يَنْظُرُ في أعْقابِها أمُصِيبَةٌ هي أمْ لا، والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ؛ أيْ: نافِذُ حُكْمِهِ.
﴿وهُوَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ الأُمَمَ السّابِقَةَ كانَ يَصْدُرُ مِنهُمُ المَكْرُ بِأنْبِيائِهِمْ كَما فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، وأنَّ ذَلِكَ عادَةُ المُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، مَكَرَ بِإبْراهِيمَ نَمْرُوذُ، وبِمُوسى فِرْعَوْنُ، وبِعِيسى اليَهُودُ، وجَعَلَ تَعالى مَكْرَهم كَلا مَكْرٍ؛ إذْ أضافَ المَكْرَ كُلَّهُ لَهُ تَعالى. ومَعْنى مَكْرِهِ تَعالى عُقُوبَتُهُ إيّاهم، سَمّاها مَكْرًا إذْ كانَتْ ناشِئَةً عَنِ المَكْرِ وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ المُقابَلَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] ثُمَّ فَسَّرَ قَوْلَهُ: ﴿فَلِلَّهِ المَكْرُ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿يَعْلَمُ (p-٤٠١)ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ والمَعْنى: يُجازِي كُلَّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ. ثُمَّ هَدَّدَ الكافِرَ بِقَوْلِهِ: ﴿وسَيَعْلَمُ الكُفّارُ لِمَن عُقْبى الدّارِ﴾ إذْ يَأْتِيهِ العَذابُ مِن حَيْثُ هو في غَفْلَةٍ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ لِمَن هي العاقِبَةُ المَحْمُودَةُ. وقَرَأ جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ: (وسَيُعْلَمُ الكافِرُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِن أعْلَمَ؛ أيْ: وسَيُخْبَرُ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو: (الكافِرُ) عَلى الإفْرادِ والمُرادُ بِهِ الجِنْسُ، وباقِي السَّبْعَةِ (الكُفّارُ) جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ: (الكافِرُونَ) جَمْعَ سَلامَةٍ، وأُبَيٌّ: (الَّذِينَ كَفَرُوا)، وفَسَّرَ عَطاءٌ ”الكافِرَ“ بِالمُسْتَهْزِئِينَ وهم خَمْسَةٌ، والمُقْتَسِمِينَ وهم ثَمانِيَةٌ وعِشْرُونَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ بِالكافِرِ أبا جَهْلٍ. ويَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ تَفْسِيرُهُ عَطاءً عَلى التَّمْثِيلِ؛ لِأنَّ الإخْبارَ بِعِلْمِ الكافِرِ لِمَن عُقْبى الدّارِ مَعْنًى يَعُمُّ جَمِيعَ الكُفّارِ، ولَمّا قالَ الكُفّارُ: ﴿لَسْتَ مُرْسَلًا﴾ أيْ: إنَّما أنْتَ مُدَّعٍ ما لَيْسَ لَكَ، أمَرَهُ تَعالى أنْ يَكْتَفِيَ بِشَهادَةِ اللَّهِ تَعالى بَيْنَهم، إذْ قَدْ أظْهَرَ عَلى يَدَيْهِ مِنَ الأدِلَّةِ عَلى رِسالَتِهِ ما في بَعْضِها كِفايَةٌ لِمَن وُفِّقَ، ثُمَّ أرْدَفَ شَهادَةَ اللَّهِ بِشَهادَةِ مَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ. والكِتابُ هُنا: القُرْآنُ، والمَعْنى: إنَّ مَن عَرِفَ ما أُلِّفَ فِيهِ مِنَ المَعانِي الصَّحِيحَةِ والنَّظْمِ المُعْجِزِ الفائِتِ لِقُدَرِ البَشَرِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ. وقِيلَ: (الكِتابِ) التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، والَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ: مَن أسْلَمَ مِن عُلَمائِهِمْ؛ لِأنَّهم يَشْهَدُونَ نَعْتَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في كُتُبِهِمْ. قالَ قَتادَةُ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وتَمِيمِ الدّارِيِّ وسَلْمانَ الفارِسِيِّ. وقالَ مُجاهِدٌ: يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ خاصَّةً. وهَذانِ القَوْلانِ لا يَسْتَقِيمانِ إلّا عَلى أنْ تَكُونَ الآيَةُ مَدَنِيَّةً، والجُمْهُورُ عَلى أنَّها مَكِّيَّةٌ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ والباقِرُ: هو عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ. وقِيلَ: جِبْرِيلُ، و(الكِتابُ) اللَّوْحُ المَحْفُوظُ. وقِيلَ: هو اللَّهُ تَعالى قالَهُ الحَسَنُ وابْنُ جُبَيْرٍ والزَّجّاجُ. وعَنِ الحَسَنِ: لا واللَّهِ ما يَعْنِي إلّا اللَّهُ، والمَعْنى: كَفى بِالَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ، وبِالَّذِي لا يَعْلَمُ ما في اللَّوْحِ إلّا هو شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُعْتَرَضُ هَذا القَوْلُ بِأنَّ فِيهِ عَطْفُ الصِّفَةِ عَلى المَوْصُوفِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ، وإنَّما تُعْطَفُ الصِّفاتُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، انْتَهى. ولَيْسَ ذَلِكَ كَما زَعَمَ مَن عَطَفَ الصِّفَةَ عَلى المَوْصُوفِ؛ لِأنَّ ”مَن“ لا يُوصَفُ بِها، ولا لِشَيْءٍ مِنَ المَوْصُولاتِ إلّا بِالَّذِي والَّتِي وفُرُوعِهِما، وذِي وذَواتِ الطّائِيَّتَيْنِ. وقَوْلُهُ: وإنَّما تُعْطَفُ الصِّفاتُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ، بَلْ لَهُ شَرْطٌ وهو أنْ تَخْتَلِفَ مَدْلُولاتُها. ويَعْنِي ابْنَ عَطِيَّةَ: لا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ والعالِمِ فَتَعْطِفُ العالِمِ عَلى الِاسْمِ وهو عَلَمٌ لَمْ يَلْحَظْ مِنهُ مَعْنى صِفَةٍ، وكَذَلِكَ ”اللَّهُ“ عَلَمٌ. ولَمّا شَعَرَ بِهَذا الِاعْتِراضِ مِن جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلى اللَّهِ قَدَّرَ قَوْلَهُ: بِالَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ، حَتّى يَكُونَ مِن عَطْفِ الصِّفاتِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ، لا مِن عَطْفِ الصِّفَةِ (p-٤٠٢)عَلى الِاسْمِ. ومَن في قِراءَةِ الجُمْهُورِ في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلى لَفْظِ اللَّهِ، أوْ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلى مَوْضِعِ اللَّهِ، إذْ هو في مَذْهَبِ مَن جَعَلَ الباءَ زائِدَةً عَلى فاعِلِ كَفى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أعْدَلُ وأمْضى قَوْلًا، ونَحْوَ هَذا مِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظَةُ (شَهِيدًا) ويُرادُ بِذَلِكَ اللَّهُ تَعالى. وقُرِئَ: (وبِمَن) بِدُخُولِ الباءِ عَلى (مَن) عَطْفًا عَلى (بِاللَّهِ) . وقَرَأ عَلِيٌّ وأُبَيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ وابْنُ جُبَيْرٍ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرَةَ والضَّحّاكُ وسالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أبِي إسْحاقَ ومُجاهِدٌ والحَكَمُ والأعْمَشُ: ومِن عِنْدِهِ عِلْمُ الكِتابِ: بِجَعْلِ ”مِن“ حَرْفُ جَرٍّ، وجُرَّ ما بَعْدَهُ بِهِ، وارْتِفاعُ ”عِلْمُ“ بِالِابْتِداءِ، والجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ الجَرِّ. وقَرَأ عَلِيٌّ أيْضًا وابْنُ السَّمَيْقَعِ والحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ.
﴿ومَن عِنْدَهُ﴾ بِجَعْلِ ”مِن“ حَرْفُ جَرٍّ ﴿عِلْمُ الكِتابِ﴾ بِجَعْلِ ”عُلِمَ“ فِعْلًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، و”الكِتابُ“ رُفِعَ بِهِ. وقُرِئَ ﴿ومَن عِنْدَهُ﴾ بِحَرْفِ جَرٍّ، ﴿عِلْمُ الكِتابِ﴾ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والضَّمِيرُ في ”عِنْدِهِ“ في هَذِهِ القِراآتِ الثَّلاثِ عائِدٌ عَلى اللَّهِ تَعالى.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في القِراءَةِ الَّتِي وقَعَ فِيها (عِنْدَهُ) صِلَةً يَرْتَفِعُ العِلْمُ بِالمُقَدَّرِ في الظَّرْفِ فَيَكُونُ فاعِلًا؛ لِأنَّ الظَّرْفَ إذا وقَعَ صِلَةً أوْغَلَ في شَبَهِ الفِعْلِ لِاعْتِمادِهِ عَلى المَوْصُولِ، فَعَمِلَ عَلى الفِعْلِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِالَّذِي في الدّارِ أخُوهُ، ”فَأخُوهُ“ فاعِلٌ، كَما تَقُولُ: بِالَّذِي اسْتَقَرَّ في الدّارِ أخُوهُ، انْتَهى. وهَذا الَّذِي قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ عَلى وجْهِ التَّحَتُّمِ؛ لِأنَّ الظَّرْفَ والجارَّ والمَجْرُورَ إذا وقَعا صِلَتَيْنِ أوْ حالَيْنِ أوْ خَبَرَيْنِ، إمّا في الأصْلِ، وإمّا في النّاسِخِ، أوْ تَقَدَّمَهُما أداةُ نَفْيٍ أوِ اسْتِفْهامٍ جازَ فِيما بَعْدَهُما مِنَ الِاسْمِ الظّاهِرِ أنْ يَرْتَفِعَ عَلى الفاعِلِ وهو الأجْوَدُ، وجازَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ المَرْفُوعُ مُبْتَدَأً، والظَّرْفُ أوِ الجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِهِ، والجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ صِلَةٌ أوْ صِفَةٌ أوْ حالٌ أوْ خَبَرٌ، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى اسْمِ الفاعِلِ. فَكَما جازَ ذَلِكَ في اسْمِ الفاعِلِ، وإنْ كانَ الأحْسَنُ إعْمالَهُ في الِاسْمِ الظّاهِرِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ في ما نابَ عَنْهُ مِن ظَرْفٍ أوْ مَجْرُورٍ. وقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلى إجازَةِ ذَلِكَ في نَحْوِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٌ وجْهُهُ، فَأجازَ ”حَسَنٌ وجْهُهُ“ عَلى رَفْعِ ”حَسَنٌ“ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وهَكَذا تَلَقَّفْنا هَذِهِ المَسْألَةَ عَنِ الشُّيُوخِ. وقَدْ يُتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّشْأةِ في النَّحْوِ أنَّ اسْمَ الفاعِلِ إذا اعْتَمَدَ عَلى شَيْءٍ مِمّا ذَكَرْناهُ يَتَحَتَّمُ إعْمالُهُ في الظّاهِرِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ. وقَدْ أعْرَبَ الحَوْفِيُّ ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ مُبْتَدَأً وخَبَرًا في صِلَةِ (مَن) . وقالَ أبُو البَقاءِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا: يَعْنِي (عِنْدَهُ) والمُبْتَدَأُ: ﴿عِلْمُ الكِتابِ﴾ انْتَهى. ومَن قَرَأ: ﴿ومَن عِنْدَهُ﴾ عَلى أنَّهُ حَرْفُ جَرٍّ فالكِتابُ في قِراءَتِهِ هو القُرْآنُ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى مِن جِهَةِ فَضْلِهِ وإحْسانِهِ عَلِمَ الكِتابَ أوْ عُلِمَ الكِتابُ عَلى القِراءَتَيْنِ؛ أيْ: عَلِمْتُ مَعانِيَهُ، وكَوْنُهُ أعْظَمَ المُعْجِزاتِ الباقِي عَلى مَرِّ الأعْصارِ، فَتَشْرِيفُ العَبْدِ بِعُلُومِ القُرْآنِ إنَّما ذَلِكَ مِن إحْسانِ اللَّهِ تَعالى إلَيْهِ وتَوْفِيقِهِ عَلى كَوْنِهِ مُعْجِزًا، وتَوْفِيقِهِ لِإدْراكِ ذَلِكَ.
{"ayahs_start":41,"ayahs":["أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا نَأۡتِی ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ یَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ","وَقَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَلِلَّهِ ٱلۡمَكۡرُ جَمِیعࣰاۖ یَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسࣲۗ وَسَیَعۡلَمُ ٱلۡكُفَّـٰرُ لِمَنۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ","وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَسۡتَ مُرۡسَلࣰاۚ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِیدَۢا بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَـٰبِ"],"ayah":"أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا نَأۡتِی ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ یَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ"}