﴿هو الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا ويُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ﴾ ﴿ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والمَلائِكَةُ مِن خِيفَتِهِ ويُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَن يَشاءُ وهم يُجادِلُونَ في اللَّهِ وهو شَدِيدُ المِحالِ﴾ ﴿لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهم بِشَيْءٍ إلّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إلى الماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وما هو بِبالِغِهِ وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾ (p-٣٧٤)لَمّا خَوَّفَ تَعالى العِبادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وإذا أرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ﴾ [الرعد: ١١] أتْبَعَهُ بِما يَشْتَمِلُ عَلى أُمُورٍ دالَّةٍ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتِهِ تُشْبِهُ النِّعَمَ مِن وجْهٍ، والنِّقَمَ مِن وجْهٍ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في البَرْقِ والرَّعْدِ والصَّواعِقِ والسَّحابِ في البَقَرَةِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ: خَوْفًا مِنَ الصَّواعِقِ، وطَمَعًا في الغَيْثِ. وقالَ قَتادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسافِرِينَ مِن أذى المَطَرِ، وطَمَعًا لِلْمُقِيمِ في نَفْعِهِ. وقَرِيبٌ مِنهُ ما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ وهو: خَوْفًا لِلْبَلَدِ الَّذِي يَخافُ ضَرَرَ المَطَرِ لَهُ، وطَمَعًا لِمَن يَرْجُو الِانْتِفاعَ بِهِ، وذَكَرَ الماوَرْدِيُّ: خَوْفًا مِنَ العِقابِ، وطَمَعًا في الثَّوابِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ: أنَّهُ كَنّى بِالبَرْقِ عَنِ الماءِ، لَمّا كانَ المَطَرُ يُقارِبُهُ غالِبًا وذَلِكَ مِن بابِ إطْلاقِ الشَّيْءِ مَجازًا عَلى ما يُقارِبُهُ غالِبًا. قالَ الحَوْفِيُّ: خَوْفًا وطَمَعًا مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ، وجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْ: خائِفِينَ وطامِعِينَ، قالَ: ومَعْنى الخَوْفِ والطَّمَعِ، أنَّ وُقُوعَ الصَّواعِقِ يُخَوِّفُ عِنْدَ لَمْعِ البَرْقِ، ويُطْمِعُ في الغَيْثِ. قالَ أبُو الطَّيِّبِ:
؎فَتًى كالسَّحابِ الجَوْنِ يُخْشى ويُرْتَجى يُرْجى الحَيا مِنهُ وتُخْشى الصَّواعِقُ
. وقِيلَ: يَخافُ البَرْقَ والمَطَرَ مَن لَهُ مِنهُ ضَرَرٌ كالمُسافِرِ، ومَن في جَرِينَتِهِ التَّمْرُ والزَّبِيبُ، ومَن لَهُ بَيْتٌ يَكُفُّ، ومِنَ البِلادِ ما لا يَنْتَفِعُ أهْلُهُ بِالمَطَرِ كَأهْلِ مِصْرَ، انْتَهى. وقَوْلُهُ الأوَّلُ في تَفْسِيرِ الخَوْفِ والطَّمَعِ، هو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وقَوْلُهُ: كَأهْلِ مِصْرَ، لَيْسَ كَما ذَكَرَ، بَلْ يَنْتَفِعُونَ بِالمَطَرِ في كَثِيرٍ مِن أوْقاتِ نُمُوِّ الزَّرْعِ، وأنَّهُ بِهِ يَنْمُو ويَجُودُ، بَلْ تَمُرُّ عَلى الزَّرْعِ أوْقاتٌ يَتَضَرَّرُ ويَنْقُصُ نُمُوُّهُ بِامْتِناعِ المَطَرِ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونا مَنصُوبَيْنِ عَلى الحالِ مِنَ البَرْقِ، كَأنَّهُ في نَفْسِهِ خَوْفٌ وطَمَعٌ، أوْ عَلى ”ذا خَوْفٍ وطَمَعٍ“ . وقالَ أبُو البَقاءِ: ﴿خَوْفًا وطَمَعًا﴾ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُما، لِأنَّهُما لَيْسا بِفِعْلِ الفاعِلِ الفِعْلَ المُعَلِّلَ إلّا عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ المُضافِ أيْ: إرادَةَ خَوْفٍ وطَمَعٍ، أوْ عَلى مَعْنى ”إخافَةً وإطْماعًا“، انْتَهى. وإنَّما لَمْ يَكُونا عَلى ظاهِرِهِما بِفِعْلِ الفاعِلِ الفِعْلَ المُعَلِّلَ لِأنَّ الإرادَةَ فِعْلُ اللَّهِ، والخَوْفَ والطَّمَعَ فِعْلٌ لِلْمُخاطَبِينَ، فَلَمْ يَتَّحِدِ الفاعِلُ في الفِعْلِ في المَصْدَرِ. وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن شَرْطِ اتِّحادِ الفاعِلِ فِيهِما لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَن لا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، وهو مَذْهَبُ ابْنِ خَرُوفٍ. و(السَّحابَ) اسْمُ جِنْسٍ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، ويُفْرَدُ ويُجْمَعُ، قالَ: ﴿والنَّخْلَ باسِقاتٍ﴾ [ق: ١٠] ولِذَلِكَ جَمَعَ في قَوْلِهِ: (الثِّقالَ) ويَعْنِي بِالماءِ، وهو جَمْعُ ثَقِيلَةٍ. قالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: مَعْناهُ تُحْمَلُ الماءُ، والعَرَبُ تَصِفُها بِذَلِكَ. قالَ قَيْسُ بْنُ أخْطَمَ:
؎فَما رَوْضَةٌ مِن رِياضِ القَطا ∗∗∗ كَأنَّ المَصابِيحَ جَوَدانُها
؎بِأحْسَنَ مِنها ولا مُزْنَةَ ∗∗∗ ولَوْحٌ يَكْشِفُ أوْجانَها
والدُّلُوجُ المُثْقَلَةُ، والظّاهِرُ إسْنادُ التَّسْبِيحِ إلى الرَّعْدِ. فَإنْ كانَ يَصِحُّ مِنهُ التَّسْبِيحُ فَهو إسْنادٌ حَقِيقِيٌّ، وإنْ كانَ مِمّا لا يَصِحُّ مِنهُ فَهو إسْنادٌ مَجازِيٌّ. وتَنْكِيرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ﴾ [البقرة: ١٩] يَنْفِي أنْ يَكُونَ عَلَمًا لِمَلَكٍ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: الإخْبارُ بِالصَّوْتِ عَنِ التَّسْبِيحِ مَجازٌ كَما يَقُولُ القائِلُ: قَدْ غَمَّنِي كَلامُكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويُسَبِّحُ سامِعُو الرَّعْدِ مِنَ العِبادِ الرّاجِينَ لِلْمَطَرِ حامِدِينَ لَهُ، أيْ: يَضِجُّونَ بِسُبْحانَ اللَّهِ والحَمْدِ لِلَّهِ. وفي الحَدِيثِ: «سُبْحانَ مَن يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ» وعَنْ عَلِيٍّ: ”سُبْحانَ مَن سَبَّحَتْ لَهُ“ إذا اشْتَدَّ الرَّعْدُ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -: «اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنا بِغَضَبِكَ ولا تُهْلِكْنا بِعَذابِكَ، وعافِنا (p-٣٧٥)قَبْلَ ذَلِكَ» ومِن بِدَعِ المُتَصَوِّفَةِ: الرَّعْدُ صَعَقاتُ المَلائِكَةِ، والبَرْقُ زَفَراتُ أفْئِدَتِهِمْ، والمَطَرُ بُكاؤُهم، انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقِيلَ في الرَّعْدِ أنَّهُ رِيحٌ يَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّحابِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وهَذا عِنْدِي لا يَصِحُّ لِأنَّ هَذا نَزَغاتُ الطَّبِيعِيِّينَ وغَيْرِهِمْ مِنَ المَلاحِدَةِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: اعْلَمْ أنَّ المُحَقِّقِينَ مِنَ الحُكَماءِ يَذْكُرُونَ أنَّ هَذِهِ الآثارَ العُلْوِيَّةَ إنَّما تَتِمُّ بِقُوًى رُوحانِيَّةٍ فَلَكِيَّةٍ، ولِلسَّحابِ رُوحٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الأرْواحِ الفَلَكِيَّةِ يُدَبِّرُهُ، وكَذا القَوْلُ في الرِّياحِ، وفي سائِرِ الآثارِ العُلْوِيَّةِ. وهَذا عَيْنُ ما قُلْناهُ أنَّ الرَّعْدَ اسْمٌ لِمَلَكٍ مِنَ المَلائِكَةِ يُسَبِّحُ اللَّهُ تَعالى، فَهَذا الَّذِي قالَهُ المُفَسِّرُونَ بِهَذِهِ العِبارَةِ هو عَيْنُ ما ذَكَرَهُ المُحَقِّقُونَ مِنَ الحُكَماءِ، فَكَيْفَ بِالعاقِلِ الإنْكارُ ؟ انْتَهى. وهَذا الرَّجُلُ غَرَضُهُ جَرَيانُ ما تَنْتَحِلُهُ الفَلاسِفَةُ عَلى مَناهِجِ الشَّرِيعَةِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ أبَدًا، وقَدْ تَقَدَّمَ أقْوالُ المُفَسِّرِينَ في الرَّعْدِ في البَقَرَةِ، فَلَمْ يُجْمِعُوا عَلى أنَّ الرَّعْدَ اسْمٌ لِمَلَكٍ. وعَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ اسْمًا لِمَلَكٍ، لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ المَلَكُ يُدَبِّرُ لا لِلسَّحابِ ولا غَيْرِهِ، إذْ لا يُسْتَفادُ مِثْلُ هَذا إلّا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ المَشْهُودُ لَهُ بِالعِصْمَةِ، لا مِنَ الفَلاسِفَةِ الضُّلّالِ. والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: مِن خِيفَتِهِ، عَلى اللَّهِ تَعالى كَما عادَ في قَوْلِهِ: (بِحَمْدِهِ) . ومَعْنى (خِيفَتِهِ) مِن هَيْبَتِهِ وإجْلالِهِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الرَّعْدِ. والمَلائِكَةُ: أعْوانُهُ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ فَهم خائِفُونَ خاضِعُونَ طائِعُونَ لَهُ. والرَّعْدُ وإنْ كانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ لَفْظِ المَلائِكَةِ، فَهو تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، انْتَهى. وهو قَوْلٌ ضَعِيفٌ. و(مَن) مَفْعُولُ (فَيُصِيبُ) وهو مِن بابِ الإعْمالِ، أعْمَلَ فِيهِ الثّانِيَ إذْ (يُرْسِلُ) يَطْلُبُ (مَن) و(فَيُصِيبُ) يَطْلُبُهُ، ولَوْ أعْمَلَ الأوَّلَ لَكانَ التَّرْكِيبُ: ويُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها عَلى مَن يَشاءُ، لَكِنْ جاءَ عَلى الكَثِيرِ في لِسانِ العَرَبِ المُخْتارُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ وهو إعْمالُ الثّانِي. ومَفْعُولُ (يَشاءُ) مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَن يَشاءُ إصابَتَهُ. وفي الخَبَرِ «أنَّ الرَّسُولَ ﷺ بَعَثَ إلى جَبّارٍ مِنَ العَرَبِ لِيُسْلِمَ فَقالَ: أخْبِرْنِي عَنْ إلَهِ مُحَمَّدٍ، أمِن لُؤْلُؤٍ هو أمْ مِن ذَهَبٍ ؟ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ صاعِقَةٌ»، ونَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِ. وقالَ مُجاهِدٌ: ناظَرَ يَهُودِيٌّ الرَّسُولَ ﷺ فَبَيْنا هو كَذَلِكَ نَزَلَتْ صاعِقَةٌ فَأخَذَتْ قَحْفَ رَأْسِهِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَبَبُ نُزُولِها قِصَّةُ أرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ وعامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وذَكَرَ قِصَّتَهُما المَشْهُورَةَ، مَضْمُونُها «أنَّ عامِرًا تَوَعَّدَ الرَّسُولَ ﷺ إذا لَمْ يُجِبْهُ إلى ما طَلَبَ، وأنَّهُ وأرْبَدَ راما الفَتْكَ بِهِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعالى، وأصابَ عامِرًا بِغُدَّةٍ فَماتَ غَرِيبًا، وأرْبَدَ بِصاعِقَةٍ فَقَتَلَتْهُ»، ولِأخِيهِ لَبِيدٍ فِيهِ عِدَّةُ مَرّاتٍ. مِنها قَوْلُهُ:
؎أخْشى عَلى أرْبَدَ الحُتُوفَ ولا ∗∗∗ أرْهَبُ نَوْءَ السِّماكِ والأسَدِ
؎فَجَعَنِي البَرْقُ والصَّواعِقُ بِالفا ∗∗∗ رِسِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ النَّجُدِ
وهَذِهِ الصِّلاتُ الأرْبَعُ الَّتِي وُصِلَتْ بِها الَّذِي تَدُلُّ عَلى القُدْرَةِ الباهِرَةِ، والتَّصَرُّفِ التّامِّ في العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ، فالمُتَّصِفُ بِها يَنْبَغِي أنْ لا يُجادِلَ فِيهِ، وأنْ يَعْتَقِدَ ما هو عَلَيْهِ مِنَ الصِّفاتِ العُلْوِيَّةِ، والضَّمِيرُ في ﴿وهم يُجادِلُونَ﴾ عائِدٌ عَلى الكُفّارِ المُكَذِّبِينَ لِلرَّسُولِ ﷺ، المُنْكِرِينَ الآياتِ، يُجادِلُونَ في قُدْرَةِ اللَّهِ عَلى البَعْثِ وإعادَةِ الخَلْقِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] وفي وحْدانِيَّتِهِ بِاتِّخاذِ الشُّرَكاءِ والأنْدادِ. ونِسْبَةُ التَّوالُدِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ تَعالى، والمَعْنى: أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الأوْصافِ، ومَعَ ذَلِكَ رَتَّبُوا عَلَيْها غَيْرَ مُقْتَضاها مِنَ المُجادَلَةِ فِيهِ وفي أوْصافِهِ تَعالى، وكانَ مُقْتَضاها التَّسْلِيمَ لِما جاءَتْ بِهِ الأنْبِياءُ. وقِيلَ: ﴿وهم يُجادِلُونَ﴾ حالٌ مِن مَفْعُولِ (يَشاءُ) أيْ: فَيُصِيبُ بِها مَن يَشاءُ في حالِ جِدالِهِمْ كَما جَرى لِلْيَهُودِيِّ. وكَذَلِكَ الجَبّارُ ولِأرْبَدَ، ﴿وهُوَ شَدِيدُ المِحالِ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِنَ الجَلالَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (المِحالِ) بِكَسْرِ المِيمِ. فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: المِحالُ: العَداوَةُ، وعَنْهُ الحِقْدُ. وعَنْ عَلِيٍّ: الأخْذُ، (p-٣٧٦)وعَنْ مُجاهِدٍ: القُوَّةُ. وعَنْ قُطْرُبٍ: الغَضَبُ. وعَنِ الحَسَنِ: الهَلاكُ بِالمَحَلِّ، وهو القَحْطُ. وقَرَأ الضَّحّاكُ والأعْرَجُ: (المَحالِ) بِفَتْحِ المِيمِ. فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الحَوْلُ. وعَنْ عُبَيْدَةَ: الحِيلَةُ. يُقالُ: المَحالُ والمَحالَةُ وهي الحِيلَةُ، ومِنهُ قَوْلُ العَرَبِ في مَثَلٍ: المَرْءُ يَعْجِزُ لا المَحالَةُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى شَدِيدَ العِقابِ، ويَكُونُ مَثَلًا في القُوَّةِ والقُدْرَةِ، كَما جاءَ: فَساعِدُ اللَّهِ أشَدُّ، ومُوساهُ أحَدُّ؛ لِأنَّ الحَيَوانَ إذا اشْتَدَّ غايَةً كانَ مَنعُوتًا بِشِدَّةِ القُوَّةِ والِاضْطِلاعِ بِما يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ: فَقَرَتْهُ الفَواقِرُ، وذَلِكَ أنَّ الفَقارَ عَمُودُ الظَّهْرِ وقِوامُهُ. والضَّمِيرُ في لَهُ عائِدٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، ودَعْوَةُ الحَقِّ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: دَعْوَةُ الحَقِّ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وما كانَ مِنَ الشَّرِيعَةِ في مَعْناها. وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: دَعْوَةُ الحَقِّ: التَّوْحِيدُ. وقالَ الحَسَنُ: إنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ، فَدُعاؤُهُ دَعْوَةُ الحَقِّ. وقِيلَ: دَعْوَةُ الحَقِّ دُعاؤُهُ عِنْدَ الخَوْفِ، فَإنَّهُ لا يُدْعى فِيهِ إلّا هو، كَما قالَ: ﴿ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧] قالَ الماوَرْدِيُّ: وهو أشْبَهُ بِسِياقِ الآيَةِ. وقِيلَ: دَعْوَةُ الطَّلَبِ الحَقُّ؛ أيْ: مَرْجُوُّ الإجابَةِ، ودُعاءُ غَيْرِ اللَّهِ لا يُجابُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وجْهانِ؛ أحَدُهُما: أنْ تُضافَ الدَّعْوَةُ إلى الحَقِّ الَّذِي هو نَقِيضُ الباطِلِ، كَما تُضافُ الكَلِمَةُ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: (كَلِمَةُ الحَقِّ) لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الدَّعْوَةَ مُلابِسَةٌ لِلْحَقِّ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وأنَّها بِمَعْزِلٍ مِنَ الباطِلِ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يُدْعى فَيَسْتَجِيبُ الدَّعْوَةَ، ويُعْطِي الدّاعِيَ سُؤْلَهُ إنْ كانَتْ مَصْلَحَةً لَهُ، فَكانَتْ دَعْوَتُهُ مُلابِسَةً لِلْحَقِّ لِكَوْنِهِ حَقِيقًا بِأنْ يُوَجَّهَ إلَيْهِ الدُّعاءُ، لِما في دَعْوَتِهِ مِنَ الجَدْوى والنَّفْعِ، بِخِلافِ ما لا يَنْفَعُ ولا يُجْدِي دُعاؤُهُ. والثّانِي: أنْ تُضافَ إلى الحَقِّ الَّذِي هو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى مَعْنى دَعْوَةِ المَدْعُوِّ الحَقَّ الَّذِي يَسْمَعُ فَيُجِيبُ. وعَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الحَقُّ هو اللَّهُ تَعالى، وكُلُّ دُعاءٍ إلَيْهِ دَعْوَةُ الحَقِّ، انْتَهى. وهَذا الوَجْهُ الثّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لا يَظْهَرُ؛ لِأنَّ مَآلَهُ إلى تَقْدِيرِ: لِلَّهِ دَعْوَةٌ لِلَّهِ، كَما تَقُولُ: لِزَيْدٍ دَعْوَةُ زَيْدٍ، وهَذا التَّرْكِيبُ لا يَصِحُّ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ هَذِهِ الإضافَةَ مِن بابِ إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿ولَدارُ الآخِرَةِ﴾ [يوسف: ١٠٩] عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ، والتَّقْدِيرُ: لِلَّهِ الدَّعْوَةُ الحَقِّ بِخِلافِ غَيْرِهِ فَإنَّ دَعْوَتَهم باطِلَةٌ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ تَعالى الدَّعْوَةُ لَهُ هي الدَّعْوَةُ الحَقِّ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى جِدالَ الكُفّارِ في اللَّهِ تَعالى، وكانَ جِدالُهم في إثْباتِ آلِهَةٍ مَعَهُ، ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ لَهُ الدَّعْوَةُ الحَقِّ أيْ: مَن يَدْعُو لَهُ فَدَعْوَتُهُ هي الحَقُّ، بِخِلافِ أصْنامِهِمُ الَّتِي جادَلُوا في اللَّهِ لِأجْلِها، فَإنَّ دُعاءَها باطِلٌ لا يَتَحَصَّلُ مِنهُ شَيْءٌ. فَقالَ: ﴿والَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والآلِهَةُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمُ الكُفّارُ مَن دُونِ اللَّهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهم بِشَيْءٍ مِن طَلَباتِهِمْ إلّا اسْتِجابَةً كاسْتِجابَةِ (باسِطِ كَفَّيْهِ) أيْ: كاسْتِجابَةِ الماءِ مِن بَسْطِ كَفَّيْهِ إلَيْهِ، يَطْلُبُ مِنهُ أنْ يَبْلُغَ فاهُ، والماءُ جَمادٌ لا يَشْعُرُ بِبَسْطِ كَفَّيْهِ ولا بِعَطَشِهِ وحاجَتِهِ إلَيْهِ، ولا يَقْدِرُ أنْ يُجِيبَ دُعاءَهُ ويَبْلُغَ فاهُ. وكَذَلِكَ ما يَدْعُونَهُ جَمادٌ لا يَحِسُّ بِدُعائِهِمْ، ولا يَسْتَطِيعُ إجابَتَهم، ولا يَقْدِرُ عَلى نَفْعِهِمْ. وقِيلَ: شُبِّهُوا في قِلَّةِ جَدْوى دُعائِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ بِمَن أرادَ أنْ يَغْرِفَ الماءَ بِيَدَيْهِ لِيَشْرَبَهُ، فَبَسَطَهُما ناشِرًا أصابِعَهُ فَلَمْ تُبْقِ كَفّاهُ مِنهُ شَيْئًا، ولَمْ يَبْلُغْ طَلَبَتُهُ مِن شُرْبِهِ، انْتَهى. فالضَّمِيرُ في (يَدْعُونَ) عائِدٌ عَلى الكُفّارِ، والعائِدُ عَلى (الَّذِينَ) مَحْذُوفٌ أيْ: يَدْعُونَهم. ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ بِالتّاءِ في (تَدْعُونَ) وهي قِراءَةُ اليَزِيدِيِّ عَنْ أبِي عُمَرَ. وقِيلَ: (الَّذِينَ) أيْ: الكُفّارُ الَّذِينَ يَدْعُونَ، ومَفْعُولُ (يَدْعُونَ) مَحْذُوفٌ أيْ: يَدْعُونَ الأصْنامَ. والعائِدُ عَلى (الَّذِينَ) الواوُ في (يَدْعُونَ) والواوُ في (لا يَسْتَجِيبُونَ) عائِدٌ في هَذا القَوْلِ عَلى مَفْعُولِ (يَدْعُونَ) المَحْذُوفِ، وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ عَلى (الَّذِينَ) . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كالنّاظِرِ إلى خَيالِهِ في الماءِ يُرِيدُ تَناوُلَهُ، فَكَذا المُحْتاجُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ في الِاحْتِياجِ إلَيْهِ خَيالُ الِاحْتِياجِ إلَيْهِ. وقالَ الضَّحّاكُ: كَمَن بَسَطَ يَدَيْهِ إلى الماءِ لِيَصِلَ إلَيْهِ بِلا اغْتِرافٍ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: أيْ كالقابِضِ عَلى الماءِ لَيْسَ عَلى شَيْءٍ، قالَ: والعَرَبُ تَضْرِبُ المَثَلَ في (p-٣٧٧)السّاعِي فِيما لا يُدْرِكُهُ بِالقابِضِ عَلى الماءِ، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
؎فَأصْبَحَتْ فِيما كانَ بَيْنِي وبَيْنَها ∗∗∗ مِنَ الوُدِّ مِثْلَ القابِضِ الماءِ في اليَدِ
(وقالَ آخَرُ)
؎وإنِّي وإيّاكم وشَوْقًا إلَيْكُمُ ∗∗∗ كَقابِضِ ماءٍ لَمْ تَسَعْهُ أنامِلُهُ
. وقِيلَ: شَبَّهُ الكُفّارَ في دُعائِهِمْ لِأصْنامِهِمْ عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ بِرَجُلٍ عَطْشانَ لا يَقْدِرُ عَلى الماءِ، جَلَسَ عَلى شَفِيرِ بِئْرٍ يَدْعُو الماءَ لِيَبُلَّ غَلَّتَهُ، فَلا هو يَبْلُغُ قَعْرَ البِئْرِ إلى الماءِ، ولا الماءُ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ لِأنَّهُ جَمادٌ ولا يَحِسُّ بِعَطَشِهِ ودُعائِهِ، كَذَلِكَ ما يَدْعُو الكُفّارُ مِنَ الأوْثانِ جَمادٌ لا يَحِسُّ بِدُعائِهِمْ، ولا يَسْتَطِيعُ إجابَتَهم، ولا يَقْدِرُ عَلى نَفْعِهِمْ، انْتَهى. والكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ أيْ: مِثْلَ اسْتِجابَةٍ، واسْتِجابَةٌ: مُضافَةٌ في التَّقْدِيرِ إلى باسِطٍ، وهي إضافَةُ المَصْدَرِ إلى المَفْعُولِ. وفاعِلُ المَصْدَرِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَإجابَةِ الماءِ مَن يَبْسُطُ كَفَّيْهِ إلَيْهِ، فَلَمّا حُذِفَ أُظْهِرَ في قَوْلِهِ: (إلى الماءِ) ولَوْ كانَ مَلْفُوظًا بِهِ لَعادَ الضَّمِيرُ إلَيْهِ، فَكانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: كَفَّيْهِ إلَيْهِ. هَذا الَّذِي يُقَدَّرُ مِن كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ في هَذا التَّشْبِيهِ، وتَبِعَهُ أبُو البَقاءِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومَعْنى الكَلامِ الَّذِي يَدْعُونَهُمُ الكُفّارُ إلى حَوائِجِهِمْ ومَنافِعِهِمْ لا يُجِيبُونَ، ثُمَّ مَثَّلَ تَعالى مِثالًا لِإجابَتِهِمْ بِالَّذِي يَبْسُطُ كَفَّيْهِ إلى الماءِ، ويُشِيرُ إلَيْهِ بِالإقْبالِ، فَهو لا يَبْلُغُ فَمَهُ أبَدًا، فَكَذَلِكَ إجابَةُ هَؤُلاءِ والِانْتِفاعُ بِهِمْ لا يَقَعُ، انْتَهى. وفاعِلُ (لِيَبْلُغَ) ضَمِيرُ (الماءِ) و(لِيَبْلُغَ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (باسِطِ) (وما هو) أيْ: وما الماءُ بِبالِغِهِ؛ أيْ: بِبالِغِ الفَمِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (هو) ضَمِيرُ الفَمِ، والهاءُ في (بِبالِغِهِ) لِلْماءِ؛ أيْ: وما الفَمُ بِبالِغِ الماءِ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما لا يَبْلُغُ الآخَرَ عَلى هَذِهِ الحالَةِ. وقُرِئَ: (كَباسِطٍ) كَفَّيْهِ بِتَنْوِينِ باسِطٍ.
﴿وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾ أيْ: في حَيْرَةٍ، أوْ في اضْمِحْلالٍ؛ لِأنَّهُ لا يُجْدِي شَيْئًا ولا يُفِيدُ، فَقَدْ ضَلَّ ذَلِكَ الدُّعاءُ عَنْهم كَما ضَلَّ المَدْعُونَ. قالَ تَعالى: ﴿أيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا﴾ [الأعراف: ٣٧] قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إلّا في ضَياعٍ لا مَنفَعَةَ فِيهِ؛ لِأنَّهم إنْ دَعَوُا اللَّهَ لَمْ يُجِبْهم، وإنْ دَعَوُا الآلِهَةَ لَمْ تَسْتَطِعْ إجابَتَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أصْواتُ الكافِرِينَ مَحْجُوبَةٌ عَنِ اللَّهِ فَلا يُسْمَعُ دُعاؤُهم.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["هُوَ ٱلَّذِی یُرِیكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا وَیُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ","وَیُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ مِنۡ خِیفَتِهِۦ وَیُرۡسِلُ ٱلصَّوَ ٰعِقَ فَیُصِیبُ بِهَا مَن یَشَاۤءُ وَهُمۡ یُجَـٰدِلُونَ فِی ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِیدُ ٱلۡمِحَالِ","لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا یَسۡتَجِیبُونَ لَهُم بِشَیۡءٍ إِلَّا كَبَـٰسِطِ كَفَّیۡهِ إِلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَـٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ إِلَّا فِی ضَلَـٰلࣲ"],"ayah":"هُوَ ٱلَّذِی یُرِیكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا وَیُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ"}