الباحث القرآني

﴿ولَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أخاهُ قالَ إنِّي أنا أخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿فَلَمّا جَهَّزَهم بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ ثُمَّ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ أيَّتُها العِيرُ إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ ﴿قالُوا وأقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ﴾ ﴿قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ المَلِكِ ولِمَن جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ﴾ ﴿قالُوا تاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ في الأرْضِ وما كُنّا سارِقِينَ﴾ ﴿قالُوا فَما جَزاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ﴾ ﴿قالُوا جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ ﴿فَبَدَأ بِأوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِن وِعاءِ أخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦] ﴿قالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ فَأسَرَّها يُوسُفُ في نَفْسِهِ ولَمْ يُبْدِها لَهم قالَ أنْتُمْ شَرٌّ مَكانًا واللَّهُ أعْلَمُ بِما تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ٧٧] ﴿قالُوا يا أيُّها العَزِيزُ إنَّ لَهُ أبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أحَدَنا مَكانَهُ إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: ٧٨] ﴿قالَ مَعاذَ اللَّهِ أنْ نَأْخُذَ إلّا مَن وجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إنّا إذًا لَظالِمُونَ﴾ [يوسف: ٧٩] ﴿فَلَمّا اسْتَيْأسُوا مِنهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهم ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّ أباكم قَدْ أخَذَ عَلَيْكم مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ومِن قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ في يُوسُفَ فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ حَتّى يَأْذَنَ لِي أبِي أوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وهو خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾ [يوسف: ٨٠] ﴿ارْجِعُوا إلى أبِيكم فَقُولُوا يا أبانا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وما شَهِدْنا إلّا بِما عَلِمْنا وما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ﴾ [يوسف: ٨١] ﴿واسْألِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها والعِيرَ الَّتِي أقْبَلْنا فِيها وإنّا لَصادِقُونَ﴾ [يوسف: ٨٢] ﴿قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ [يوسف: ٨٣] ﴿وتَوَلّى عَنْهم وقالَ يا أسَفى عَلى يُوسُفَ وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهو كَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٨٤] ﴿قالُوا تاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضًا أوْ تَكُونَ مِنَ الهالِكِينَ﴾ [يوسف: ٨٥] العِيرُ: الإبِلُ الَّتِي عَلَيْها الأحْمالُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها تَعِيرُ أيْ تَذْهَبُ وتَجِيءُ، وقِيلَ: هي قافِلَةُ الحَمِيرِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتّى قِيلَ لِكُلِّ قافِلَةٍ عِيرٌ، كَأنَّها جَمْعُ عَيْرٍ، وأصْلُها فُعْلٌ كَسَقْفٍ وسُقْفٍ، فُعِلَ بِهِ ما فُعِلَ بِبِيضٍ وعِينٍ، والعِيرُ مُؤَنَّثٌ، وقالُوا في الجَمْعِ: عِيَراتٌ، فَشَذُّوا في جَمْعِهِ بِالألِفِ والتّاءِ، وفي فَتْحِ يائِهِ وقالَ الشّاعِرُ: ؎غَشِيتُ دِيارَ الحَيِّ بِالبَكَراتِ فَعارِمَةٍ فَبَرْقَةِ العِيَراتِ قالَ الأعْلَمُ: هُنا مَواضِعُ الأعْيارِ، وهي الحَمِيرُ. الصُّواعُ: الصّاعُ، وفِيهِ لُغاتٌ تَأْتِي في القُرْآنِ، ويُؤَنَّثُ ويُذَكَّرُ. الوِعاءُ: الظَّرْفُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الشَّيْءُ وتُضَمُّ واوُهُ، ويَجُوزُ أنْ تُبْدَلَ واوُهُ هَمْزَةً. فَتِئَ: مِن أخَواتِ كانَ النّاقِصَةِ، قالَ أوْسُ بْنُ حَجَرٍ: ؎فَما فَتِئَتْ حَيٌّ كَأنَّ غُبارَها ∗∗∗ سُرادِقُ بُومٍ ذِي رِياحٍ تَرَفَّعُ وقالَ أيْضًا: ؎فَما فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وتَدَّعِي ∗∗∗ ويَلْحَقُ مِنها لاحِقٌ وتَقَطَّعُ (p-٣٢٧)ويُقالُ فِيها: فَتَأ عَلى وزْنِ ضَرَبَ، وأفْتَأ عَلى وزْنِ أكْرَمَ، وزَعَمَ ابْنُ مالِكٍ أنَّها تَكُونُ بِمَعْنى سَكَنَ وأطْفَأ، فَتَكُونُ تامَّةً، ورَدَدْنا عَلَيْهِ ذَلِكَ في شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وبَيَّنّا أنَّ ذَلِكَ تَصْحِيفٌ مِنهُ، صَحَّفَ الثّاءَ بِثَلاثٍ، بِالتّاءِ بِثِنْتَيْنِ مِن فَوْقُ، وشَرَحَها بِسَكَنٍ وأطْفَأ. الحَرَضُ: المُشْفِي عَلى الهَلاكِ يُقالُ: حَرِضَ فَهو حَرِضٌ بِكَسْرِ الرّاءِ، حَرَضًا بِفَتْحِها وهو المَصْدَرُ، ولِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ والمُفْرَدُ والجَمْعُ، وأحْرَضَهُ المَرَضُ فَهو مُحْرَضٌ قالَ: ؎أرى المَرْءَ كالأزْوادِ يُصْبِحُ مُحْرَضًا ∗∗∗ كَإحْراضِ بَكْرٍ في الدِّيارِ مَرِيضِ وقالَ الآخَرُ: ؎إنِّي امْرُؤٌ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأحْرَضَنِي ∗∗∗ حَتّى بَلِيتُ وحَتّى شَفَّنِي السَّقَمُ وقالَ: رَجُلٌ حُرُضٌ بِضَمَّتَيْنِ كَجُنُبٍ وشُلُلٍ. * * * ﴿ولَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أخاهُ قالَ إنِّي أنا أخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿فَلَمّا جَهَّزَهم بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ ثُمَّ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ أيَّتُها العِيرُ إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ ﴿قالُوا وأقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ﴾ ﴿قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ المَلِكِ ولِمَن جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ﴾ ﴿قالُوا تاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ في الأرْضِ وما كُنّا سارِقِينَ﴾ ﴿قالُوا فَما جَزاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ﴾ ﴿قالُوا جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ (p-٣٢٨)رُوِيَ أنَّهم قالُوا لَهُ: هَذا أخُونا قَدْ جِئْناكَ بِهِ، فَقالَ: أحْسَنْتُمْ وأصَبْتُمْ، وسَتَجِدُونَ ذَلِكَ عِنْدِي، فَأنْزَلَهم وأكْرَمَهم، ثُمَّ أضافَهم، وأجْلَسَ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنهم عَلى مائِدَةٍ، فَبَقِيَ بِنْيامِينُ وحْدَهُ فَبَكى وقالَ: لَوْ كانَ أخِي يُوسُفُ حَيًّا لَأجْلَسَنِي مَعَهُ، فَقالَ يُوسُفُ: بَقِيَ أخُوكم وحِيدًا، فَأجْلَسَهُ مَعَهُ عَلى مائِدَتِهِ، وجَعَلَ يُؤاكِلُهم وقالَ: أنْتُمْ عَشَرَةٌ، فَلْيَنْزِلْ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنكم بَيْتًا، وهَذا لا ثانِيَ لَهُ فَيَكُونُ مَعِي، فَباتَ يُوسُفُ يَضُمُّهُ إلَيْهِ ويَشُمُّ رائِحَتَهُ حَتّى أصْبَحَ، وسَألَهُ عَنْ ولَدِهِ فَقالَ: لِي عَشَرَةُ بَنِينَ اشْتَقَقْتُ أسْماءَهم مِنِ اسْمِ أخٍ لِي هَلَكَ، فَقالَ لَهُ: أتُحِبُّ أنْ أكُونَ أخاكَ بَدَلَ أخِيكَ الهالِكِ ؟ قالَ: مَن يَجِدُ أخًا مِثْلَكَ، ولَكِنْ لَمْ يَلِدْكَ يَعْقُوبُ ولا راحِيلُ، فَبَكى يُوسُفُ وقامَ إلَيْهِ وعانَقَهُ وقالَ لَهُ: أنا أخُوكَ يُوسُفُ فَلا تَبْتَئِسْ، فَلا تَحْزَنْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بِنا فِيما مَضى، فَإنَّ اللَّهَ قَدْ أحْسَنَ إلَيْنا وجَمَعَنا عَلى خَيْرٍ، ولا تُعْلِمُهم بِما أعْلَمْتُكَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: تَعَرَّفَ إلَيْهِ أنَّهُ أخُوهُ، وهو الظّاهِرُ، وهو قَوْلُ ابْنِ إسْحاقَ وغَيْرِهِ، أعْلَمَهُ أنَّهُ أخُوهُ حَقِيقَةً واسْتَكْتَمَهُ، وقالَ لَهُ: لا تُبالِي بِكُلِّ ما تَراهُ مِنَ المَكْرُوهِ في تَحَيُّلِي في أخْذِكَ مِنهم، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ يُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ بِقَوْلِهِ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إلى ما يَعْمَلُهُ فِتْيانُ يُوسُفَ مِن أمْرِ السِّقايَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، انْتَهى. ولا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ لِأنَّهُ لَوْ كانَ التَّرْكِيبُ بِما يَعْمَلُونَ بِغَيْرٍ كانُوا، لَأمْكَنَ عَلى بُعْدِهِ؛ لِأنَّ الكَلامَ إنَّما هو مَعَ إخْوَةِ يُوسُفَ، وأمّا ذِكْرُ فِتْيانِهِ فَبَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأنَّهم لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهم ذِكْرٌ إلّا في قَوْلِهِ: ﴿وقالَ لِفِتْيانِهِ﴾ [يوسف: ٦٢] وقَدْ حالَ بَيْنَهُما قَصَصٌ. (p-٣٢٩)واتَّسَقَ الكَلامُ مَعَ الإخْوَةِ اتِّساقًا لا يَنْبَغِي أنْ يَعْدِلَ عَنِ الضَّمِيرِ عائِدٌ إلَيْهِمْ، وأنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما كانَ يَلْقى مِنهم قَدِيمًا مِنَ الأذى، إذْ قَدْ أمِنَ مِن ذَلِكَ بِاجْتِماعِهِ بِأخِيهِ يُوسُفَ، وقالَ وهْبٌ: إنَّما أخْبَرَ أنَّهُ أخُوهُ في الوُدِّ مَقامَ أخِيهِ الذّاهِبِ، ولَمْ يَكْشِفْ إلَيْهِ الأمْرَ، بَلْ تَرَكَهُ تَجُوزُ عَلَيْهِ الحِيلَةُ كَسائِرِ إخْوَتِهِ، والظّاهِرُ أنَّ الَّذِي جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ هو يُوسُفُ، ويَظْهَرُ مِن حَيْثُ كَوْنِهِ مَلِكًا أنَّهُ لَمْ يُباشِرْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، بَلْ جَعَلَ غَيْرَهُ مِن فِتْيانِهِ، أوْ غَيْرِهِمْ أنْ يَجْعَلَها، وتَقَدَّمَ قَوْلُ وهْبٍ: أنَّهُ لَمْ يَكْشِفْ لَهُ أنَّهُ أخُوهُ وأنَّهُ تَرَكَهُ تَجُوزُ عَلَيْهِ الحِيلَةُ، ورُوِيَ أنَّهُ قالَ لِ يُوسُفَ: أنا لا أُفارِقُكَ قالَ: قَدْ عَلِمْتَ اغْتِمامَ والِدِي، فَإذا حَبَسْتُكَ ازْدادَ غَمُّهُ، ولا سَبِيلَ إلى ذَلِكَ إلّا أنْ أنْسُبَكَ إلى ما لا يُحْمَلُ، قالَ: لا أُبالِي، فافْعَلْ ما بَدا لَكَ، قالَ: فَإنِّي أدُسُّ صاعِي في رَحْلِكَ، ثُمَّ أُنادِي عَلَيْكَ بِأنَّكَ سَرَقْتَهُ لِيَتَهَيَّأ لِي رَدُّكَ بَعْدَ تَسْرِيحِكَ مَعَهم، قالَ: فافْعَلْ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ فِيما نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وجَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ، أمْهَلَهم حَتّى انْطَلَقُوا، ثُمَّ أذَّنَ، وفي نَقْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وجَعَلَ السِّقايَةَ بِزِيادَةِ واوٍ في جَعَلَ دُونَ الزِّيادَةِ الَّتِي زادَها الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿فِي رَحْلِ أخِيهِ﴾ فاحْتَمَلَ أنْ تَكُونَ الواوُ زائِدَةً عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ جَوابُ ”لَمّا“ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَقَدَها حافِظُها، كَما قِيلَ: إنَّما أُوحِيَ إلى يُوسُفَ أنْ يَجْعَلَ السِّقايَةَ فَقَطْ، ثُمَّ إنَّ حافِظَها فَقَدَها، فَنادى بِرَأْيِهِ عَلى ما ظَهَرَ لَهُ، ورَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وتَفْتِيشُ الأوْعِيَةِ يَرُدُّ هَذا القَوْلَ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ تَأْذِينَ المُؤَذِّنِ كانَ عَنْ أمْرِ يُوسُفَ. وقالَ السُّدِّيُّ: كانَ هَذا الجَعْلُ مِن غَيْرِ عِلْمٍ مِن بِنْيامِينَ، وما تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ بِعِلْمٍ مِنهُ. وقالَ الجُمْهُورُ وابْنُ عُمَرَ وابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ والضَّحّاكُ وابْنُ زَيْدٍ: السِّقايَةُ إناءٌ يَشْرَبُ بِهِ المَلِكُ، وبِهِ كانَ يُكالُ الطَّعامُ لِلنّاسِ، وقِيلَ: كانَ يُسْقى بِها المَلِكُ ثُمَّ جُعِلَتْ صاعًا يُكالُ بِهِ، وقِيلَ: كانَتِ الدَّوابُّ تَسْقِي بِها ويُكالُ بِها، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الصُّواعُ هو مِثْلُ المَكُّوكِ الفارِسِيِّ، وكانَ إناءُ يُوسُفَ الَّذِي يَشْرَبُ فِيهِ، وكانَ إلى الطُّولِ ماهِرٌ، قالَ: وحَدَّثَنِي ابْنُ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ لِلْعَبّاسِ مِثْلُهُ يَشْرَبُ بِهِ في الجاهِلِيَّةِ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ أيْضًا: الصُّواعُ المَكُّوكُ الفارِسِيُّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفاهُ، كانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الأعاجِمُ، والسِّقايَةُ مِن فِضَّةٍ أوْ ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ مُمَوَّهَةٍ بِالذَّهَبِ، أوْ نُحاسٍ، أوْ مِسْكٍ، أوْ كانَتْ مُرَصَّعَةً بِالجَواهِرِ. أقْوالٌ؛ أوَّلُها لِلْجُمْهُورِ، ولِعِزَّةِ الطَّعامِ في تِلْكَ الأعْوامِ قَصَرَ كَيْلُهُ عَلى ذَلِكَ الإناءِ. ﴿ثُمَّ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ أيْ: نادى مُنادٍ، أذَّنَ: أعْلَمَ، وآذَنَ أكْثَرَ الإعْلامَ، ومِنهُ المُؤَذِّنُ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ مِنهُ، و”ثُمَّ“ تَقْتَضِي مُهْلَةً بَيْنَ جَعْلِ السِّقايَةِ والتَّأْذِينِ، فَرُوِيَ أنَّهُ لَمّا فَصَلَتِ العِيرُ بِأوْقارِها وخَرَجُوا مِن مِصْرَ أُدْرَكُوا وقِيلَ لَهم ذَلِكَ، وقِيلَ: قَبْلَ الخُرُوجِ مِن مِصْرَ أُمِرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا، وأذَّنَ مُؤَذِّنٌ، والظّاهِرُ وقَوْلُ الجُمْهُورِ: أنَّ العِيرَ الإبِلُ، وقالَ مُجاهِدٌ: كانَتْ دَوابُّهم حَمِيرًا، ومُناداةُ العِيرِ والمُرادُ أصْحابُها كَقَوْلِهِ: يا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، ولِذَلِكَ جاءَ الخِطابُ: ﴿إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ فَرُوعِيَ المَحْذُوفُ، ولَمْ يُراعَ العِيرُ كَما رُوعِيَ في ارْكَبِي، وفي قَوْلِهِ: ﴿والعِيرَ الَّتِي أقْبَلْنا فِيها﴾ [يوسف: ٨٢] ويَجُوزُ أنْ تُطْلَقَ العِيرُ عَلى القافِلَةِ، أوِ الرُّفْقَةِ، فَلا يَكُونُ مِن مَجازِ الحَذْفِ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ هَذا التَّحَيُّلَ، ورَمْيَ أبْرِياءٍ بِالسَّرِقَةِ، وإدْخالَ الهَمِّ عَلى يَعْقُوبَ، بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ؛ لَمّا عَلِمَ تَعالى في ذَلِكَ مِنَ الصَّلاحِ، ولَمّا أرادَ مِن مِحْنَتِهِمْ بِذَلِكَ، ويُقَوِّيهِ قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: ٧٦] . وقِيلَ: لَمّا كانُوا باعُوا يُوسُفَ اسْتُجِيزَ أنْ يُقالَ لَهم هَذا، ونِسْبَةُ السَّرِقَةِ إلَيْهِمْ جَمِيعًا وإنْ كانَ الصُّواعُ إنَّما وُجِدَ في رَحْلِ واحِدٍ مِنهم كَما تَقُولُ: بَنُو فُلانٍ فَتَلُوا فُلانًا، والقاتِلُ واحِدٌ مِنهم (قالُوا) أيْ: إخْوَةُ يُوسُفَ (وأقْبَلُوا) جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ؛ أيْ: وقَدْ أقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، أيْ: عَلى طالِبِيِ السِّقايَةِ، أوْ عَلى المُؤَذِّنِ إنْ كانَ أُرِيدَ بِهِ جَمْعٌ، كَأنَّهُ جَعَلَ مُؤَذِّنِينَ يُنادُونَ، وساءَهم أنْ يُرْمَوْا بِهَذِهِ المَثْلَبَةِ، وقالُوا: ﴿ماذا تَفْقِدُونَ﴾ لِيَقَعَ التَّفْتِيشُ فَتَظْهَرُ بَراءَتُهم ؟ ولَمْ يَلُوذُوا بِالإنْكارِ مِن أوَّلُ، بَلْ سَألُوا كَمالَ الدَّعْوى رَجاءَ أنْ يَكُونَ فِيها ما (p-٣٣٠)تُبْطَلُ بِهِ فَلا يَحْتاجُ إلى خِصامٍ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ (ماذا) اسْتِفْهامًا في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ (تَفْقِدُونَ)، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ”ما“ وحْدَها اسْتِفْهامًا مُبْتَدَأً، و”ذا“ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي خَبَرٌ عَنْ ”ما“ و(تَفْقِدُونَ) صِلَةٌ لِذا، والعائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: تَفْقِدُونَهُ، وقَرَأ السُّلَمِيُّ: (تُفْقِدُونَ) بِضَمِّ التّاءِ مِن أفْقَدْتُهُ إذا وجَدْتَهُ فَقِيدًا نَحْوَ: أحَمَدْتُهُ إذا أصَبْتَهُ مَحْمُودًا، وضَعَّفَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو حاتِمٍ، وجْهُها ما ذَكَرْناهُ. وصُواعُ المَلِكِ هو المِكْيالُ، وهو السِّقايَةُ سَمّاهُ أوَّلًا بِإحْدى جِهَتَيْهِ، وآخِرًا بِالثّانِيَةِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: (صُواعَ) بِضَمِّ الصّادِ بَعْدَها واوٌ مَفْتُوحَةٌ بَعْدَها ألِفٌ بَعْدَها عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ والحَسَنُ وابْنُ جُبَيْرٍ فِيما نَقَلابْنُ عَطِيَّةَ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ كَسَرَ الصّادَ، وقَرَأ أبُو هُرَيْرَةَ ومُجاهِدٌ: (صاعَ) بِغَيْرِ واوٍ عَلى وزْنِ فَعَلَ، فالألِفُ فِيها بَدَلٌ مِنَ الواوِ المَفْتُوحَةِ، وقَرَأ أبُو رَجاءٍ: (صَوْعَ) عَلى وزْنِ قَوْسٍ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنِ بْنِ أبِي أرْطَبانَ: (صُوَعَ) بِضَمِّ الصّادِ، وكُلُّها لُغاتٌ في الصّاعِ، وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْرٍ فِيما نَقَلَ عَنْهُما صاحِبُ اللَوامِحِ: (صُواغَ) بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ عَلى وزْنِ غُرابٍ، وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ يَحْذِفُ الألِفَ ويُسَكِّنُ الواوَ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (صَوْغَ) مَصْدَرُ صاغٍ، وصُواغٌ وصَوْغٌ مُشْتَقّانِ مِنَ الصَّوْغِ مَصْدَرُ صاغَ يَصُوغُ، أُقِيما مَقامَ المَفْعُولِ بِمَعْنى مَصُوغِ المَلِكِ. (ولِمَن جاءَ بِهِ) أيْ: ولِمَن دَلَّ عَلى سارِقِهِ وفَضَحَهُ، وهَذا جَعْلٌ وأنابَهُ زَعِيمٌ مِن كَلامِ المُؤَذِّنِ، وأنا بِحَمْلِ البَعِيرِ كَفِيلٌ أُؤَدِّيهِ إلى ما جاءَ بِهِ، وأرادَ بِهِ وسَقَ بَعِيرٍ مِن طَعامٍ جَعْلًا لِمَن حَصَّلَهُ، قالُوا: تاللَّهِ، أقْسَمُوا بِالتّاءِ مِن حُرُوفِ القَسَمِ، لِأنَّها تَكُونُ فِيها التَّعَجُّبُ غالِبًا كَأنَّهم عَجِبُوا مِن رَمْيِهِمْ بِهَذا الأمْرِ، ورُوِيَ أنَّهم رَدُّوا البِضاعَةَ الَّتِي وجَدُوها في الطَّعامِ وتَحَرَّجُوا مِن أكْلِ الطَّعامِ بِلا ثَمَنٍ، وكانُوا قَدِ اشْتُهِرُوا بِمِصْرَ بِصَلاحٍ، وكانُوا يَجْعَلُونَ الأكَمَةَ في أفْواهِ إبِلِهِمْ لِئَلّا تَنالَ زُرُوعَ النّاسِ، فَأقْسَمُوا عَلى إثْباتِ شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوهُ مِنهم، وهو أنَّكم قَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ مَجِيئَنا لَمْ يَكُنْ لِفَسادٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفُوا الإخْبارَ عَنْ نَفْيِ صِفَةِ السَّرِقَةِ عَنْهم، وأنَّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ مِنهم قَطُّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في حَيِّزِ جَوابِ القَسَمِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: (لَقَدْ عَلِمْتُمْ)، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والتّاءُ في (تاللَّهِ) بَدَلٌ مِن واوٍ، كَما أُبْدِلَتْ في تُراثٍ، وفي التَّوْراةِ، والتُّخْمَةِ، ولا تَدْخُلُ التّاءُ في القَسَمِ إلّا في المَكْتُوبَةِ مِن بَيْنِ أسْماءِ اللَّهِ تَعالى وغَيْرِ ذَلِكَ لا تَقُولُ: تالرَّحْمَنِ، ولا تالرَّحِيمِ، انْتَهى. أمّا قَوْلُهُ: والتّاءُ في (تاللَّهِ) بَدَلٌ مِن واوٍ، فَهو قَوْلُ أكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ، وخالَفَهُمُ السُّهَيْلِيُّ فَزَعَمَ أنَّها أصْلٌ بِنَفْسِها ولَيْسَتْ بَدَلًا مِن واوٍ، وهو الصَّحِيحُ عَلى ما قَرَّرْناهُ في النَّحْوِ، وأمّا قَوْلُهُ: وفي التَّوْراةِ فَعَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ إذْ زَعَمُوا أنَّ الأصْلَ، ووَراهُ مِن ورى الزَّنْدِ. ومِنَ النَّحْوِيِّينَ مَن زَعَمَ أنَّ التّاءَ زائِدَةٌ، وذَلِكَ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ، وأمّا قَوْلُهُ: ولا تَدْخُلُ إلى آخِرِهِ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ العَرَبِ دُخُولَها عَلى الرَّبِّ، وعَلى الرَّحْمَنِ، وعَلى حَياتِكَ، قالُوا: تَرَبِّ الكَعْبَةِ، وتالرَّحْمَنِ، وتَحِيّاتِكَ، والخِطابُ في (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) لِطالِبِي الصُّواعِ، والضَّمِيرُ في (جَزاؤُهُ) عائِدٌ عَلى السّارِقِ، فَما جَزاءُ السّارِقِ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في قَوْلِكم: ﴿وما كُنّا سارِقِينَ﴾ لَهُ ؟ قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَما جَزاؤُهُ) الضَّمِيرُ (p-٣٣١)لِلصُّواعِ أيْ: فَما جَزاءُ سَرِقَتِهِ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في جُحُودِكم وادِّعائِكُمُ البَراءَةَ مِنهُ، انْتَهى. وقَوْلُهُ: هو الظّاهِرُ لِاتِّحادِ الضَّمائِرِ في قَوْلِهِ: ﴿قالُوا جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ﴾ إذِ التَّقْدِيرُ إذْ ذاكَ قالَ: جَزاءُ الصّاعِ؛ أيْ: سَرِقَتُهُ مَن وُجِدَ الصّاعُ في رَحْلِهِ، وقَوْلُهم: ﴿جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ﴾ كَلامُ مَن لَمْ يَشُكَّ أنَّهم بُرَآءُ مِمّا رُمُوا بِهِ، ولِاعْتِقادِهِمُ البَراءَةَ عَلَّقُوا الحُكْمَ عَلى وِجْدانِ الصّاعِ لا عَلى سَرِقَتِهِ، فَكَأنَّهم يَقُولُونَ: لا يُمْكِنُ أنْ نَسْرِقَ، لا يُمْكِنُ أنْ يُوجَدَ الصّاعُ في رِحالِنا، وكانَ في دِينِ يَعْقُوبَ اسْتِعْبادُ السّارِقِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُنَّةٌ، وكانَ في دِينِ مِصْرَ أنْ يُضْرَبَ ويُضَعَّفَ عَلَيْهِ الغُرْمُ، ولِذَلِكَ أجابُوا عَلى شَرِيعَتِهِمْ، وجَوَّزُوا، في إعْرابِ هَذا الكَلامِ وُجُوهٌ؛ أحَدُها: أنْ يَكُونَ (جَزاؤُهُ) مُبْتَدَأً، و(مَن) شَرْطِيَّةً أوْ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً ثانٍ (فَهو جَزاؤُهُ) جَوابُ الشَّرْطِ، أوْ خَبَرُ ”ما“ المَوْصُولَةِ، والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: (مَن وُجِدَ) إلى آخِرِهِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ، والضَّمِيرُ في قالُوا: (جَزاؤُهُ) لِلسّارِقِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا لا يَصِحُّ لِخُلُوِّ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرَ (جَزاؤُهُ) مِن رابِطٍ، الثّانِي: أنَّ المَعْنى قالُوا: جَزاءُ سَرِقَتِهِ، ويَكُونُ (جَزاؤُهُ) مُبْتَدَأً، والجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ كَما هي خَبَرُهُ عَلى إقامَةِ الظّاهِرِ فِيها مَقامُ المُضْمَرِ، والأصْلُ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ، فَهو هو. فَمَوْضِعُ الجَزاءِ مَوْضِعُ هو، كَما تَقُولُ لِصاحِبِكَ: مَن أخُو زَيْدٍ ؟ فَتَقُولُ: أخُوهُ مَن يَقْعُدُ إلى جَنْبِهِ، فَهو هو يَرْجِعُ الضَّمِيرُ الأوَّلُ إلى مَن، والثّانِي إلى الأخِ، ثُمَّ تَقُولُ: فَهو أخُوهُ مُقِيمًا لِلْمُظْهَرِ مَقامَ المُضْمَرِ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. ووَضْعُ الظّاهِرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ لِلرَّبْطِ إنَّما هو فَصِيحٌ في مَواضِعِ التَّفْخِيمِ والتَّهْوِيلِ، وغَيْرُ فَصِيحٍ فِيما سِوى ذَلِكَ نَحْوَ: زَيْدٌ قامَ زَيْدٌ، ويُنَزَّهُ القُرْآنُ عَنْهُ، قالَ سِيبَوَيْهِ: لَوْ قُلْتَ كانَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا زَيْدٌ، لَمْ يَكُنْ ضِدَّ الكَلامِ، وكانَ هاهُنا ضَعِيفًا، ولَمْ يَكُنْ كَقَوْلِكَ: ما زَيْدٌ مُنْطَلِقًا هو، لِأنَّكَ قَدِ اسْتَغْنَيْتَ عَنْ إظْهارِهِ، وإنَّما يَنْبَغِي لَكَ أنْ تُضْمِرَ. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ (جَزاؤُهُ) خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيِ: المَسْئُولُ عَنْهُ جَزاؤُهُ، ثُمَّ أفْتُوا بِقَوْلِهِمْ: ﴿مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ﴾ كَما تَقُولُ: مَن يَسْتَفْتِي في جَزاءِ صَيْدِ الحَرَمِ جَزاءُ صَيْدِ الحَرَمِ، ثُمَّ تَقُولُ: ﴿ومَن قَتَلَهُ مِنكم مُتَعَمِّدًا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ [المائدة: ٩٥] قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو مُتَكَلِّفٌ؛ إذْ تَصِيرُ الجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: المَسْئُولُ عَنْهُ جَزاؤُهُ، عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ فائِدَةٍ، إذْ قَدْ عُلِمَ مِن قَوْلِهِ: (فَما جَزاؤُهُ) أنَّ الشَّيْءَ المَسْئُولَ عَنْهُ جَزاءُ سَرِقَتِهِ، فَأيُّ فائِدَةٍ في نُطْقِهِمْ بِذَلِكَ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في المِثالِ الَّذِي مُثِّلَ بِهِ مِن قَوْلِ المُسْتَفْتِي. الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ (جَزاؤُهُ) مُبْتَدَأً؛ أيْ: جَزاءُ سَرِقَةِ الصّاعِ، والخَبَرُ ﴿مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ﴾ أيْ: أُخِذَ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ. وقَوْلُهم: (فَهو جَزاؤُهُ) تَقْرِيرٌ لِحُكْمٍ؛ أيْ: فَأخْذُ السّارِقِ نَفْسِهِ هو جَزاؤُهُ لا غَيْرَ، كَقَوْلِكَ: حَقُّ زَيْدٍ أنْ يُكْسى ويُطْعَمَ ويُنْعَمَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ جَزاؤُهُ، أوْ فَهو حَقُّهُ، لِتُقَرِّرَ ما ذَكَرْتُهُ مِنِ اسْتِحْقاقِهِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقالَ مَعْناهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إلّا أنَّهُ جَعَلَ القَوْلَ الواحِدَ قَوْلَيْنِ قالَ: ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ (مَن) خَبَرًا عَلى أنَّ المَعْنى جَزاءُ السّارِقِ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ عائِدٌ عَلى ”مَن“ ويَكُونُ قَوْلُهُ: (فَهو جَزاؤُهُ) زِيادَةَ بَيانٍ وتَأْكِيدٍ، ثُمَّ قالَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ جَزاؤُهُ اسْتِرْقاقُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ بِقَوْلِهِ: (فَهو جَزاؤُهُ) وهَذا القَوْلُ هو الَّذِي قَبْلَهُ، غَيْرَ أنَّهُ أبْرَزَ المُضافَ المَحْذُوفَ في قَوْلِهِ: اسْتِرْقاقُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ، وفِيما قَبْلَهُ لا بُدَّ مِن تَقْدِيرِهِ؛ لِأنَّ الذّاتَ لا تَكُونُ خَبَرًا عَنِ المَصْدَرِ، فالتَّقْدِيرُ في القَوْلِ قَبْلَهُ: جَزاؤُهُ أخْذُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ، أوِ اسْتِرْقاقُ هَذا لا بُدَّ مِنهُ عَلى هَذا الإعْرابِ، وهَذا الوَجْهُ هو أحْسَنُ الوُجُوهِ، وأبْعَدُها مِنَ التَّكَلُّفِ. (كَذَلِكَ) أيْ: مِثْلُ الجَزاءِ، وهو الِاسْتِرْقاقُ ﴿نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ أيْ: بِالسَّرِقَةِ وهو دِينُنا وسُنَّتُنا في أهْلِ السَّرِقَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب