الباحث القرآني

﴿ياصاحِبَيِ السِّجْنِ أأرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أسْماءً سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ إنِ الحُكْمُ إلّا لِلَّهِ أمَرَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿ياصاحِبَيِ﴾ لَمّا ذَكَرَ ما هو عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الحَنِيفِيِّ تَلَطَّفَ في حُسْنِ الِاسْتِدْلالِ عَلى فَسادِ ما عَلَيْهِ قَوْمُ الفَتَيَيْنِ مِن عِبادَةِ الأصْنامِ، فَناداهُما باسِمِ الصُّحْبَةِ في المَكانِ الشّاقِّ الَّذِي تَخْلُصُ فِيهِ المَوَدَّةُ وتَتَمَخَّضُ فِيهِ النَّصِيحَةُ، واحْتَمَلَ قَوْلُهُ: ﴿ياصاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الإضافَةِ إلى الظَّرْفِ، والمَعْنى: يا صاحِبَيَّ في السِّجْنِ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مِن إضافَتِهِ إلى شِبْهِ المَفْعُولِ كَأنَّهُ قِيلَ: يا ساكِنَيِ السِّجْنِ، كَقَوْلِهِ ﴿أصْحابُ النّارِ﴾ [البقرة: ٣٩]، ﴿وأصْحابُ الجَنَّةِ﴾ [الحشر: ٢٠] ثُمَّ أوْرَدَ الدَّلِيلَ عَلى بُطْلانِ مِلَّةِ قَوْمِهِما بِقَوْلِهِ: ﴿أأرْبابٌ﴾ فَأبْرَزَ ذَلِكَ في صُورَةِ الِاسْتِفْهامِ حَتّى لا تَنْفِرَ طِباعُهُما مِنَ المُفاجَأةِ بِالدَّلِيلِ مِن غَيْرِ اسْتِفْهامٍ، وهَكَذا الوَجْهُ في مُحاجَّةِ الجاهِلِ أنْ يُؤْخَذَ بِدَرَجَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الِاحْتِجاجِ يَقْبَلُها، فَإذا قَبِلَها لَزِمَتْهُ عَنْها دَرَجَةٌ أُخْرى فَوْقَها، ثُمَّ كَذَلِكَ إلى أنْ يَصِلَ إلى الإذْعانِ بِالحَقِّ، وقابَلَ تَفَرُّقَ أرْبابِهِمْ بِالواحِدِ، وجاءَ بِصِفَةِ القَهّارِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ تَعالى لَهُ هَذا الوَصْفُ الَّذِي مَعْناهُ الغَلَبَةُ والقُدْرَةُ التّامَّةُ، وإعْلامًا بِعُرُوِّ أصْنامِهِمْ عَنْ هَذا الوَصْفِ الَّذِي لا يَنْبَغِي أنْ يُعْبَدَ إلّا المُتَّصِفُ بِهِ، وهم عالِمُونَ بِأنَّ تِلْكَ الأصْنامَ جَمادٌ، والمَعْنى: أعِبادَةُ أرْبابٍ مُتَكاثِرَةٍ في العَدَدِ خَيْرٌ أمْ عِبادَةُ واحِدٍ قَهّارٍ وهو اللَّهُ ؟ فَمِن ضَرُورَةِ العاقِلِ يَرى خَيْرِيَّةَ عِبادَتِهِ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بَعْدَ الِاسْتِفْهامِ إلى إخْبارٍ عَنْ حَقِيقَةِ ما يَعْبُدُونَ، والخِطابُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما تَعْبُدُونَ﴾ لَهُما ولِقَوْمِهِما مِن أهْلٍ، ومَعْنى ﴿إلّا أسْماءً﴾ أيْ: ألْفاظًا أحْدَثْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم فَهي فارِغَةٌ لا مُسَمَّياتِ تَحْتَها، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في الأعْرافِ، ﴿إنِ الحُكْمُ إلّا لِلَّهِ﴾ أيْ: لَيْسَ لَكم ولا لِأصْنامِكم حُكْمٌ، ما الحُكْمُ في العِبادَةِ والدِّينِ إلّا لِلَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ ما حَكَمَ بِهِ فَقالَ: أمَرَ أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ، ومَعْنى ﴿القَيِّمُ﴾ الثّابِتُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ البَراهِينُ. ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ بِجَهالاتِهِمْ وغَلَبَةِ الكُفْرِ عَلَيْهِمْ. ﴿ياصاحِبَيِ السِّجْنِ أمّا أحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وأمّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ﴾ ﴿وقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أنَّهُ ناجٍ مِنهُما اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (p-٣١١)لَمّا ألْقى إلَيْهِما ما كانَ أهَمَّ وهو أمْرُ الدِّينِ رَجاءً في إيمانِهِما، ناداهُما ثانِيًا لِتَجْتَمِعَ أنْفُسُهُما لِسَماعِ الجَوابِ، فَرُوِيَ أنَّهُ قالَ: لِبُنُو: أمّا أنْتَ فَتَعُودُ إلى مَرْتَبَتِكَ وسِقايَةَ رَبِّكَ، وما رَأيْتَ مِنَ الكَرامَةِ وحُسْنِها هو المَلِكُ وحُسْنُ حالِكَ عِنْدَهُ، وأمّا القُضْبانُ الثَّلاثَةُ فَإنَّها ثَلاثَةُ أيّامٍ تَمْضِي في السَّجْنِ ثُمَّ تَخْرُجُ وتَعُودُ إلى ما كُنْتَ عَلَيْهِ، وقالَ لِمُلَحِّبَ: أمّا أنْتَ فَما رَأيْتَ مِنَ السُّلالِ ثَلاثَةَ أيّامٍ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُصْلَبُ، فَرُوِيَ أنَّهُما قالا: ما رَأيْنا شَيْئًا، وإنَّما تَحالَمْنا لِنُجَرِّبَكَ، ورُوِيَ أنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إلّا الَّذِي حَدَّثَهُ بِالصَّلْبِ، ورُوِيَ أنَّهُما رَأيا ثُمَّ أنْكَرا، وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ﴾ مِن سَقى، وفِرْقَةٌ: (فَيُسْقِي) مِن أسْقى، وهُما لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، وقُرِئَ في السَّبْعَةِ: نَسْقِيكم ونُسْقِيكم، وقالَ صاحِبُ اللَوامِحِ: سَقى وأسْقى بِمَعْنًى واحِدٍ في اللُّغَةِ، والمَعْرُوفُ أنَّ سَقاهُ ناوَلَهُ لِيَشْرَبَ، وأسْقاهُ جَعَلَ لَهُ سُقْيًا، ونُسِبَ ضَمُّ الفاءِ لِعِكْرِمَةَ والجَحْدَرِيِّ، ومَعْنى (رَبَّهُ) سَيِّدَهُ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَأ عِكْرِمَةُ والجَحْدَرِيُّ: (فَيُسْقى رَبُّهُ خَمْرًا) بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ القافِ؛ أيْ: ما يَرْوِيهِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَرَأ عِكْرِمَةُ (فَيُسْقى رَبُّهُ) فَيُسْقى ما يُرْوى بِهِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ أخْبَرَهُما يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَنْ غَيْبِ عِلْمِهِ مِن قِبَلِ اللَّهِ أنَّ الأمْرَ قَدْ قُضِيَ ووافَقَ القَدَرَ، وسَواءٌ كانَ ذَلِكَ مِنكُما حُلْمٌ أوْ تَحالُمٌ، وأفْرَدَ الأمْرَ وإنْ كانَ أمْرُ هَذا؛ لِأنَّ المَقْصُودَ إنَّما هو عاقِبَةُ أمْرِهِما الَّذِي أُدْخِلا بِهِ السِّجْنَ، هو اتِّهامُ المَلِكِ إيّاهُما بِسَمِّهِ، فَرَأيا ما رَأيا، أوْ تَحالَما بِذَلِكَ، فَقُضِيَتْ وأُمْضِيَتْ تِلْكَ العاقِبَةُ مِن نَجاةِ أحَدِهِما وهَلاكِ الآخَرِ، و(قالَ) أيْ: يُوسُفُ ﴿لِلَّذِي ظَنَّ﴾ أيْ: أيْقَنَ هو - أيْ: يُوسُفُ - أنَّهُ ناجٍ وهو السّاقِي، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ظَنَّ عَلى بابِهِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى ”الَّذِي“ وهو السّاقِي؛ أيْ: لَمّا أخْبَرَهُ يُوسُفُ بِما أخْبَرَهُ، تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أنَّهُ يَنْجُو، ويَبْعُدُ أنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلى بابِهِ، ويَكُونُ مُسْنَدًا إلى يُوسُفَ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ قَتادَةُ والزَّمَخْشَرِيُّ، قالَ قَتادَةُ: الظَّنُّ هُنا عَلى بابِهِ، لِأنَّ عِبارَةَ الرُّؤْيا ظَنٌّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الظّانُّ هو يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إنْ كانَ تَأْوِيلُهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهادِ فَيَبْعُدُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُضِيَ الأمْرُ﴾، فِيهِ تَحَتُّمُ ما جَرى بِهِ القَدَرُ وإمْضاؤُهُ، فَيَظْهَرُ أنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الوَحْيِ، إلّا إنْ حُمِلَ ﴿قُضِيَ الأمْرُ﴾ عَلى قُضِيَ كَلامِي، وقُلْتُ ما عِنْدِي، فَيَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى يُوسُفَ، فالمَعْنى أنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ لِساقِي المَلِكِ حِينَ عَلِمَ أنَّهُ سَيَعُودُ إلى حالَتِهِ الأُولى مَعَ المَلِكِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ المَلِكِ؛ أيْ: بِعِلْمِي ومَكانَتِي وما أنا عَلَيْهِ مِمّا آتانِي اللَّهُ، أوِ اذْكُرْنِي بِمَظْلَمَتِي وما امْتُحِنْتُ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وهَذا مِن يُوسُفَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعانَةِ والتَّعاوُنِ في تَفْرِيجِ كَرْبِهِ، وجَعْلِهِ بِإذْنِ اللَّهِ وتَقْدِيرِهِ سَبَبًا لِلْخَلاصِ كَما جاءَ عَنْ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٥٢] وكَما كانَ الرَّسُولُ يَطْلُبُ مَن يَحْرُسُهُ، والَّذِي أخْتارُهُ أنَّ يُوسُفَ إنَّما قالَ لِساقِي المَلِكِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لِيَتَوَصَّلَ إلى هِدايَتِهِ وإيمانِهِ بِاللَّهِ، كَما تَوَصَّلَ إلى إيضاحِ الحَقِّ لِلسّاقِي ورَفِيقِهِ، والضَّمِيرُ في ﴿فَأنْساهُ﴾ عائِدٌ عَلى السّاقِي، ومَعْنى ﴿ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ ذِكْرَ يُوسُفَ لِرَبِّهِ، والإضافَةُ تَكُونُ بِأدْنى مُلابَسَةٍ، وإنْساءُ الشَّيْطانِ لَهُ بِما يُوَسْوِسُ إلَيْهِ مِنِ اشْتِغالِهِ حَتّى يُذْهَلَ عَمّا قالَ لَهُ يُوسُفُ، لَمّا أرادَ اللَّهُ بِيُوسُفَ مِن إجْزالِ أجْرِهِ بِطُولِ مَقامِهِ في السِّجْنِ، و﴿بِضْعَ سِنِينَ﴾ مُجْمَلٌ، فَقِيلَ: سَبْعٌ، وقِيلَ: اثْنا عَشَرَ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلَبِثَ في السِّجْنِ﴾ إخْبارٌ عَنْ مُدَّةِ مَقامِهِ في السِّجْنِ، مُنْذُ سُجِنَ إلى أنْ أُخْرِجَ، وقِيلَ: هَذا اللَّبْثُ هو ما بَعْدَ خُرُوجِ الفَتَيَيْنِ وذَلِكَ سَبْعٌ، وقِيلَ: سَنَتانِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (أنْساهُ) عائِدٌ عَلى يُوسُفَ، ورَتَّبُوا عَلى ذَلِكَ أخْبارًا لا تَلِيقُ نِسْبَتُها إلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب