الباحث القرآني

﴿قالُوا يا أبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ وإنّا لَهُ لَناصِحُونَ﴾ ﴿أرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا يَرْتَعْ ويَلْعَبْ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ ﴿قالَ إنِّي لَيَحْزُنُنِي أنْ تَذْهَبُوا بِهِ وأخافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وأنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ﴾ ﴿قالُوا لَئِنْ أكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ إنّا إذًا لَخاسِرُونَ﴾ لَمّا تَقَرَّرَ في أذْهانِهِمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ يُوسُفَ (p-٢٨٥)وأبِيهِ، أعْمَلُوا الحِيلَةَ عَلى يَعْقُوبَ وتَلَطَّفُوا في إخْراجِهِ مَعَهم، وذَكَرُوا نُصْحَهم لَهُ وما في إرْسالِهِ مَعَهم مِنِ انْشِراحِ صَدْرِهِ بِالِارْتِعاءِ واللَّعِبِ، إذْ هو مِمّا يُشْرِحُ الصِّبْيانَ، وذَكَرُوا حِفْظَهم لَهُ مِمّا يَسُوءُهُ، وفي قَوْلِهِمْ: ﴿ما لَكَ لا تَأْمَنّا﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهم تَقَدَّمَ مِنهم سُؤالٌ في أنْ يَخْرُجَ مَعَهم، وذَكَرُوا سَبَبَ الأمْنِ وهو النُّصْحُ؛ أيْ: لِمَ لا تَأْمَنّا عَلَيْهِ وحالَتُنا هَذِهِ ؟ والنُّصْحُ دَلِيلٌ عَلى الأمانَةِ، ولِهَذا قُرِنا في قَوْلِهِ: ﴿ناصِحٌ أمِينٌ﴾ [الأعراف: ٦٨]، وكانَ قَدْ أحَسَّ مِنهم قَبْلُ ما أوْجَبَ أنْ لا يَأْمَنَهم عَلَيْهِ، و﴿لا تَأْمَنّا﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، وهَذا الِاسْتِفْهامُ صَحِبَهُ التَّعَجُّبُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وأبُو جَعْفَرٍ والزُّهْرِيُّ وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: بِإدْغامِ نُونِ (تَأْمَنَ) في نُونِ الضَّمِيرِ مِن غَيْرِ إشْمامٍ ومَجِيئِهِ بَعْدَ مالِكٍ، والمَعْنى: يُرْشِدُ إلى أنَّهُ نَفْيٌ لا نَهْيٌ، ولَيْسَ كَقَوْلِهِمْ: ما أحْسَنَنا في التَّعَجُّبِ؛ لِأنَّهُ لَوْ أُدْغِمَ لالتَبَسَ بِالنَّفْيِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِالإدْغامِ والإشْمامِ لِلضَّمِّ، وعَنْهم إخْفاءُ الحَرَكَةِ، فَلا يَكُونُ إدْغامًا مَحْضًا، وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ: بِضَمِّ المِيمِ، فَتَكُونُ الضَّمَّةُ مَنقُولَةً إلى المِيمِ مِنَ النُّونِ الأُولى بَعْدَ سَلْبِ المِيمِ حَرَكَتَها، وإدْغامِ النُّونِ في النُّونِ، وقَرَأ أُبَيٌّ والحَسَنُ وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ والأعْمَشُ: (لا تَأْمُنُنا) بِالإظْهارِ وضَمِّ النُّونِ عَلى الأصْلِ - وخَطُّ المُصْحَفِ بِنُونٍ واحِدَةٍ - وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ وأبُو رَزِينٍ: (لا يَتْمَنّا) عَلى لُغَةِ تَمِيمٍ، وسَهَّلَ الهَمْزَةَ بَعْدَ الكَسْرَةِ ابْنُ وثّابٍ، وفي لَفْظَةِ: (أرْسِلْهُ) دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ كانَ يُمْسِكُهُ ويَصْحَبُهُ دائِمًا، وانْتَصَبَ (غَدًا) عَلى الظَّرْفِ، وهو ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ يُطْلَقُ عَلى اليَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَكَ، وعَلى الزَّمَنِ المُسْتَقْبَلِ مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِاليَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَكَ، وأصْلُهُ: غُدُوٌّ، فَحُذِفَتْ لامُهُ وقَدْ جاءَ تامًّا، وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿يَرْتَعْ ويَلْعَبْ﴾ بِالياءِ والجَزْمِ، والِابْنانِ وأبُو عُمَرَ، وبِالنُّونِ والجَزْمِ وكَسْرِ العَيْنِ الحَرَمِيّانِ، واخْتَلَفَ عَنْ قُنْبُلٍ في إثْباتِ الياءِ وحَذْفِها، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: (ويَلْعَبْ) بِالياءِ، وهي قِراءَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وقَرَأ العَلاءُ بْنُ سَيابَةَ: (يَرْتَعِ) بِالياءِ وكَسْرِ العَيْنِ مَجْزُومًا مَحْذُوفَ اللّامِ، (ويَلْعَبُ) بِالياءِ وضَمِّ الباءِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: وهو يَلْعَبُ، وقَرَأ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ مِنِ ارْتَعْنا (ونَلْعَبْ) بِالنُّونِ، وكَذَلِكَ أبُو رَجاءٍ، إلّا أنَّهُ بِالياءِ فِيهِما ﴿يَرْتَعْ ويَلْعَبْ﴾، والقِراءَتانِ عَلى حَذْفِ المَفْعُولِ؛ أيْ: يَرْتَعِ المَواشِي أوْ غَيْرِها. وقَرَأ النَّخَعِيُّ: (نَرْتَعْ) بِنُونٍ، (ويَلْعَبْ) بِياءٍ، بِإسْنادِ اللَّعِبِ إلى يُوسُفَ وحْدَهُ لِصِباهُ، وجاءَ كَذَلِكَ عَنْ أبِي إسْحاقَ ويَعْقُوبَ، وكُلُّ هَذِهِ القِراآتِ الفِعْلانِ فِيها مَبْنِيّانِ لِلْفاعِلِ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (يُرْتَعْ ويُلْعَبْ) بِضَمِّ الياءَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ويُخْرِجُها عَلى أنَّهُ أُضْمِرَ المَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ وهو ضَمِيرُ غَدٍ، وكانَ أصْلُهُ يَرْتَعْ فِيهِ ويَلْعَبْ فِيهِ، ثُمَّ حُذِفَ واتَّسَعَ، فَعُدِّيَ الفِعْلُ لِلضَّمِيرِ، فَكانَ التَّقْدِيرُ: يَرْتَعْهُ ويَلْعَبْهُ، ثُمَّ بَناهُ لِلْمَفْعُولِ فاسْتَكَنَ الضَّمِيرُ الَّذِي كانَ مَنصُوبًا لِكَوْنِهِ نابَ عَنِ الفاعِلِ، واللَّعِبُ هُنا هو الِاسْتِباقُ والِانْتِضالُ، فَيُدَرَّبُونَ بِذَلِكَ لِقِتالِ العَدُوِّ، سَمَّوْهُ لَعِبًا لِأنَّهُ بِصُورَةِ اللَّعِبِ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلَّهْوِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: (إنَّنا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) ولَوْ كانَ لَعِبَ لَهْوٍ ما أقَرَّهم عَلَيْهِ يَعْقُوبُ. ومَن كَسَرَ العَيْنَ مِن (يَرْتَعِ) فَهو يَفْتَعِلُ، قالَ مُجاهِدٌ: هي مِنَ المُراعاةِ أيْ: يُراعِي بَعْضُنا بَعْضًا ويَحْرُسُهُ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِن رَعْيِ الإبِلِ أيْ: يَتَدَرَّبْ في الرَّعْيِ، وحِفْظِ المالِ، أوْ مِن رَعْيِ النَّباتِ والكَلَأِ، أيْ: يَرْتَعِ؛ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: مَواشِينا، ومَن أثْبَتَ الياءَ. فَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي قِراءَةٌ ضَعِيفَةٌ لا تَجُوزُ إلّا في الشِّعْرِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎ألَمْ يَأْتِيكَ والأنْباءُ تَنْمِي بِما لاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيادٍ انْتَهى. وقِيلَ: تَقْدِيرُ حَذْفِ الحَرَكَةِ في الياءِ لُغَةٌ، فَعَلى هَذا لا يَكُونُ ضَرُورَةً، ومَن قَرَأ بِسُكُونِ العَيْنِ فالمَعْنى: نَقُمْ في خِصْبٍ وسَعَةٍ، ويَعْنُونَ مِنَ الأكْلِ والشُّرْبِ، ﴿وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، والعامِلُ فِيهِ الأمْرُ أوِ الجَوابُ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ مِن بابِ الإعْمالِ؛ لِأنَّ الحالَ لا تُضْمَرُ، وبِأنَّ الإعْمالَ لا بُدَّ فِيهِ مِنَ الإضْمارِ إذا أُعْمِلَ الأوَّلُ، ثُمَّ اعْتَذَرَ لَهم يَعْقُوبُ بِشَيْئَيْنِ: أحَدُهُما: عاجِلٌ في الحالِ، وهو ما يَلْحَقُهُ مِنَ الحُزْنِ (p-٢٨٦)لِمُفارَقَتِهِ وكانَ لا يَصْبِرُ عَنْهُ، والثّانِي: خَوْفُهُ عَلَيْهِ مِنَ الذِّئْبِ إنْ غَفَلُوا عَنْهُ بِرِعْيِهِمْ ولَعِبِهِمْ، أوْ بِقِلَّةِ اهْتِمامِهِمْ بِحِفْظِهِ وعِنايَتِهِمْ، فَيَأْكُلُهُ ويَحْزَنُ عَلَيْهِ الحُزْنَ المُؤَبَّدَ، وخَصَّ الذِّئْبَ؛ لِأنَّهُ كانَ السَّبُعَ الغالِبَ عَلى قُطْرِهِ، أوْ لِصِغَرِ يُوسُفَ فَخافَ عَلَيْهِ هَذا السَّبُعَ الحَقِيرَ، وكانَ تَنْبِيهًا عَلى خَوْفِهِ عَلَيْهِ ما هو أعْظَمُ افْتِرِاسًا، ولِحَقارَةِ الذِّئْبِ خَصَّهُ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الفَزارِيُّ في كَوْنِهِ يَخْشاهُ لَمّا بَلَغَ مِنَ السِّنِّ في قَوْلِهِ: ؎والذِّئْبُ أخْشاهُ إنْ مَرَرْتُ بِهِ ∗∗∗ وحْدِي وأخْشى الرِّياحَ والمَطَرا وكانَ يَعْقُوبُ بِقَوْلِهِ: ﴿وأخافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ لَقَّنَهم ما يَقُولُونَ مِنَ العُذْرِ إذا جاءُوا ولَيْسَ مَعَهم يُوسُفُ، فَلُقِّنُوا ذَلِكَ وجَعَلُوهُ عُدَّةً لِلْجَوابِ، وتَقَدَّمَ خِلافُ القُرّاءِ في ”يَحْزَنُ“ . وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وابْنُ هُرْمُزَ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: (لَيَحْزُنِّي) بِتَشْدِيدِ النُّونِ، والجُمْهُورُ بِالفَكِّ، و﴿لَيَحْزُنُنِي﴾ مُضارِعٌ مُسْتَقْبَلٌ لا حالٌ؛ لِأنَّ المُضارِعَ إذا أُسْنِدَ إلى مُتَوَقَّعٍ تَخَلَّصَ لِلِاسْتِقْبالِ، لِأنَّ ذَلِكَ المُتَوَقَّعَ مُسْتَقْبَلٌ وهو المُسَبِّبُ لِأثَرِهِ، فَمُحالُ أنْ يَتَقَدَّمَ الأثَرُ عَلَيْهِ، فالذَّهابُ لَمْ يَقَعْ، فالحُزْنُ لَمْ يَقَعْ، كَما قالَ: ؎يُهُولُكَ أنْ تَمُوتَ وأنْتَ مُلْغٍ ∗∗∗ لِما فِيهِ النَّجاةُ مِنَ العَذابِ وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ﴿تَذْهَبُوا بِهِ﴾ مِن أذْهَبَ رُباعِيًّا، ويَخْرُجُ عَلى زِيادَةِ الباءِ في بِهِ، كَما خَرَّجَ بَعْضُهم ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون: ٢٠] في قِراءَةِ مَن ضَمَّ التّاءَ وكَسَرَ الباءَ أيْ: (تُنْبِتُ الدُّهْنَ، وتُذْهِبُوهُ) وقَرَأ الجُمْهُورُ: (الذِّئْبُ) بِالهَمْزِ؛ وهي لُغَةُ الحِجازِ، وقَرَأ الكِسائِيُّ ووَرْشٌ وحَمْزَةُ: إذا وقَفَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وقالَ نَصْرٌ: سَمِعْتُ أبا عُمَرَ ولا يَهْمِزُ، وعَدَلَ إخْوَةُ يُوسُفَ عَنْ أحَدِ الشَّيْئَيْنِ وهو حُزْنُهُ عَلى ذَهابِهِمْ بِهِ لِقِصَرِ مُدَّةِ الحُزْنِ، وإيهامِهِمْ أنَّهم يَرْجِعُونَ بِهِ إلَيْهِ عَنْ قَرِيبٍ، وعَدَلُوا إلى قَضِيَّةِ الذِّئْبِ وهو السَّبَبُ الأقْوى في مَنعِهِ أنْ تَذْهَبُوا بِهِ، فَحَلَفُوا لَهُ لَئِنْ كانَ ما خافَهُ مِن خَطْفَةِ الذِّئْبِ أخاهم مِن بَيْنِهِمْ، وحالُهم أنَّهم عَشَرَةُ رِجالٍ بِمِثْلِهِمْ تُعْصَبُ الأُمُورُ وتُكْفى الخُطُوبُ (إنَّهم إذًا لَقَوْمٌ خاسِرُونَ) أيْ: هالِكُونَ ضَعْفًا وخَوَرًا وعَجْزًا، أوْ مُسْتَحِقُّونَ أنْ يَهْلِكُوا؛ لِأنَّهم لا غِنى عِنْدَهِمْ ولا جَدْوى في حَياتِهِمْ، أوْ مُسْتَحِقُّونَ بِأنْ يُدْعى عَلَيْهِمْ بِالخَسارِ والدَّمارِ، وأنْ يُقالَ: خَسَّرَهُمُ اللَّهُ ودَمَّرَهم حِينَ أكَلَ الذِّئْبُ بَعْضَهم وهم حاضِرُونَ، وقِيلَ: إنْ لَمْ نَقْدِرْ عَلى حِفْظِ بَعْضِنا فَقَدْ هَلَكَتْ مَواشِينا إذًا وخَسِرْنا، ورُوِيَ أنَّ يَعْقُوبَ رَأى في مَنامِهِ كَأنَّهُ عَلى ذُرْوَةِ جَبَلٍ، وكانَ يُوسُفُ في بَطْنِ الوادِي، فَإذا عَشَرَةٌ مِنَ الذِّئابِ قَدِ احْتَوَشَتْهُ يُرِدْنَ أكْلَهُ، فَدَرَأ عَنْهُ واحِدٌ، ثُمَّ انْشَقَّتِ الأرْضُ فَتَوارى يُوسُفُ فِيها ثَلاثَةَ أيّامٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب