الباحث القرآني

(p-٢٥٣)﴿قالُوا يا شُعَيْبُ أصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أوْ أنْ نَفْعَلَ في أمْوالِنا ما نَشاءُ إنَّكَ لَأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ ﴿قالَ ياقَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلّا الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ وما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ ﴿ويا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكم شِقاقِي أنْ يُصِيبَكم مِثْلُ ما أصابَ قَوْمَ نُوحٍ أوْ قَوْمَ هُودٍ أوْ قَوْمَ صالِحٍ وما قَوْمُ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ﴾ ﴿واسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ودُودٌ﴾ لَمّا أمَرَهم شُعَيْبٌ بِعِبادَةِ اللَّهِ وتَرْكِ عِبادَةِ أوْثانِهِمْ، وبِإيفاءِ المِكْيالِ والمِيزانِ، رَدُّوا عَلَيْهِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ والهُزْءِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿أصَلاتُكَ﴾، وكانَ كَثِيرَ الصَّلاةِ، وكانَ إذا صَلّى تَغامَزُوا وتَضاحَكُوا. ﴿أنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ مُقابِلٌ لِقَوْلِهِ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [هود: ٨٤] ﴿أوْ أنْ نَفْعَلَ في أمْوالِنا ما نَشاءُ﴾ مُقابِلٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَنْقُصُوا المِكْيالَ والمِيزانَ﴾ [هود: ٨٤]، وكَوْنُ الصَّلاةِ آمِرَةً هو عَلى وجْهِ المَجازِ، كَما كانَتْ ناهِيَةً في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥] أوْ يُقالُ: إنَّها تَأْمُرُ بِالجَمِيلِ والمَعْرُوفِ، أيْ: تَدْعُو إلَيْهِ وتَبْعَثُ عَلَيْهِ. إلّا أنَّهم ساقُوا الكَلامَ مَساقَ الطَّنْزِ، وجَعَلُوا الصَّلاةَ آمِرَةً عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِصَلاتِهِ. والمَعْنى: فَأمْرُكَ بِتَكْلِيفِنا أنْ نَتْرُكَ، فَحُذِفَ المُضافُ لِأنَّ الإنْسانَ لا يُؤْمَرُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. والظّاهِرُ أنَّهُ أُرِيدَ بِالصَّلاةِ: الصَّلاةُ المَعْهُودَةُ في تِلْكَ الشَّرِيعَةِ. وقالَ الحَسَنُ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إلّا فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلاةَ والزَّكاةَ. وقِيلَ: أُرِيدُ قِراءَتُكَ. وقِيلَ: مَساجِدَكَ. وقِيلَ: دَعَواتَكَ. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ والأخَوانِ وحَفْصٌ: أصَلاتُكَ عَلى التَّوْحِيدِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أوْ أنْ نَفْعَلَ في أمْوالِنا ما نَشاءُ﴾ بِالنُّونِ فِيهِما. وقَرَأ الضَّحّاكُ بْنُ قَيْسٍ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالتّاءِ فِيهِما عَلى الخِطابِ، ورُوِيَتْ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وطَلْحَةُ: نَفْعَلُ بِالنُّونِ ما نَشاءُ بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. فَمَن قَرَأ بِالنُّونِ فِيهِما فَقَوْلُهُ: ﴿أوْ أنْ نَفْعَلَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: (ما يَعْبُدُ)، أيْ: أنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وفِعْلَنا في أمْوالِنا ما نَشاءُ. ومَن قَرَأ بِالتّاءِ فِيهِما أوْ بِالنُّونِ فِيهِما فَمَعْطُوفٌ عَلى أنْ نَتْرُكَ، أيْ: تَأْمُرُكَ بِتَرْكِ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، وفِعْلِكِ في أمْوالِنا ما تَشاءُ، أوْ وفِعْلِنا في أمْوالِنا ما تَشاءُ. وأوْ لِلتَّنْوِيعِ، أيْ: تَأْمُرُكَ مَرَّةً بِهَذا، ومَرَّةً بِهَذا. وقِيلَ: بِمَعْنى الواوِ. والظّاهِرُ أنَّ الَّذِي كانُوا يَفْعَلُونَهُ في أمْوالِهِمْ هو بَخْسُ الكَيْلِ والوَزْنِ المُقَدَّمُ ذِكْرُهُ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: قَرْضُهُمُ الدِّينارَ والدِّرْهَمَ، وإجْراءُ ذَلِكَ مَعَ الصَّحِيحِ عَلى جِهَةِ التَّدْلِيسِ، وعَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ: قَطْعُ الدَّنانِيرِ والدَّراهِمِ مِنَ الفَسادِ في الأرْضِ. وقِيلَ: تَبْدِيلُ السِّكَكِ الَّتِي يُقْصَدُ بِها أكْلُ أمْوالِ النّاسِ. ومَن قَرَأ بِالتّاءِ فِيهِما أوْ في نَشاءُ، والظّاهِرُ أنَّهُ إيفاءُ المِكْيالِ والمِيزانِ. وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: كانَ يَأْمُرُهم بِالزَّكاةِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ لَأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾: ظاهِرُهُ أنَّهُ إخْبارٌ مِنهم عَنْهُ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ الجَمِيلَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الحَقِيقَةَ، أيْ: إنَّكَ لَلْمُتَّصِفُ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ، فَكَيْفَ وقَعْتَ في هَذا الأمْرِ مِن مُخالَفَتِكَ دِينَ آبائِنا وما كانُوا عَلَيْهِ، ومِثْلُكَ مَن يَمْنَعُهُ حِلْمُهُ ورُشْدُهُ عَنْ ذَلِكَ. أوْ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ: ﴿إنَّكَ لَأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾: بِزَعْمِكَ إذْ تَأْمُرُنا بِما تَأْمُرُ بِهِ. أوْ يَحْتَمِلُ أنْ قالُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ والتَّهَكُّمِ، قالَهُ قَتادَةُ. والمُرادُ: نِسْبَتُهُ إلى الطَّيْشِ والعِيِّ كَما تَقُولُ لِلشَّحِيحِ: لَوْ رَآكَ حاتِمٌ لَسَجَدَ لَكَ، وقالُوا: لِلْحَبَشِيِّ أبُو البَيْضاءِ. ﴿قالَ ياقَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ﴾ [هود: ٢٨]: (p-٢٥٤)هَذِهِ مُراجَعَةٌ لَطِيفَةٌ واسْتِنْزالٌ حَسَنٌ، واسْتِدْعاءٌ رَقِيقٌ، ولِذَلِكَ قالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ذَلِكَ خَطِيبُ الأنْبِياءِ» وهَذا النَّوْعُ يُسَمّى اسْتِدْراجُ المُخاطَبِ عِنْدَ أرْبابِ عِلْمِ البَيانِ، وهو نَوْعٌ لَطِيفٌ غَرِيبُ المَغْزى يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى بُلُوغِ الغَرَضِ، وقَدْ ورَدَ مِنهُ في قِصَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ أبِيهِ، وفي قِصَّةِ نُوحٍ وهُودٍ وصالِحٍ، وفي قِصَّةِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ قَوْمِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): أيْنَ جَوابُ أرَأيْتُمْ ؟، ومالَهُ لَمْ يَثْبُتْ كَما ثَبَتَ في قِصَّةِ نُوحٍ وصالِحٍ ؟ قُلْتُ: جَوابُهُ مَحْذُوفٌ، وإنَّما لَمْ يَثْبُتْ لِأنَّ إثْباتَهُ في الصِّفَتَيْنِ دَلَّ عَلى مَكانِهِ، ومَعْنى الكَلامِ: يُناوِي عَلَيْهِ، والمَعْنى: أخْبِرُونِي إنْ كُنْتُ عَلى حُجَّةٍ واضِحَةٍ ويَقِينٍ مِن رَبِّي، وكُنْتُ نَبِيًّا عَلى الحَقِيقَةِ، أيَصِحُّ لِي أنْ لا آمُرَكم بِتَرْكِ عِبادَةِ الأوْثانِ والكَفِّ عَنِ المَعاصِي، والأنْبِياءُ لا يُبْعَثُونَ إلّا لِذَلِكَ ؟ انْتَهى. وتَسْمِيَةُ هَذا جَوابًا لِأرَأيْتُمْ لَيْسَ بِالمُصْطَلَحِ، بَلْ هَذِهِ الجُمْلَةُ الَّتِي قَدَّرَها هي في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِأرَأيْتُمْ، لِأنَّ أرَأيْتُمْ إذا ضُمِّنَتْ مَعْنى: أخْبِرْنِي، تَعَدَّتْ إلى مَفْعُولَيْنِ، والغالِبُ في الثّانِي أنْ يَكُونَ جُمْلَةً اسْتِفْهامِيَّةً، تَنْعَقِدُ مِنها ومِنَ المَفْعُولِ الأوَّلِ في الأصْلِ جُمْلَةٌ ابْتِدائِيَّةٌ، كَقَوْلِ العَرَبِ: أرَأيْتُكَ زَيْدًا ما صَنَعَ. وقالَ الحَوْفِيُّ: وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدِلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: فَأعْدِلْ عَنْ ما أنا عَلَيْهِ مِن عِبادَتِهِ عَلى هَذِهِ الحالِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وجَوابُ الشَّرْطِ الَّذِي في قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي﴾ [هود: ٢٨] مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أضِلُّ كَما ضَلَلْتُمْ، أوْ أتْرُكُ تَبْلِيغَ الرِّسالَةِ ونَحْوَ هَذا مِمّا يَلِيقُ بِهَذِهِ المُحاجَّةِ، انْتَهى. ولَيْسَ قَوْلُهُ: (أضِلُّ) جَوابًا لِلشَّرْطِ، لِأنَّهُ إنْ كانَ مُثْبَتًا فَلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ جَوابًا لِأنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ عَلى الشَّرْطِ، وإنْ كانَ اسْتِفْهامًا حُذِفَ مِنهُ الهَمْزَةُ، فَهو في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِأرَأيْتُمْ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ السّابِقَةُ مَعَ مُتَعَلِّقِها. والظّاهِرُ في قَوْلِهِ: ﴿رِزْقًا حَسَنًا﴾ أنَّهُ: الحَلالُ الطَّيِّبُ مِن غَيْرِ بَخْسٍ ولا تَطْفِيفٍ أدْخَلْتُمُوهُ أمْوالَكم. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الحَلالُ، وكانَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ كَثِيرَ المالِ. وقِيلَ: النُّبُوَّةُ. وقِيلَ: العِلْمُ. ﴿وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ﴾ المَعْنى: لَسْتُ أُرِيدُ أنْ أفْعَلَ الشَّيْءَ الَّذِي نَهَيْتُكم عَنْهُ، مِن نَقْصِ الكَيْلِ والوَزْنِ وأسْتَأْثِرَ بِالمالِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقالَ قَتادَةُ: لَمْ أكُنْ لِأنْهاكم عَنْ أمْرٍ ثُمَّ أرْتَكِبُهُ. وقالَ صاحِبُ الغُنْيانِ: ما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم في السِّرِّ إلى ما أنْهاكم عَنْهُ في العَلانِيَةِ. ويُقالُ: خالَفَنِي فُلانٌ إلى كَذا إذا قَصَدَهُ وأنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ، وخالَفَنِي عَنْهُ إذا ولّى عَنْهُ وأنْتَ قاصِدُهُ، ويَلْقاكَ الرَّجُلُ صادِرًا عَنِ الماءِ فَتَسْألُهُ عَنْ صاحِبِهِ فَتَقُولُ: خالَفَنِي إلى الماءِ، تُرِيدُ أنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ وارِدًا، وأنا ذاهِبٌ عَنْهُ صادِرًا. والمَعْنى: أنْ أسْبِقَكم إلى شَهَواتِكُمُ الَّتِي نَهَيْتُكم عَنْها لَأسْتَبِدَّ بِها دُونَكم، فَعَلى هَذا الظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أنْ أُخالِفَكُمْ﴾ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ لِأُرِيدُ، أيْ: وما أُرِيدُ مُخالَفَتَكم، ويَكُونُ خالَفَ بِمَعْنى: خَلَفَ نَحْوَ: جاوَزَ وجازَ، أيْ: وما أُرِيدُ أنْ أخْلُفَكم، أيْ: أكُونُ خَلَفًا مِنكم. وتَتَعَلَّقُ إلى بِأُخالِفَكم أوْ بِمَحْذُوفٍ، أيْ: مائِلًا إلى ما أنْهاكم عَنْهُ، ولِذَلِكَ قالَ بَعْضُهم: فِيهِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ إلى تَقْدِيرِهِ: وأمِيلُ إلى، أوْ يَبْقى ﴿أنْ أُخالِفَكُمْ﴾ عَلى ظاهِرِ ما يُفْهَمُ مِنَ المُخالَفَةِ، ويَكُونُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِهِ بِأُرِيدُ، وتُقَدَّرُ: مائِلًا إلى، أوْ يَكُونُ ﴿أنْ أُخالِفَكُمْ﴾: مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ، وتَتَعَلَّقُ إلى بِقَوْلِهِ: ﴿وما أُرِيدُ﴾ بِمَعْنى: وما أقْصِدُ، أيْ: وما أقْصِدُ لِأجْلِ مُخالَفَتِكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ، ولِذَلِكَ قالَ الزَّجّاجُ: وما أقْصِدُ بِخِلافِكم إلى ارْتِكابِ ما أنْهاكم عَنْهُ. والظّاهِرُ أنَّ (ما) مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أيْ: مُدَّةُ اسْتِطاعَتِي لِلْإصْلاحِ، وما دُمْتُ مُتَمَكِّنًا مِنهُ لا آلُوا فِيهِ جُهْدًا. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ في (ما) وُجُوهًا أحَدُها: أنْ (p-٢٥٥)يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الإصْلاحِ، أيِ: المُقَدَّرُ الَّذِي اسْتَطَعْتُهُ، أوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: إلّا الإصْلاحَ إصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ، فَهَذانِ وجْهانِ في البَدَلِ. والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا كَقَوْلِهِ: ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْداءَهُ. أيْ: ما أُرِيدُ إلّا أنْ أُصْلِحَ ما اسْتَطَعْتُ إصْلاحَهُ مِن فاسِدِكم، وهَذا الثّالِثُ ضَعِيفٌ، لِأنَّ المَصْدَرَ المُعَرَّفَ بِألْ لا يَجُوزُ إعْمالُهُ في المَفْعُولِ بِهِ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، وأمّا البَصْرِيُّونَ فَإعْمالُهُ عِنْدَهم فِيهِ قَلِيلٌ. ﴿وما تَوْفِيقِي﴾، أيْ: لِدُعائِكم إلى عِبادَةِ اللَّهِ وحْدَهُ، وتَرْكِ ما نَهاكم عَنْهُ إلّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ. أوْ: وما تَوْفِيقِي لِأنْ تَكُونَ أفْعالِي مُسَدَّدَةً مُوافِقَةً لِرِضا اللَّهِ إلّا بِمَعُونَتِهِ، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾: لا عَلى غَيْرِهِ، ﴿وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾: أرْجِعُ في جَمِيعِ أقْوالِي وأفْعالِي. وفي هَذا طَلَبُ التَّأْيِيدِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وتَهْدِيدٌ لِلْكُفّارِ، وحَسْمٌ لِأطْماعِهِمْ أنْ يَنالُوهُ بِشَرٍّ. ومَعْنى ﴿لا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾: لا يُكْسِبَنَّكم شِقاقِي، أيْ: خِلافِي وعَداوَتِي. قالَ السُّدِّيُّ: كَأنَّهُ في شِقٍّ وهم في شِقٍّ. وقالَ الحَسَنُ: ضِرارِي جَعَلَهُ مِنَ المَشَقَّةِ. وقِيلَ: فِراقِي. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ: بِضَمِّ الياءِ مِن أجْرَمَ، ونَسَبَها الزَّمَخْشَرِيُّ إلى ابْنِ كَثِيرٍ، وجَرَمَ في التَّعْدِيَةِ مِثْلُ كَسَبَ يَتَعَدّى إلى واحِدٍ. جَرَمَ فُلانٌ الذَّنْبَ، وكَسَبَ زَيْدٌ المالَ، ويَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ جَرَّمْتُ زَيْدًا الذَّنْبَ، وكَسَّبْتُ زَيْدًا المالَ. وبِالألِفِ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ أيْضًا، أجْرَمَ زَيْدٌ عَمْرًا الذَّنْبَ، وأكْسَبْتُ زَيْدًا المالَ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في جَرَمَ في العُقُودِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ والجَحْدَرِيُّ وابْنُ أبِي إسْحاقَ ورُوِيَتْ عَنْ نافِعٍ: مِثْلَ بِفَتْحِ اللّامِ، وخُرِّجَ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ الفُتْحَةُ فُتْحَةَ بِناءٍ، وهو فاعِلٌ كَحالِهِ حِينَ كانَ مَرْفُوعًا، ولَمّا أُضِيفَ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ جازَ فِيهِ البِناءُ، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: ﴿إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] والثّانِي: أنْ تَكُونَ الفُتْحَةُ فَتْحَةَ إعْرابٍ، وانْتَصَبَ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: إصابَةً مِثْلَ إصابَةِ قَوْمِ نُوحٍ. والفاعِلُ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ سِياقُ الكَلامِ، أيْ: أنْ يُصِيبَكم هو، أيِ: العَذابُ. ﴿وما قَوْمُ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ﴾: إمّا في الزَّمانِ لِقُرْبِ عَهْدِ هَلاكِهِمْ مِن عَهْدِكم، إذْ هم أقْرَبُ الهالِكِينَ، وإمّا في الكُفْرِ والمَعاصِي وما يُسْتَحَقُّ بِهِ الهَلاكُ. وأجْرى بَعِيدًا عَلى قَوْمٍ إمّا بِاعْتِبارِ الزَّمانِ أوِ المَكانِ، أيْ: بِزَمانٍ بَعِيدٍ، أوْ بِمَكانٍ بَعِيدٍ. أوْ بِاعْتِبارِ مَوْصُوفٍ غَيْرِهِما، أيْ: بِشَيْءٍ بَعِيدٍ، أوْ بِاعْتِبارِ مُضافٍ إلى قَوْمٍ، أيْ: وما إهْلاكُ قَوْمِ لُوطٍ. ويَجُوزُ أنْ يُسَوّى في قَرِيبٍ وبَعِيدٍ وكَثِيرٍ وقَلِيلٍ بَيْنَ المُفْرَدِ والجَمْعِ، وبَيْنَ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، كَما قالُوا: هو صَدِيقٌ، وهم صَدِيقٌ، وهي صَدِيقٌ، وهُنَّ صَدِيقٌ. و(ودُودٌ): بِناءُ مُبالَغَةٍ مِن ودَّ الشَّيْءَ: أحَبَّهُ وآثَرَهُ، وهو عَلى فَعَلَ. وسَمِعَ الكِسائِيُّ: ودَدَتُ بِفَتْحِ العَيْنِ، والمَصْدَرُ: ودَّ وِدادًا ووِدادَةً. وقالَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ودُودٌ فَعُولٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ. وقالَ المُفَسِّرُونَ: ودُودٌ مُتَحَبِّبٌ إلى عِبادِهِ بِالإحْسانِ إلَيْهِمْ. وقِيلَ: مَحْبُوبُ المُؤْمِنِينَ. ورَحْمَتُهُ لِعِبادِهِ، ومَحَبَّتُهُ لَهم سَبَبٌ في اسْتِغْفارِهِمْ وتَوْبَتِهِمْ، ولَوْلا ذَلِكَ ما وفَّقَهم إلى اسْتِغْفارِهِ والرُّجُوعِ إلَيْهِ، فَهو يَفْعَلُ بِهِمْ فِعْلَ الوادِّ بِمَن يَوَدُّهُ مِنَ الإحْسانِ إلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب