الباحث القرآني
﴿ألا إنَّهم يَثْنُونَ صُدُورَهم لِيَسْتَخْفُوا مِنهُ ألا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهم يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾: نَزَلَتْ في الأخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ، كانَ يُجالِسُ - رَسُولَ اللَّهِ ﷺ - ويَحْلِفُ أنَّهُ لَيُحِبُّهُ ويُضْمِرُ خِلافَ ما يُظْهِرُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وعَنْهُ أيْضًا: في ناسٍ كانُوا يَسْتَحْيُونَ أنْ يُفْضُوا إلى السَّماءِ في الخَلاءِ ومُجامَعَةِ النِّساءِ. وقِيلَ: في بَعْضِ المُنافِقِينَ، كانَ إذا مَرَّ بِالرَّسُولِ ﷺ ثَنى صَدْرَهُ وظَهْرَهُ وطَأْطَأ رَأْسَهُ وغَطّى وجْهَهُ، كَيْ لا يَرى الرَّسُولَ، قالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدّادٍ. وقِيلَ: في طائِفَةٍ قالُوا إذا أغْلَقْنا أبْوابَنا، وأرْخَيْنا سُتُورَنا، واسْتَغْشَيْنا ثِيابَنا، وثَنَيْنا صُدُورَنا، عَلى عَداوَتِهِ كَيْفَ يَعْلَمُ بِنا ؟ ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ.
وقِيلَ: فَعَلُوا ذَلِكَ لِيَبْعُدَ عَلَيْهِمْ صَوْتُ الرَّسُولِ ﷺ، ولا يَدْخُلُ أسْماعَهُمُ القُرْآنُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. و﴿يَثْنُونَ﴾: مُضارِعُ ثَنى، قِراءَةُ الجُمْهُورِ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُثْنُونَ بِضَمِّ الياءِ مُضارِعُ أثْنى. (صُدُورَهم): بِالنَّصْبِ، قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: ولا يُعْرَفُ الإثْناءُ في هَذا البابِ إلّا أنْ يُرادَ بِهِ: وجَدْتُها مَثْنِيَّةً مِثْلَ أحْمَدْتُهُ وأمْجَدْتُهُ، ولَعَلَّهُ فَتَحَ النُّونَ وهَذا مِمّا فُعِلَ بِهِمْ، فَيَكُونُ نَصْبُ صُدُورَهم بِنَزْعِ الجارِ، ويَجُوزُ عَلى ذَلِكَ أنْ يَكُونَ صُدُورُهم رَفْعًا عَلى البَدَلِ، بَدَلِ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ. وقالَ أبُو البَقاءِ: ماضِيهِ أثْنى، ولا يُعْرَفُ في اللُّغَةِ إلّا أنْ يُقالَ: مَعْناهُ: عَرَّضُوها لِلْإثْناءِ، كَما يُقالُ: أبِعْتَ الفَرَسَ ؟ إذا عَرَضْتَهُ لِلْبَيْعِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ وابْناهُ زَيْدٌ ومُحَمَّدٌ وابْنُهُ جَعْفَرٌ، ومُجاهِدٌ وابْنُ يَعْمَرَ ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبْزى والجَحْدَرِيُّ وابْنُ أبِي إسْحاقَ وأبُو الأسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ وأبُو رَزِينٍ والضَّحّاكُ: تَثْنُونِي بِالتّاءِ مُضارِعُ أثْنَوْنِي عَلى وزْنِ: افْعَوْعَلَ، نَحْوَ: اعْشَوْشَبَ المَكانُ. صُدُورُهم: بِالرَّفْعِ بِمَعْنى: تَنْطَوِي صُدُورُهم. وقَرَأ أيْضًا ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وابْنُ يَعْمَرَ وابْنُ أبِي إسْحاقَ: يَثْنُونِي بِالياءِ، صُدُورُهم بِالرَّفْعِ، ذُكِرَ عَلى مَعْنى الجَمْعِ دُونَ الجَماعَةِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: لَيَثْنُونَ بِلامِ التَّأْكِيدِ في خَبَرِ إنَّ، وحَذْفِ الياءِ تَخْفِيفًا، وصُدُورُهم رُفِعَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وعُرْوَةُ وابْنُ أبِي أبْزى والأعْشى: يَثَّنُّونَ ووَزْنُهُ: يَفْعَوْعَلَ مِنَ الثَّنِّ، بُنِيَ مِنهُ افْعَوْعَلَ وهو ما هَشَّ وضَعُفَ مِنَ الكَلَأِ، وأصْلُهُ: يَثْنَوْنَنَ يُرِيدُ: مُطاوَعَةَ نُفُوسِهِمْ لِلشَّيْءِ، كَما يَنْثَنِي الهَشُّ مِنَ النَّباتِ. أوْ أرادَ ضَعْفَ إيمانِهِمْ ومَرَضَ قُلُوبِهِمْ. وصُدُورُهم: بِالرَّفْعِ. وقَرَأ عُرْوَةُ ومُجاهِدٌ أيْضًا: كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ هَمَزَ فَقَرَأ: يَثْنَئِنُّ مِثْلَ: يَطْمَئِنُّ، وصُدُورُهم رُفِعَ، وهَذِهِ مِمّا اسْتُثْقِلَ فِيهِ الكَسْرُ عَلى الواوِ كَما قِيلَ: أشاحَ.
وقَدْ قِيلَ أنَّ يَثْنَئِنُّ: يَفْعَئِلُّ مِنَ الثَّنِّ المُتَقَدِّمِ، مِثْلَ تَحْمارُّ وتَصْفارُّ، فَحُرِّكَتِ الألِفَ لِالتِقائِهِما بِالكَسْرِ، فانْقَلَبَتْ هَمْزَةً. وقَرَأ الأعْشى: يَثْنَؤُونَ مِثْلَ يَفْعَلُونَ مَهْمُوزُ اللّامِ، صُدُورَهم بِالنَّصْبِ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: ولا أعْرِفُ وجْهَهُ لِأنَّهُ يُقالُ: ثَنَيْتُ، ولَمْ أسْمَعْ ثَنَأْتُ.
ويَجُوزُ أنَّهُ قَلَبَ الياءَ ألِفًا عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ: أعْطَأْتُ في: أعْطَيْتُ، ثُمَّ هَمَزَ عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ: ﴿ولا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧]، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: يَثْنَوِي بِتَقْدِيمِ الثّاءِ عَلى النُّونِ، وبِغَيْرِ نُونٍ بَعْدَ الواوِ عَلى وزْنِ: تَرْعَوِي. قالَ أبُو حاتِمٍ: وهَذِهِ القِراءَةُ غَلَطٌ لا تَتَّجِهُ، انْتَهى. وإنَّما قالَ ذَلِكَ لِأنَّهُ لاحَظَ الواوَ في هَذا الفِعْلِ لا يُقالُ: ثَنَوْتُهُ فانْثَوى كَما يُقالُ: رَعَوْتُهُ، أيْ: كَفَفْتُهُ فارْعَوى فانْكَفَّ، ووَزْنُهُ افْعَلَّ.
وقَرَأ نَصْرُ بْنُ عاصِمٍ وابْنُ يَعْمَرَ وابْنُ أبِي إسْحاقَ: يَنْثُونَ بِتَقْدِيمِ النُّونِ عَلى الثّاءِ، فَهَذِهِ عَشْرُ قِراءاتٍ في هَذِهِ الكَلِمَةِ. والضَّمِيرُ في إنَّهم عائِدٌ عَلى بَعْضِ مَن بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ مِنَ الكُفّارِ، أيْ: يَطْوُونَ صُدُورَهم عَلى عَدَواتِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (p-٢٠٣)يَثْنُونَ صُدُورَهم: يَزْوَرُّونَ عَنِ الحَقِّ ويَنْحَرِفُونَ عَنْهُ، لِأنَّ مَن أقْبَلَ عَلى الشَّيْءِ: اسْتَقْبَلَهُ بِصَدْرِهِ، ومَنِ ازْوَرَّ عَنْهُ وانْحَرَفَ: ثَنى عَنْهُ صَدْرَهُ وطَوى عَنْهُ كَشْحَهُ، ﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنهُ﴾ يَعْنِي: ويُرِيدُونَ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّهِ، فَلا يُطْلِعُ رَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ عَلى ازْوِرارِهِمْ. ونَظِيرُ إضْمارِ يُرِيدُونَ، لِعَوْدِ المَعْنى إلى إضْمارِهِ، الإضْمارُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣] مَعْناهُ: فَضَرَبَ فانْفَلَقَ. ومَعْنى ﴿ألا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ﴾ ويُرِيدُونَ الِاسْتِخْفاءَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهم، أيْضًا كَراهَةً لِاسْتِماعِ كَلامِ اللَّهِ كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿جَعَلُوا أصابِعَهم في آذانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيابَهم وأصَرُّوا﴾ [نوح: ٧] انْتَهى.
فالضَّمِيرُ في مِنهُ عَلى قَوْلِهِ: عائِدٌ عَلى اللَّهِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا هو الأفْصَحُ الأجْزَلُ في المَعْنى، انْتَهى.
ويَظْهَرُ مِن بَعْضِ أسْبابِ النُّزُولِ أنَّهُ عائِدٌ عَلى الرَّسُولِ ﷺ كَما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قالَ: قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الكُفّارِ الَّذِينَ كانُوا إذا لَقِيَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَطامَنُوا وثَنَوْا صُدُورَهم كالمُتَسَتِّرِ، ورَدُّوا إلَيْهِ ظُهُورَهم، وغَشُوا وُجُوهَهم بِثِيابِهِمْ: تَباعُدًا مِنهم وكَراهِيَةً لِلِقائِهِ، وهم يَظُنُّونَ أنَّ ذَلِكَ يَخْفى عَلَيْهِ أوْ عَنِ اللَّهِ تَعالى فَنَزَلَتِ الآيَةُ، انْتَهى. فَعَلى هَذا يَكُونُ لِيَسْتَخْفُوا مُتَعَلِقًا بُقُولِهِ ﴿يَثْنُونَ﴾، وكَذا قالَ الحَوْفِيُّ. وقِيلَ: هي اسْتِعارَةٌ لِلْغِلِّ والحِقْدِ الَّذِي كانُوا يَنْطَوُونَ عَلَيْهِ كَما تَقُولُ: فُلانٌ يَطْوِي كَشْحَهِ عَلى عَداوَتِهِ، ويَثْنِي صَدْرَهُ عَلَيْها، فَمَعْنى الآيَةِ: ألا إنَّهم يُسِرُّونَ العَداوَةَ ويَتَكَتَّمُونَ لَها، لِيَخْفى في ظَنِّهِمْ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وهو تَعالى حِينَ تَغَشِّيهِمْ بِثِيابِهِمْ وإبْلاغِهِمْ في التَّسَتُّرِ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ، انْتَهى.
فَعَلى هَذا يَكُونُ حِينَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: (يَعْلَمُ)، وكَذا قالَهُ الحَوْفِيُّ لا لِلْمُضْمَرِ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وهو قَوْلُهُ: ويُرِيدُونَ الِاسْتِخْفاءَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهم. وقالَ أبُو البَقاءِ: ﴿ألا حِينَ﴾: العامِلُ في الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ أيْ: ألا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهم يَسْتَخْفُونَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِيَعْلَمُ.
وقِيلَ: كانَ بَعْضُهم يَنْحَنِي عَلى بَعْضٍ لِيَسارِهِ في الطَّعْنِ عَلى المُسْلِمِينَ، وبَلَغَ مِن جَهْلِهِمْ أنَّ ذَلِكَ يَخْفى عَلى اللَّهِ تَعالى. قالَ قَتادَةُ: أخْفى ما يَكُونُ إذا حَنى ظَهْرَهُ واسْتَغْشى ثَوْبَهُ، وأضْمَرَ في نَفْسِهِ هِمَّتَهُ.
وقالَ مُجاهِدٌ: يَطْوُونَها عَلى الكُفْرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُخْفُونَ ما في صُدُورِهِمْ مِنَ الشَّحْناءِ. وقالَ قَتادَةُ: يُخْفُونَ لِيَسْمَعُوا كَلامَ اللَّهِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَكْتُمُونَها إذا ناجى بَعْضُهم بَعْضًا في أمْرِ الرَّسُولِ ﷺ .
وقِيلَ: يَثْنُونَها حَياءً مِنَ اللَّهِ تَعالى، ومَعْنى يَسْتَغْشُونَ: يَجْعَلُونَها أغْشِيَةً. ومِنهُ قَوْلُ الخَنْساءِ:
؎أرْعى النُّجُومَ وما كُلِّفْتُ رِعْيَتَها وتارَةً أتَغَشّى فَضْلَ أطْمارِي
وقِيلَ: المُرادُ بِالثِّيابِ: اللَّيْلُ، واسْتُعِيرَتْ لَهُ لِما بَيْنَهُما مِنَ العَلاقَةِ بِالسَّتْرِ، لِأنَّ اللَّيْلَ يَسْتُرُ كَما تَسْتُرُ الثِّيابُ ومِنهُ قَوْلُهُمُ: اللَّيْلُ أخْفى لِلْوَيْلِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: (عَلى حِينِ يَسْتَغْشُونَ) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومِن هَذا الِاسْتِعْمالِ قَوْلُ النّابِغَةِ:
؎عَلى حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصِّبا ∗∗∗ وقُلْتُ ألَمّا أصِحُّ والشَّيْبُ وازِعُ
انْتَهى.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ما يُسِرُّونَ بِقُلُوبِهِمْ وما يُعْلِنُونَ بِأفْواهِهِمْ. وقِيلَ: ما يُسِرُّونَ بِاللَّيْلِ وما يُعْلِنُونَ بِالنَّهارِ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: مَعْناهُ: أنَّهُ يَعْلَمُ سَرائِرَهم كَما يَعْلَمُ مَظْهَرانِهِمْ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أنَّهُ لا تَفاوُتَ في عِلْمِهِ بَيْنَ إسْرارِهِمْ وإعْلانِهِمْ، فَلا وجْهَ لِتَوَصُّلِهِمْ إلى ما يُرِيدُونَ مِنَ الِاسْتِخْفاءِ واللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلى ثَنْيِهِمْ صُدُورَهم، واسْتِغْشائِهِمْ بِثِيابِهِمْ. ونِفاقُهم غَيْرُ نافِقٍ عِنْدَهُ. وقالَ صاحِبُ التَّحْرِيرِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِياقُ الآيَةِ أنَّهُ أرادَ بِما يُسِرُّونَ: ما انْطَوَتْ عَلَيْهِ صُدُورُهم مِنَ الشِّرْكِ والنِّفاقِ والغِلِّ والحَسَدِ والبُغْضِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ، لِأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن أعْمالِ القُلُوبِ، وأعْمالُ القُلُوبِ خَفِيَّهٌ جِدًّا، وأرادَ بِما يُعْلِنُونَ: ما يُظْهِرُونَهُ مِنَ اسْتِدْبارِهِمُ النَّبِيَّ ﷺ وتَغْشِيَةِ ثِيابِهِمْ، وسَدِّ (p-٢٠٤)آذانِهِمْ وهَذِهِ كُلُّها أعْمالٌ ظاهِرَةٌ لا تَخْفى.
﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها ومُسْتَوْدَعَها كُلٌّ في كِتابٍ مُبِينٍ﴾: الدّابَّةُ هُنا: عامٌّ في كُلِّ حَيَوانٍ يَحْتاجُ إلى رِزْقٍ، و(عَلى اللَّهِ): ظاهِرٌ في الوُجُوبِ، وإنَّما هو تُفَضُّلٌ، ولَكِنَّهُ لَمّا ضَمِنَ تَعالى أنْ يَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ أبْرَزَهُ في حَيِّزِ الوُجُوبِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ﴿مُسْتَقَرَّها﴾: حَيْثُ تَأْوِي إلَيْهِ مِنَ الأرْضِ، ﴿ومُسْتَوْدَعَها﴾: المَوْضِعَ الَّذِي تَمُوتُ فِيهِ فَتُدْفَنُ. وعَنْهُ أيْضًا: مُسْتَقَرَّها: في الرَّحِمِ، ومُسْتَوْدَعَها: في الصُّلْبِ.
وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: مُسْتَقَرَّها: في أيّامِ حَياتِها، ومُسْتَوْدَعَها: حِينَ تَمُوتُ وحِينَ تُبْعَثُ. وقِيلَ: مُسْتَقَرَّها: في الجَنَّةِ أوْ: في النّارِ، ومُسْتَوْدَعَها: في القَبْرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ: ﴿حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: ٧٦] و﴿ساءَتْ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: ٦٦] وقِيلَ: ما يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ عَمَلُها، ومُسْتَوْدَعَها: ما تَصِيرُ إلَيْهِ.
وقِيلَ: المُسْتَقَرُّ: ما حَصَلَ مَوْجُودًا مِنَ الحَيَوانِ، والمُسْتَوْدَعُ: ما سَيُوجَدُ بَعْدَ المُسْتَقَرِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المُسْتَقَرُّ: مَكانُهُ مِنَ الأرْضِ ومَسْكَنُهُ، والمُسْتَوْدَعُ: حَيْثُ كانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاسْتِقْرارِ مِن صُلْبٍ أوْ رَحِمٍ أوْ بَيْضَةٍ، انْتَهى. ومُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونا مَصْدَرَيْنِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونا اسْمَيْ مَكانٍ، ويَحْتَمِلُ مُسْتَوْدَعٌ أنْ يَكُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ لِتَعَدِّي الفِعْلِ مِنهُ، ولا يَحْتَمِلُهُ مُسْتَقَرٌّ لِلُزُومِ فِعْلِهِ كُلٌّ، أيْ: كُلٌّ مِنَ الرِّزْقِ. والمُسْتَقَرُّ والمُسْتَوْدَعُ في اللَّوْحِ يَعْنِي: وذِكْرُها مَكْتُوبٌ فِيهِ مُبَيَّنٌ. وقِيلَ: الكِتابُ: هُنا مَجازٌ، وهو: إشارَةٌ إلى عِلْمِ اللَّهِ، وحَمْلُهُ عَلى الظّاهِرِ أوْلى.
﴿وهو الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا ولَئِنْ قُلْتَ إنَّكم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿ولَئِنْ أخَّرْنا عَنْهُمُ العَذابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ ألا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهم وحاقَ هِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾: لَمّا ذَكَرَ تَعالى ما يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا، ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ قادِرًا، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الجُمْلَةِ الأُولى في سُورَةِ يُونُسَ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾: تَقْدِيرُهُ: قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الماءَ والعَرْشَ كانا مَخْلُوقَيْنِ قَبْلُ.
قالَ كَعْبٌ: خَلَقَ اللَّهُ ياقُوتَةً خَضْراءَ فَنَظَرَ إلَيْها بِالهَيْبَةِ فَصارَتْ ماءً، ثُمَّ خَلَقَ الرِّيحَ فَجَعَلَ الماءَ عَلى مَتْنِها، ثُمَّ وضَعَ العَرْشَ عَلى الماءِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ وقَدْ قِيلَ لَهُ: عَلى أيِّ شَيْءٍ كانَ الماءُ ؟ قالَ: كانَ عَلى مَتْنِ الرِّيحِ، والظّاهِرُ تَعْلِيقُ لِيَبْلُوَكم بِخَلَقَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ خَلَقَهُنَّ لِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ، وهي أنْ يَجْعَلَها مَساكِنَ لِعِبادِهِ، ويُنْعِمَ عَلَيْهِمْ فِيها بِفُنُونِ النِّعَمِ، ويُكَلِّفَهم فِعْلَ الطّاعاتِ واجْتِنابَ المَعاصِي، فَمَن شَكَرَ وأطاعَ أثابَهُ، ومَن كَفَرَ وعَصى عاقَبَهُ. ولَمّا أشْبَهَ (p-٢٠٥)ذَلِكَ اخْتِبارَ المُخْتَبِرِ قالَ: لِيَبْلُوَكم، يُرِيدُ: لِيَفْعَلَ بِكم ما يَفْعَلُ المُبْتَلِي لِأحْوالِكم كَيْفَ تَعْمَلُونَ. (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ جازَ تَعْلِيقُ فِعْلِ البَلْوى ؟ (قُلْتُ): لِما في الِاخْتِبارِ مِن مَعْنى العِلْمِ، لِأنَّهُ طَرِيقُ اللَّهِ، فَهو مَلابِسٌ لَهُ كَما تَقُولُ: انْظُرْ أيُّهم أحْسَنُ وجْهًا، واسْتَمِعْ أيُّهم أحْسَنُ صَوْتًا، لِأنَّ النَّظَرَ والِاسْتِماعَ مِن طُرُقِ العِلْمِ، انْتَهى. وفي قَوْلِهِ: (ومَن كَفَرَ وعَصى): عاقَبَهُ دَسِيسَةَ الِاعْتِزالِ. وأمّا قَوْلُهُ: واسْتَمِعْ أيُّهم أحْسَنَ صَوْتًا، فَلا أعْلَمُ أحَدًا ذَكَرَ أنَّ اسْتَمِعْ: تُعَلَّقُ، وإنَّما ذَكَرُوا مِن غَيْرِ أفْعالِ القُلُوبِ: سَلْ وانْظُرْ، وفي جَوازِ تَعْلِيقِ رَأْيِ البَصَرِيَّةِ خِلافٌ. وقِيلَ: (لِيَبْلُوَكم) مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أعْلَمَ بِذَلِكَ لِيَبْلُوَكم، ومَقْصِدُ هَذا التَّأْوِيلِ: أنَّ هَذِهِ المَخْلُوقاتِ لَمْ تَكُنْ بِسَبَبِ البَشَرِ.
وقِيلَ: تَقْدِيرُ الفِعْلِ: وخَلَقَكم لِيَبْلُوكم. وقِيلَ: في الكَلامِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: وكانَ خَلْقُهُ لَهُما لِمَنافِعَ يَعُودُ عَلَيْكم نَفْعُها في الدُّنْيا دُونَ الأُخْرى، وفَعَلَ ذَلِكَ لِيَبْلُوَكم. ومَعْنى ﴿أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾: أهَذا أحْسَنُ أمْ هَذا. قالَ ابْنُ بَحْرٍ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أيُّكم أحْسَنُ عَقْلًا، وأوْرَعُ عَنْ مَحارِمِ اللَّهِ، وأسْرَعُ في طاعَةِ اللَّهِ» ولَوْ صَحَّ هَذا التَّفْسِيرُ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ.
وقالَ الحَسَنُ: أزْهَدُ في اللَّهِ. وقالَ مُقاتِلٌ: أتْقى لِلَّهِ. وقالَ الضَّحّاكُ: أكْثَرُكم شُكْرًا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَكَيْفَ قِيلَ: ﴿أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾، وأعْمالُ المُؤْمِنِينَ هي الَّتِي تَتَفاوَتُ إلى حَسَنٍ وأحْسَنَ، فَأمّا أعْمالُ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ فَتَفاوُتُهُما إلى حَسَنٍ وقَبِيحٍ (قُلْتُ): الَّذِينَ هم أحْسَنُ عَمَلًا هُمُ: المُتَّقُونَ، وهُمُ الَّذِينَ اسْتَبَقُوا إلى تَحْصِيلِ ما هو غَرَضُ اللَّهِ مِن عِبادِهِ، فَخَصَّهم بِالذِّكْرِ، واطَّرَحَ ذِكْرَ مَن وراءَهم تَشْرِيفًا لَهم وتَنْبِيهًا عَلى مَكانِهِمْ، ولِيَكُونَ ذَلِكَ تَيَقُّظًا لِلسّامِعِينَ وتَرْغِيبًا في حِيازَةِ فَضْلِهِمُ، انْتَهى.
ولَئِنْ قُلْتَ: خِطابٌ لِلرَّسُولِ ﷺ . وقَرَأ عِيسى الثَّقَفِيُّ: ولَئِنْ قُلْتُ: بِضَمِّ التّاءِ إخْبارًا عَنْهُ تَعالى، والمَعْنى: ولَئِنْ قُلْتَ: مُسْتَدِلًا عَلى البَعْثِ مِن بَعْدِ المَوْتِ، إذْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ﴾ دِلالَةٌ عَلى القُدْرَةِ العَظِيمَةِ، فَمَتى أخْبَرَ بِوُقُوعِ مُمْكِنٍ وقَعَ لا مَحالَةَ، وقَدْ أخْبَرَ بِالبَعْثِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وتَيَقَّنَ وُقُوعِهِ.
وقُرِئَ: أيُّكم بِفَتْحِ الهَمْزَةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ووَجْهُهُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِهِمُ: ائْتِ السُّوقَ إنَّكَ تَشْتَرِي لَحْمًا، بِمَعْنى عَلَّكَ، أيْ: ولَئِنْ قُلْتَ لَهم لَعَلَّكم مَبْعُوثُونَ بِمَعْنى: تَوَقَّعُوا بَعْثَكم وظُنُّوهُ، لَأثْبَتُوا القَوْلَ بِإنْكارِهِ لَقالُوا: ويَجُوزُ أنْ يُضَمَّنَ قُلْتَ مَعْنى: ذَكَرْتَ، انْتَهى.
يَعْنِي: فَبِفَتْحِ الهَمْزَةِ لِأنَّها في مَوْضِعِ مَفْعُولِ ذَكَرْتَ، والظّاهِرُ الإشارَةُ بِهَذا إلى القَوْلِ، أيْ: إنَّ قَوْلَكَ: إنَّكم مَبْعُوثُونَ إلّا سِحْرٌ، أيْ: بُطْلانُ هَذا القَوْلِ كَبُطْلانِ السِّحْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ مِنَ البَعْثِ. أيْ: إنَّ البَعْثَ.
وقِيلَ: أشارُوا بِهَذا إلى القُرْآنِ، وهو النّاطِقُ بِالبَعْثِ، فَإذا جَعَلُوهُ سِحْرًا فَقَدِ انْدَرَجَ تَحْتَهُ إنْكارُ ما فِيهِ مِنَ البَعْثِ وغَيْرِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَذَّبُوا وقالُوا: هَذا سِحْرٌ، فَهَذا تَناقُضٌ مِنهم إنْ كانَ مَفْطُورًا بِقُرُباتِ اللَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ فَهو مِن جُمْلَةِ المُقَرَّبِ بِهَذا، وهم مَعَ ذَلِكَ يُنْكِرُونَ ما هو أيْسَرُ مِنهُ بِكَثِيرٍ وهو البَعْثُ مِنَ القُبُورِ، إذِ البَداءَةُ أعْسَرُ مِنَ الإعادَةِ، وإذْ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ، انْتَهى. وقَرَأ الحَسَنُ والأعْرَجُ وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ وفِرْقَةٌ مِنَ السَّبْعَةِ: سِحْرٌ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: ساحِرٌ، يُرِيدُونَ: والسّاحِرُ كاذِبٌ مُبْطِلٌ، ولَئِنْ أخَّرْنا، حَكى تَعالى نَوْعًا آخَرَ مِن أباطِيلِهِمْ واسْتِهْزائِهِمْ، والعَذابُ هُنا: عَذابُ القِيامَةِ. وقِيلَ: عَذابُ يَوْمِ بَدْرٍ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: قَتْلُ جِبْرِيلَ المُسْتَهْزِئِينَ، والظّاهِرُ: العَذابُ المَوْعُودُ بِهِ، والأُمَّةُ هُنا المُدَّةُ مِنَ الزَّمانِ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ ومُجاهِدٌ والجُمْهُورُ، ومَعْناهُ: إلى حِينٍ ووَقْتٍ مَعْلُومٍ ما يَحْبِسُهُ اسْتِفْهامٌ، قالُوهُ وهو عَلى سَبِيلِ التَّكْذِيبِ والِاسْتِهْزاءِ. قالَ الطَّبَرِيُّ: سُمِّيَتِ المُدَّةُ: أُمَّةً، لِأنَّها يُقْضى فِيها أُمَّةٌ مِنَ النّاسِ وتَحْدُثُ أُخْرى، فَهي عَلى هَذا المُدَّةُ الطَّوِيلَةُ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ الأخْبارَ بِأنَّهُ يَوْمٌ لا يَرُدُّهُ شَيْءٌ (p-٢٠٦)ولا يَصْرِفُهُ. والظّاهِرُ أنَّ يَوْمَ مَنصُوبٌ بِقَوْلِهِ: مَصْرُوفًا، فَهو مَعْمُولٌ لِخَبَرِ لَيْسَ. وقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلى جَوازِ تَقْدِيمِ خَبَرِ لَيْسَ عَلَيْها قالُوا: لِأنَّ تَقَدُّمَ المَعْمُولِ يُؤْذِنُ بِتَقَدُّمِ العامِلِ، ونُسِبَ هَذا المَذْهَبُ لِـ سِيبَوَيْهِ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ البَصْرِيِّينَ. وذَهَبَ الكُوفِيُّونَ والمُبَرِّدُ: إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ ذَلِكَ، وقالُوا: لا يَدُلُّ جَوازُ تَقَدُّمِ المَعْمُولِ عَلى جَوازِ تَقَدُّمِ العامِلِ.
وأيْضًا فَإنَّ الظَّرْفَ المَجْرُورَ يَتَّسِعُ فِيهِما ما لا يَتَّسِعُ في غَيْرِهِما، ويَقَعانِ حَيْثُ لا يَقَعُ العامِلُ فِيهِما نَحْوَ: إنَّ اليَوْمَ زَيْدًا مُسافِرٌ، وقَدْ تَتَبَّعْتُ جُمْلَةً مِن دَواوِينِ العَرَبِ فَلَمْ أظْفَرْ بِتَقَدُّمِ خَبَرِ لَيْسَ عَلَيْها، ولا بِمَعْمُولِهِ، إلّا ما دَلَّ عَلَيْهِ ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ، وقَوْلُ الشّاعِرِ: فَيَأْبى فَما يَزْدادُ إلّا لَجاجَةً وكُنْتُ أبِيًّا في الخَفا لَسْتُ أقْدُمُ وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ جُمْلَةِ ﴿وحاقَ بِهِمْ﴾ .
﴿ولَئِنْ أذَقْنا الإنْسانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ ﴿ولَئِنْ أذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ كَبِيرٌ﴾: لَمّا ذَكَرَ تَعالى عَذابَ الكُفّارِ وإنْ تَأخَّرَ لا بُدَّ أنْ يَحِيقَ بِهِمْ، ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى كُفْرِهِمْ وكَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ العَذابَ لِما جُبِلُوا عَلَيْهِ مِن كُفْرِ نَعْماءِ اللَّهِ، وما يَتَرَتَّبُ عَلى إحْسانِهِ تَعالى إلَيْهِمْ مِمّا لا يَلِيقُ بِهِمْ مِن فَخْرِهِمْ عَلى عِبادِ اللَّهِ. والظّاهِرُ أنَّ الإنْسانَ هُنا هو: جِنْسٌ، والمَعْنى: إنَّ هَذا الخُلُقَ في سَجايا النّاسِ، ثُمَّ اسْتَثْنى مِنهُمُ: الَّذِينَ رَدَّتْهُمُ الشَّرائِعُ والإيمانُ إلى الصَّبْرِ والعَمَلِ الصّالِحِ، ولِذَلِكَ جاءَ الِاسْتِثْناءُ مِنهُ في قَوْلِهِ: إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا مُتَّصِلًا. وقِيلَ: المُرادُ هُنا بِالإنْسانِ: الكافِرُ.
وقِيلَ: المُرادُ بِهِ: إنْسانٌ مُعَيَّنٌ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: والوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، وفِيهِ نَزَلَتْ. وقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ المَخْزُومِيُّ، وذَكَرَهُ الواحِدِيُّ، وعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يَكُونُ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا، ومَعْنى (رَحْمَةً) نِعْمَةً مِن صِحَّةٍ وأمْنِ وجْدَةٍ.
﴿ثُمَّ نَزَعْناها﴾ أيْ: سَلَبْناها مِنهُ.
و﴿لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾: صِفَتا مُبالَغَةٍ، والمَعْنى: إنَّهُ شَدِيدُ اليَأْسِ كَثِيرُهُ، يَيْأسُ أنْ يَعُودَ إلَيْهِ مِثْلُ تِلْكَ النِّعْمَةِ المَسْلُوبَةِ، ويَقْطَعُ رَجاءَهُ مِن فَضْلِ اللَّهِ مِن غَيْرِ صَبْرٍ ولا تَسْلِيمٍ لِقَضائِهِ. (كَفُورٌ): كَثِيرُ الكُفْرانِ لِما سَلَفَ لِلَّهِ عَلَيْهِ مِن نِعْمَةٍ، ذَكَرَ حالَةَ الإنْسانِ إذْ بُدِئَ بِالنِّعْمَةِ ولَمْ يَسْبِقْهُ الضُّرُّ، ثُمَّ ذَكَرَ حالَهُ إذا جاءَتْهُ النِّعْمَةُ بَعْدَ الضُّرِّ.
ومَعْنى ذَهَبَ السَّيِّئاتُ أيِ: المَصائِبُ الَّتِي تَسُوءُنِي. وقَوْلُهُ هَذا يَقْتَضِي نَظَرًا وجَهْلًا، لِأنَّ ذَلِكَ بِإنْعامٍ مِنَ اللَّهِ، وهو يَعْتَقِدُ أنَّ ذَلِكَ اتِّفاقٌ أوْ يُسْعِدُ، وهو اعْتِقادٌ فاسِدٌ.
إنَّهُ لَفَرِحٌ: أشِرٌ بَطِرٌ، وهَذا الفَرَحُ مُطْلَقٌ، فَلِذَلِكَ ذُمَّ المُتَّصِفُ بِهِ، ولَمْ يَأْتِ في القُرْآنِ لِلْمَدْحِ إلّا مُقَيَّدًا بِما فِيهِ خَيْرٌ كَقَوْلِهِ: ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: ١٧٠] وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿لَفَرِحٌ﴾ بِكَسْرِ الرّاءِ، وهي قِياسُ اسْمِ الفاعِلِ مِن فَعِلَ اللّازِمِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: لَفَرُحٌ بِضَمِّ الرّاءِ، وهي كَما تَقُولُ: نَدُسٌ ونَطُسٌ.
وفَخْرُهُ: هو تَعاظُمُهُ عَلى النّاسِ بِما أصابَهُ مِنَ النَّعْماءِ، واسْتَثْنى تَعالى الصّابِرِينَ يَعْنِي: عَلى الضَّرّاءِ وعامِلِي الصّالِحاتِ. ومِنها الشُّكْرُ عَلى النَّعْماءِ. أُولَئِكَ لَهم مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي زَوالَ العِقابِ والخَلاصَ مِنهُ، و﴿أجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد: ٧] هو: الجَنَّةُ، فَيَقْتَضِي الفَوْزَ بِالثَّوابِ. ووَصَفَ الأجْرَ بِقَوْلِهِ: كَبِيرٌ، لِما احْتَوى عَلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ ورَفْعِ التَّكالِيفِ، والأمْنِ مِنَ العَذابِ، ورِضا اللَّهِ عَنْهم، والنَّظَرِ إلى وجْهِهِ الكَرِيمِ.
{"ayahs_start":5,"ayahs":["أَلَاۤ إِنَّهُمۡ یَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِیَسۡتَخۡفُوا۟ مِنۡهُۚ أَلَا حِینَ یَسۡتَغۡشُونَ ثِیَابَهُمۡ یَعۡلَمُ مَا یُسِرُّونَ وَمَا یُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ","۞ وَمَا مِن دَاۤبَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَیَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلࣱّ فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ","وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۗ وَلَىِٕن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡمَوۡتِ لَیَقُولَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ","وَلَىِٕنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰۤ أُمَّةࣲ مَّعۡدُودَةࣲ لَّیَقُولُنَّ مَا یَحۡبِسُهُۥۤۗ أَلَا یَوۡمَ یَأۡتِیهِمۡ لَیۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ","وَلَىِٕنۡ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنَّا رَحۡمَةࣰ ثُمَّ نَزَعۡنَـٰهَا مِنۡهُ إِنَّهُۥ لَیَـُٔوسࣱ كَفُورࣱ","وَلَىِٕنۡ أَذَقۡنَـٰهُ نَعۡمَاۤءَ بَعۡدَ ضَرَّاۤءَ مَسَّتۡهُ لَیَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّیِّـَٔاتُ عَنِّیۤۚ إِنَّهُۥ لَفَرِحࣱ فَخُورٌ","إِلَّا ٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَأَجۡرࣱ كَبِیرࣱ"],"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۗ وَلَىِٕن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡمَوۡتِ لَیَقُولَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق