الباحث القرآني

﴿قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهم ثُمَّ يَمَسُّهم مِنّا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿تِلْكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيها إلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ ولا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذا فاصْبِرْ إنَّ العاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾: بُنِيَ الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، فَقِيلَ: القائِلُ هو اللَّهُ تَعالى، وقِيلَ: المَلائِكَةُ (p-٢٣١)تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعالى. والظّاهِرُ الأوَّلُ لِقَوْلِهِ: (مِنّا) و﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ أُمِرَ عِنْدَ نُزُولِهِ بِالهُبُوطِ مِنَ السَّفِينَةِ ومِنَ الجَبَلِ مَعَ أصْحابِهِ لِلِانْتِشارِ في الأرْضِ، والباءُ لِلْحالِ، أيْ: مَصْحُوبًا بِسَلامَةٍ وأمْنٍ وبَرَكاتٍ، وهي الخَيْراتُ النّامِيَةُ في كُلِّ الجِهاتِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اللّامُ بِمَعْنى: التَّسْلِيمِ، أيِ: اهْبِطْ مُسَلَّمًا عَلَيْكَ مُكَرَّمًا. وقُرِئَ: ﴿اهْبِطْ﴾ بِضَمِّ الباءِ، وحَكى عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيى (وبَرَكَةٍ) عَلى التَّوْحِيدِ عَنِ الكِسائِيِّ، وبُشِّرَ بِالسَّلامَةِ إيذانًا لَهُ بِمَغْفِرَةِ رَبِّهِ لَهُ ورَحْمَتِهِ إيّاهُ، وبِإقامَتِهِ في الأرْضِ آمِنًا مِنَ الآفاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إذْ كانَتِ الأرْضُ قَدْ خَلَتْ مِمّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ النَّباتِ والحَيَوانِ، فَكانَ ذَلِكَ تَبْشِيرًا لَهُ بِعَوْدِ الأرْضِ إلى أحْسَنِ حالِها، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿وبَرَكاتٍ عَلَيْكَ﴾ أيْ: دائِمَةٍ باقِيَةٍ عَلَيْكَ. والظّاهِرُ أنَّ مِن لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ: ناشِئَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ، وهُمُ الأُمَمُ المُؤْمِنُونَ إلى آخِرِ الدَّهْرِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِن لِلْبَيانِ، فَتُرادُ الأُمَمُ الَّذِينَ كانُوا مَعَهُ في السَّفِينَةِ لِأنَّهم كانُوا جَماعاتٍ. وقِيلَ لَهم: أُمَمٌ، لِأنَّ الأُمَمَ تَشَعَّبَتْ مِنهُمُ، انْتَهى. وهَذا فِيهِ بُعْدٌ وتَكَلُّفٌ إذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وعَلى أُمَمٍ هم مَن مَعَكَ، ولَوْ أُرِيدَ هَذا المَعْنى لا غِنى عَنْهُ، وعَلى أُمَمٍ مَعَكَ أوْ عَلى مَن مَعَكَ، فَكانَ يَكُونُ أخْصَرَ وأقْرَبَ إلى الفَهْمِ، وأبْعَدَ عَنِ اللَّبْسِ. وارْتَفَعَ أُمَمٌ عَلى الِابْتِداءِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: و﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ صِفَةٌ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ومِمَّنْ مَعَكَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهم، وإنَّما حُذِفَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِمَّنْ مَعَكَ﴾، والمَعْنى: أنَّ السَّلامَ مِنّا والبَرَكاتِ عَلَيْكَ وعَلى أُمَمِ مُؤْمِنِينَ يَنْشَئُونَ مِمَّنْ مَعَكَ. وأُمَمٌ مُمَتَّعُونَ بِالدُّنْيا مُنْقَلِبُونَ إلى النّارِ، انْتَهى. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُمَمٌ مُبْتَدَأً، ومَحْذُوفُ الصِّفَةِ وهي المُسَوِّغَةُ لِجَوازِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ، والتَّقْدِيرُ: وأُمَمٌ مِنهم، أيْ: مِمَّنْ مَعَكَ، أيْ: ناشِئَةٌ مِمَّنْ مَعَكَ، و﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ هو الخَبَرُ كَما قالُوا: السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ، أيْ: مَنَوانِ مِنهُ، فَحُذِفُ مِنهُ وهو صِفَةٌ لَمَنَوانِ، ولِذَلِكَ جازَ الِابْتِداءُ بِمَنَوانِ وهو نَكِرَةٌ. ويَجُوزُ أنْ يُقَدَّرَ مُبْتَدَأٌ ولا يُقَدَّرَ صِفَةُ الخَبَرِ ﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾، ومُسَوِّغُ الِابْتِداءِ كَوْنُ المَكانِ مَكانَ تَفْصِيلٍ، فَكانَ مِثْلَ قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎إذا ما بَكى مِن خَلْفِها انْحَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وشِقٌّ عِنْدَنا لَمْ يُحَوَّلِ وقالَ القُرْطُبِيُّ: ارْتَفَعَتْ وأُمَمٌ عَلى مَعْنى: ويَكُونُ أُمَمٌ، انْتَهى. فَإنْ كانَ أرادَ تَفْسِيرَ مَعْنًى فَحَسَنٌ، وإنْ أرادَ الإعْرابَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأنَّ هَذا لَيْسَ مِن مَواضِعِ إضْمارِ يَكُونُ، وقالَ الأخْفَشُ: هَذا كَما تَقُولُ كَلَّمْتُ: زَيْدًا وعَمْرٌو جالِسٌ، انْتَهى. فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مِن بابِ عَطْفِ الجُمَلِ، واحْتُمِلَ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلْحالِ، وتَكُونُ حالًا مُقَدَّرَةً لِأنَّهُ وقْتَ الأمْرِ بِالهُبُوطِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الأُمَمُ مَوْجُودَةً. وقالَ أبُو البَقاءِ: وأُمَمٌ مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ في اهْبِطْ تَقْدِيرُهُ: اهْبِطْ أنْتَ وأُمَمٌ، وكانَ الفَصْلُ بَيْنَهُما مُغْنِيًا عَنِ التَّأْكِيدِ، و﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ نَعْتٌ لِـ (أُمَمٌ)، انْتَهى. وهَذا التَّقْدِيرُ والمَعْنى لا يَصْلُحانِ، لِأنَّ الَّذِينَ كانُوا مَعَ نُوحٍ في السَّفِينَةِ إنَّما كانُوا مُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: ﴿ومَن آمَنَ﴾ [هود: ٤٠]، ولَمْ يَكُونُوا قِسْمَيْنِ كُفّارًا ومُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُ الكُفّارُ مَأْمُورِينَ بِالهُبُوطِ مَعَ نُوحٍ، إلّا إنْ قَدَّرَ أنَّ مِن أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ مَن يَكْفُرُ بَعْدَ الهُبُوطِ، وأخْبَرَ عَنْهم بِالحالَةِ الَّتِي يَئُولُونَ إلَيْها فَيُمْكِنُ عَلى بُعْدٍ، والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُفْهَمَ مِنَ الآيَةِ أنَّ مَن مَعَهُ يَنْشَأُ مِنهم مُؤْمِنُونَ وكافِرُونَ، ونَبَّهَ عَلى الإيمانِ بِأنَّ المُتَّصِفِينَ بِهِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ سَلامٌ وبَرَكَةٌ، وعَلى الكُفْرِ بِأنَّ المُتَّصِفِينَ بِهِ يُمَتَّعُونَ في الدُّنْيا ثُمَّ يُعَذَّبُونَ في الآخِرَةِ، وذَلِكَ مِن بابِ الكِنايَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلانٌ طَوِيلُ النَّجادِ كَثِيرُ الرَّمادِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: مِمَّنْ مَعَكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ نَشَئُوا مِمَّنْ مَعَهُ، والَّذِينَ كانُوا مَعَهُ في السَّفِينَةِ إنْ كانُوا أوْلادَهُ الثَّلاثَةَ فَقَطْ، أوْ مَعَهم نِساؤُهُمُ، انْتَظَمَ قَوْلُ المُفَسِّرِينَ أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ هو أبُو الخَلْقِ كُلِّهِمْ، وسُمِّيَ آدَمَ الأصْغَرَ لِذَلِكَ وإنْ كانُوا أوْلادَهُ وغَيْرَهم عَلى الِاخْتِلافِ في العَدَدِ، فَإنْ كانَ غَيْرُ أوْلادِهِ ماتَ ولَمْ يَنْسُلْ صَحَّ أنَّهُ أبُو البَشَرِ بَعْدَ آدَمَ، ولَمْ يَصِحَّ أنَّهُ نَشَأ مِمَّنْ مَعَهُ مُؤْمِنٌ وكافِرٌ، إلّا إنْ أُرِيدَ (p-٢٣٢)بِالَّذِينَ مَعَهُ: أوْلادُهُ، فَيَكُونُ مِن إطْلاقِ العامِّ ويُرادُ بِهِ الخاصُّ. وإنْ كانُوا نَسَلُوا كَما عَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، فَلا يَنْتَظِمُ أنَّهُ أبُو البَشَرِ بَعْدَ آدَمَ، بَلِ الخَلْقُ بَعْدَ الطُّوفانِ مِنهُ ومِمَّنْ كانَ مَعَهُ في السَّفِينَةِ. والأُمَمُ المُمَتَّعَةُ لَيْسُوا مُعَيَّنِينَ بَلْ هم عِبارَةٌ عَنِ الكُفّارِ. وقِيلَ: هم قَوْمُ هُودٍ وصالِحٍ ولُوطٍ وشُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. تِلْكَ إشارَةٌ إلى قِصَّةِ نُوحٍ، وتَقَدَّمَتْ أعارِيبُ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٤٤] في آلِ عِمْرانَ، (وتِلْكَ): إشارَةٌ لِلْبَعِيدِ، لِأنَّ بَيْنَ هَذِهِ القِصَّةِ والرَّسُولِ مُدَدًا لا تُحْصى. وقِيلَ: الإشارَةُ بِتِلْكَ إلى آياتِ القُرْآنِ، و﴿مِن أنْباءِ الغَيْبِ﴾ وهو الَّذِي تَقادَمَ عَهْدُهُ ولَمْ يَبْقَ عِلْمُهُ إلّا عِنْدَ اللَّهِ، و﴿نُوحِيها إلَيْكَ﴾ لِيَكُونَ لَكَ هِدايَةً وأُسْوَةً فِيما لَقِيَهُ غَيْرُكَ مِنَ الأنْبِياءِ، ولَمْ يَكُنْ عِلْمُها عِنْدَكَ ولا عِنْدَ قَوْمِكَ، وأعْلَمْناهم بِها لِيَكُونَ مِثالًا لَهم وتَحْذِيرًا أنْ يُصِيبَهم إذا كَذَّبُوكَ ما أصابَ أُولَئِكَ، ولِلَحْظِ هَذا المَعْنى ظَهَرَتْ فَصاحَةُ قَوْلِهِ: فاصْبِرْ عَلى أذاهم مُجْتَهِدًا في التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ، فالعاقِبَةُ لَكَ كَما كانَتْ لِـ نُوحٍ في هَذِهِ القِصَّةِ. ومَعْنى ما كُنْتَ تَعْلَمُها أيْ: مُفَصَّلَةً كَما سَرَدْناها عَلَيْكَ، وعِلْمُ الطُّوفانِ كانَ مَعْلُومًا عِنْدَ العالَمِ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ. والمَجُوسُ الآنَ يُنْكِرُونَهُ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: (ما كُنْتَ) في مَوْضِعِ الحالِ مِن مَفْعُولِ نُوحِيها، أوْ مِن مَجْرُورِ إلَيْكَ، وقَدَّرَها الزَّمَخْشَرِيُّ تَقْدِيرَ مَعْنًى فَقالَ: أيْ مَجْهُولَةً عِنْدَكَ وعِنْدَ قَوْمِكَ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن قَبْلِ هَذا﴾ إلى الوَقْتِ أوْ إلى الإيحاءِ أوْ إلى العِلْمِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ بِالوَحْيِ، احْتِمالاتٌ. وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ (مِن قَبْلِ هَذا القُرْآنِ) وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ولا قَوْمُكَ﴾ مَعْناهُ: أنَّ قَوْمَكَ الَّذِينَ أنْتَ مِنهم عَلى كَثْرَتِهِمْ ووُفُورِ عَدَدِهِمْ إذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَأْنَهم ولا سَمِعُوهُ ولا عَرَفُوهُ، فَكَيْفَ بِرَجُلٍ مِنهم ؟ كَما تَقُولُ: لَمْ يَعْرِفُ هَذا عَبْدُ اللَّهِ ولا أهْلُ بَلَدِهِ ؟ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب