الباحث القرآني
﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها وهم فِيها لا يُبْخَسُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾: مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها، أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ شَيْئًا مِن أحْوالِ الكُفّارِ المُناقِضِينَ في القُرْآنِ، ذَكَرَ شَيْئًا مِن أحْوالِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ وما يَئُولُونَ إلَيْهِ في الآخِرَةِ.
وظاهِرٌ مِنَ العُمُومِ في كُلِّ مَن يُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا، والجَزاءُ مَقْرُونٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعالى كَما بَيَّنَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ﴾ [الإسراء: ١٨] الآيَةَ. وقالَ مُجاهِدٌ: في الكَفَرَةِ، وفي أهْلِ الرِّياءِ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
وإلى هَذا ذَهَبَ مَعُونَةُ حِينَ حُدِّثَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في المُرائِينَ، فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ. وقالَ أنَسٌ: هي في اليَهُودِ والنَّصارى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومَعْنى هَذا: أنَّهم يَدْخُلُونَ في هَذِهِ الآيَةِ لا أنَّها لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ.
وقِيلَ: في المُنافِقِينَ الَّذِينَ جاهَدُوا مَعَ الرَّسُولِ فَأسْهَمَ لَهم، ومَعْنى ﴿يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ أيْ: يَقْصِدُ بِأعْمالِهِ الَّتِي يَظْهَرُ أنَّها صالِحَةٌ الدُّنْيا فَقَطْ، ولا يَعْتَقِدُ آخِرَةً، فَإنَّ اللَّهَ يُجازِيهِ عَلى حُسْنِ أعْمالِهِ كَما جاءَ، وأمّا الكافِرُ فَيُطْعِمُهُ في الدُّنْيا بِحَسَناتِهِ، وإنِ انْدَرَجَ في العُمُومِ المُراءُونَ مِن أهْلِ القِبْلَةِ، كَما تَرى أحَدَهم إذا صَلّى إمامًا يَتَنَغَّمُ بِألْفاظِ القُرْآنِ، ويُرَتِّلُهُ أحْسَنَ تَرْتِيلٍ، ويُطِيلُ رُكُوعَهُ وسُجُودَهُ، ويَتَباكى في قِراءَتِهِ، وإذا صَلّى وحْدَهُ اخْتَلَسَها اخْتِلاسًا، وإذا تَصَدَّقَ أظْهَرَ صَدَقَتَهُ أمامَ مَن يُثْنِي عَلَيْهِ، ودَفَعَها لِمَن لا يَسْتَحِقُّها حَتّى يُثْنِيَ عَلَيْهِ النّاسُ، وأهْلُ الرِّباطِ المُتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ.
وأيْنَ هَذا مِن رَجُلٍ يَتَصَدَّقُ خُفْيَةً وعَلى مَن لا يَعْرِفُهُ، كَما جاءَ في: السَّبْعَةُ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ، ورَجُلٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفاها حَتّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ ما أنْفَقَتْ يَمِينُهُ وهَذِهِ مُبالَغَةٌ في إخْفاءِ الصَّدَقَةِ جِدًّا، وإذا تَعَلَّمَ عِلْمًا راءى بِهِ وتَبَجَّحَ، وطَلَبَ بِمُعْظَمِهِ يَسِيرَ حُطامٍ مِن عَرَضِ الدُّنْيا.
وقَدْ فَشا الرِّياءُ في هَذِهِ الآيَةِ فُشُوًّا كَثِيرًا، حَتّى لا تَكادَ تَرى مُخْلِصًا لِلَّهِ لا في قَوْلٍ، ولا في فِعْلٍ، فَهَؤُلاءِ مِن أوَّلِ مَن تُسَعَّرُ بِهِمُ النّارُ يَوْمَ القِيامَةِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: نُوَفِّ بِنُونِ العَظَمَةِ، وطَلْحَةُ بْنُ مَيْمُونٍ: يُوَفِّ بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُوفِ بِالياءِ مُخَفَّفًا مُضارِعُ أوْفى. وقُرِئَ: تُوَفَّ بِالتّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، و(أعْمالُهم) بِالرَّفْعِ، وهو عَلى هَذِهِ القِراءاتِ مَجْزُومٌ جَوابُ الشَّرْطِ، كَما انْجَزَمَ في قَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ﴾ [الشورى: ٢٠] وحُكِيَ عَنِ الفَرّاءِ أنَّ (p-٢١٠)كانَ زائِدَةٌ، ولِهَذا جُزِمَ الجَوابُ. ولَعَلَّهُ لا يَصِحُّ، إذْ لَوْ كانَتْ زائِدَةً لَكانَ فِعْلُ الشَّرْطِ يُرِيدُ، وكانَ يَكُونُ مَجْزُومًا، وهَذا التَّرْكِيبُ مِن مَجِيءِ فِعْلِ الشَّرْطِ ماضِيًا، والجَوابِ مُضارِعًا لَيْسَ مَخْصُوصًا بِكانَ، بَلْ هو جائِزٌ في غَيْرِها.
كَما رُوِيَ في بَيْتِ زُهَيْرٍ:
؎ومَن هابَ أسْبابَ المَنايا يَنَلْنَهُ ولَوْ رامَ أنْ يَرْقى السَّماءَ بِسُلَّمِ
وقَرَأ الحَسَنُ: تُوفى بِالتَّخْفِيفِ وإثْباتِ الياءِ، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مَجْزُومًا بِحَذْفِ الحَرَكَةِ المُقَدَّرَةِ عَلى لُغَةِ مَن قالَ: ألَمْ يَأْتِيكَ، وهي لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا كَما ارْتَفَعَ في قَوْلِ الشّاعِرِ: يَقُولُ وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجَمِيعِ مَخافَةً جِهارًا ويْلَكم لا تُنَفِّرُوا والحَصْرُ في كَيْنُونَةِ النّارِ لَهم ظاهِرٌ في أنَّ الآيَةَ في الكُفّارِ، فَإنِ انْدَرَجَ أهْلُ الرِّياءِ فِيها فَيَكُونُ المَعْنى في حَقِّهِمْ: لَيْسَ يَجِبُ لَهم أوْ لا يَحِقُّ لَهم إلّا النّارُ كَقَوْلِهِ: ﴿فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ [النساء: ٩٣] وجائِزٌ أنْ يَتَغَمَّدَهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وهو ظاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ جُبَيْرٍ.
والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿ما صَنَعُوا فِيها﴾، الظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى الآخِرَةِ، والمَحْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِحَبِطَ، والمَعْنى: وظَهَرَ حُبُوطُ ما صَنَعُوا في الآخِرَةِ.
ويَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: صَنَعُوا، فَيَكُونُ عائِدًا عَلى الحَياةِ الدُّنْيا، كَما عادَ عَلَيْها في فِيها قَبْلُ. وما في (ما صَنَعُوا) بِمَعْنى: الَّذِي. أوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وباطِلٌ وما بَعْدَهُ تَوْكِيدًا لِقَوْلِهِ: ﴿وحَبِطَ ما صَنَعُوا﴾، وباطِلٌ: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ إنْ كانَ مِن عَطْفِ الجُمَلِ، وما كانُوا هو المُبْتَدَأُ، وإنْ كانَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ ارْتَفَعَ ما بِباطِلٍ عَلى الفاعِلِيَّةِ.
وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وبَطَلَ جَعَلَهُ فِعْلًا ماضِيًا. وقَرَأ أُبَيٌّ وابْنُ مَسْعُودٍ: وباطِلًا بِالنَّصْبِ، وخَرَّجَهُ صاحِبُ اللَّوامِحِ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَيَعْمَلُونَ، فَهو مَعْمُولُ خَبَرِ كانَ مُتَقَدِّمًا.
وما زائِدَةٌ أيْ: وكانُوا يَعْمَلُونَ باطِلًا، وفي جَوازِ هَذا التَّرْكِيبِ خِلافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ. وهو أنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمُولُ الخَبَرِ عَلى الجُمْلَةِ بِأسْرِها مِن كانَ واسْمِها وخَبَرِها، ويَشْهَدُ لِلْجَوابِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أهَؤُلاءِ إيّاكم كانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [سبإ: ٤٠] ومَن مَنَعَ تَأوَّلَ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَنْتَصِبَ باطِلًا عَلى مَعْنى المَصْدَرِ عَلى بَطَلَ بُطْلانًا ما كانُوا يَعْمَلُونَ، فَتَكُونُ ما فاعِلَةً، وتَكُونُ مِن إعْمالِ المَصْدَرِ الَّذِي هو بَدَلٌ مِنَ الفِعْلِ في غَيْرِ الِاسْتِفْهامِ والأمْرِ، وحَقَّ أنْ يُبْطِلَ أعْمالَهم لِأنَّها لَمْ تُعْمَلْ لِوَجْهٍ صَحِيحٍ، والعَمَلُ الباطِلُ لا ثَوابَ لَهُ.
{"ayahs_start":15,"ayahs":["مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا نُوَفِّ إِلَیۡهِمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فِیهَا وَهُمۡ فِیهَا لَا یُبۡخَسُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَیۡسَ لَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا۟ فِیهَا وَبَـٰطِلࣱ مَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ"],"ayah":"أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَیۡسَ لَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا۟ فِیهَا وَبَـٰطِلࣱ مَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق