الباحث القرآني
(p-٢٧٣)﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهم وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي لِاضْطِرارِهِمْ إلى أنْ يَكُونُوا أهْلَ مِلَّةٍ واحِدَةٍ وهي مِلَّةُ الإسْلامِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكم أُمَّةً واحِدَةً﴾ [الأنبياء: ٩٢] وهَذا كَلامٌ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الِاضْطِرارِ، وأنَّهُ لَمْ يَقْهَرْهم عَلى الِاتِّفاقِ عَلى دِينِ الحَقِّ، ولَكِنَّهُ مَكَّنَهم مِنَ الِاخْتِيارِ الَّذِي هو أساسُ التَّكْلِيفِ، فاخْتارَ بَعْضُهُمُ الحَقَّ، وبَعْضُهُمُ الباطِلَ فاخْتَلَفُوا ﴿ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾: إلّا ناسًا هَداهُمُ اللَّهُ ولَطَفَ بِهِمْ فاتَّفَقُوا عَلى دِينِ الحَقِّ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ فِيهِ، انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ: أُمَّةً واحِدَةً مُؤْمِنَةً حَتّى لا يَقَعَ مِنهم كُفْرٌ، لَكِنَّهُ تَعالى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ. وقالَ الضَّحّاكُ: لَوْ شاءَ لَجَعَلَهم عَلى هُدًى أوْ ضَلالَةٍ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ هو مِنَ الِاخْتِلافِ الَّذِي هو ضِدُّ الِاتِّفاقِ، وأنَّ المَعْنى: في الحَقِّ والباطِلِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: في الأدْيانِ، وقالَ الحَسَنُ: في الأرْزاقِ والأحْوالِ مِن تَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وقالَ عِكْرِمَةُ: في الأهْواءِ، وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: المُرادُ أنَّ بَعْضَهم يَخْلُفُ بَعْضًا، فَيَكُونُ الآتِي خَلَفًا لِلْماضِي. قالَ: ومِنهُ قَوْلُهم: ما اخْتَلَفَ الجَدِيدانِ، أيْ: خَلَفَ أحَدُهُما صاحِبَهُ. و﴿إلّا مَن رَحِمَ﴾: اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى أنَّهُ بِمَعْنى لَكِنْ، فَيَكُونُ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الحَوْفِيُّ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾: إلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: ﴿مُخْتَلِفِينَ﴾، كَما قالَ: إذا نَهى السَّفِيهَ جَرى إلَيْهِ. فَعادَ الضَّمِيرُ إلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِنِ اسْمِ الفاعِلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ولِلِاخْتِلافِ خَلَقَهم، ويَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: لِثَمَرَةِ الِاخْتِلافِ مِنَ الشَّقاوَةِ والسَّعادَةِ خَلَقَهم. ودَلَّ عَلى هَذا المَحْذُوفِ أنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ مِن قاعِدَةِ الشَّرِيعَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ خَلْقًا لِلسَّعادَةِ، وخَلْقًا لِلشَّقاوَةِ، ثُمَّ يَسَّرَ كُلًّا لِما خُلِقَ لَهُ، وهَذا نَصٌّ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وهَذِهِ اللّامُ في التَّحْقِيقِ هي لامُ الصَّيْرُورَةِ في ذَلِكَ المَحْذُوفِ، أوْ تَكُونُ لامُ الصَّيْرُورَةِ بِغَيْرِ ذَلِكَ المَحْذُوفِ، أيْ: خَلَقَهم لِيَصِيرَ أمْرُهم إلى الِاخْتِلافِ. ولا يَتَعارَضُ هَذا مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] لِأنَّ مَعْنى هَذا: الأمْرُ بِالعِبادَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: ذَلِكَ إشارَةٌ إلى الرَّحْمَةِ الَّتِي تَضَمَّنَها قَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾، والضَّمِيرُ في (خَلَقَهم) عائِدٌ عَلى المَرْحُومِينَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ: الإشارَةُ بِذَلِكَ إلى الِاخْتِلافِ والرَّحْمَةِ مَعًا، فَيَكُونُ عَلى هَذا أُشِيرَ بِالمُفْرَدِ إلى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: ﴿عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨]، أيْ: بَيْنَ الفارِضِ والبِكْرِ، والضَّمِيرُ في (خَلَقَهم) عائِدٌ عَلى الصِّنْفَيْنِ: المُسْتَثْنى والمُسْتَثْنى مِنهُ، ولَيْسَ في هَذِهِ الجُمْلَةِ ما يُمْكِنُ أنْ يَعُودَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ إلّا الِاخْتِلافَ كَما قالَ الحَسَنُ وعَطاءٌ، أوِ الرَّحْمَةَ كَما قالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ، أوْ كِلاهُما كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ. وقَدْ أبْعَدَ المُتَأوِّلُونَ في تَقْدِيرِ غَيْرِ هَذِهِ الثَّلاثِ، فَرُوِيَ: أنَّهُ إشارَةٌ إلى ما بَعْدَهُ. وفِيهِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، أيْ: وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ، ولِذَلِكَ خَلَقَهم، أيْ: لِمِلْءِ جَهَنَّمَ مِنهم، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا مِن تَراكِيبِ كَلامِ العَرَبِ. وقِيلَ: إشارَةٌ إلى شُهُودِ ذَلِكَ اليَوْمِ المَشْهُودِ، وقِيلَ: إلى قَوْلِهِ: ﴿فَمِنهم شَقِيٌّ وسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥] وقِيلَ: إشارَةٌ إلى أنْ يَكُونَ فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ، وقِيلَ: إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ: ﴿يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ في الأرْضِ﴾ [هود: ١١٦] وقِيلَ: إشارَةٌ إلى العِبادَةِ، وقِيلَ: (p-٢٧٤)إلى الجَنَّةِ والنّارِ، وقِيلَ: لِلسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولِذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ، أوَّلًا: مِنَ التَّمْكِينِ والِاخْتِيارِ الَّذِي عَنْهُ الِاخْتِلافُ، خَلَقَهم لِيُثِيبَ مُخْتارَ الحَقِّ بِحُسْنِ اخْتِيارِهِ، ويُعاقِبَ مُخْتارَ الباطِلِ بِسُوءِ اخْتِيارِهِ، انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. ولَوْلا أنَّ هَذِهِ الأقْوالَ سُطِّرَتْ في كُتُبِ التَّفْسِيرِ لَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِها صَفْحًا.
﴿وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾، أيْ: نَفَذَ قَضاؤُهُ وحَقَّ أمْرُهُ. واللّامُ في (لِأمْلَأنَ): هي الَّتِي يُتَلَقّى بِها القَسَمُ، أوِ الجُمْلَةُ قَبْلَها ضُمِّنَتْ مَعْنى القَسَمِ كَقَوْلِهِ ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ﴾ [آل عمران: ٨١] ثُمَّ قالَ: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ [آل عمران: ٨١]: والجِنَّةُ والجِنُّ بِمَعْنًى واحِدٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والهاءُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ، وإنْ كانَ الجِنُّ يَقَعُ عَلى الواحِدِ، فالجِنَّةُ جَمْعُهُ، انْتَهى.
فَيَكُونُ مِمّا يَكُونُ فِيهِ الواحِدُ بِغَيْرِ هاءٍ، وجَمْعُهُ بِالهاءِ لِقَوْلِ بَعْضِ العَرَبِ: كَمْءٌ لِلْواحِدِ، وكَمْأةٌ لِلْجَمْعِ.
{"ayahs_start":118,"ayahs":["وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۖ وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ","إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَ ٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِینَ"],"ayah":"وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۖ وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق