الباحث القرآني

﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ﴾ ﴿واصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾: سَبَبُ نُزُولِها ما في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي عالَجَ امْرَأةً أجْنَبِيَّةً مِنهُ، فَأصابَ مِنها ما سِوى إتْيانِها فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، واسْتَعْمَلَها الرَّسُولُ ﷺ في قِصَّةِ هَذا (p-٢٧٠)الرَّجُلِ فَقالَ رَجُلٌ: ألَهُ خاصَّةً ؟ قالَ: لا، بَلْ لِلنّاسِ عامَّةً وانْظُرْ إلى الأمْرِ والنَّهْيِ في هَذِهِ الآياتِ، حَيْثُ جاءَ الخِطابُ في الأمْرِ، ﴿فاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ﴾ [هود: ١١٢]، و(أقِمِ الصَّلاةَ) مُوَحَّدًا في الظّاهِرِ، وإنْ كانَ المَأْمُورُ بِهِ مِن حَيْثُ المَعْنى عامًّا، وجاءَ الخِطابُ في النَّهْيِ: ﴿ولا تَرْكَنُوا﴾ [هود: ١١٣] مُوَجَّهًا إلى غَيْرِ الرَّسُولِ ﷺ، مُخاطَبًا بِهِ أُمَّتُهُ، فَحَيْثُ كانَ بِأفْعالِ الخَيْرِ تَوَجَّهَ الخِطابُ إلَيْهِ، وحَيْثُ كانَ بِالنَّهْيِ عَنِ المَحْظُوراتِ عَدَلَ عَنِ الخِطابِ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ مِن أُمَّتِهِ، وهَذا مِن جَلِيلِ الفَصاحَةِ. وخِلافُ أنَّ المَأْمُورَ بِإقامَتِها هي الصَّلَواتُ المَكْتُوبَةُ، وإقامَتُها دَوامُها، وقِيلَ: أداؤُها عَلى تَمامِها، وقِيلَ: فِعْلُها في أفْضَلِ أوْقاتِها، وهي ثَلاثَةُ الأقْوالِ الَّتِي في قَوْلِهِ تَعالى: وأقِيمُوا الصَّلاةَ. وانْتَصَبَ طَرَفَيِ النَّهارِ عَلى الظَّرْفِ. وطَرَفُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْءِ، فالَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُما الصُّبْحُ والعَصْرُ، لِأنَّهُما طَرَفا النَّهارِ، ولِذَلِكَ وقَعَ الإجْماعُ، إلّا مَن شَذَّ عَلى أنَّ مَن أكَلَ أوْ جامَعَ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ مُتَعَمِّدًا أنَّ يَوْمَهُ يَوْمُ فِطْرٍ وعَلَيْهِ القَضاءُ والكَفّارَةُ، وما بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ مِنَ النَّهارِ. وقَدِ ادَّعى الطَّبَرِيُّ والماوَرْدِيُّ الإجْماعَ عَلى أنَّ أحَدَ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ، والخِلافُ في ذَلِكَ عَلى ما نَذْكُرُهُ. ومِمَّنْ قالَ: هُما الصُّبْحُ والعَصْرُ الحَسَنُ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ، وقالَ: الزُّلَفُ المَغْرِبُ والعِشاءُ، ولَيْسَتِ الظّاهِرَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذا القَوْلِ، بَلْ هي في غَيْرِها. وقالَ مُجاهِدٌ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الطَّرَفُ الأوَّلُ الصُّبْحُ، والثّانِي الظُّهْرُ والعَصْرُ، والزُّلَفُ المَغْرِبُ والعِشاءُ، ولَيْسَتِ الصُّبْحَ في هَذِهِ الآيَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ أيْضًا: هُما الصُّبْحُ والمَغْرِبُ، والزُّلَفُ العِشاءُ، ولَيْسَتِ الظُّهْرَ والعَصْرَ في الآيَةِ. وقِيلَ: هُما الظُّهْرُ والعَصْرُ، والزُّلَفُ المَغْرِبُ والعِشاءُ والصُّبْحُ، وكَأنَّ هَذا القائِلَ راعى الجَهْرَ بِالقِراءَةِ والإخْفاءَ. واخْتارَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَ مُجاهِدٍ، وجَعْلُ الظُّهْرِ مِنَ الطَّرَفِ الثّانِي لَيْسَ بِواضِحٍ، إنَّما الظُّهْرُ نِصْفُ النَّهارِ، والنِّصْفُ لا يُسَمّى طَرَفًا إلّا بِمَجازٍ بَعِيدٍ، ورَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ: وهو أنَّ الطَّرَفَيْنِ هُما الصُّبْحُ والمَغْرِبُ، ولا تُجْعَلُ المَغْرِبُ طَرَفًا لِلنَّهارِ إلّا بِمَجازٍ، إنَّما هو طَرَفُ اللَّيْلِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غُدْوَةً وعَشِيَّةً قالَ: وصَلاةُ الغُدْوَةِ الصُّبْحُ، وصَلاةُ العَشِيَّةِ الظَّهْرُ والعَصْرُ، لِأنَّ ما بَعْدَ الزَّوالِ عَشِيٌّ، وصَلاةُ الزُّلَفِ المَغْرِبُ والعِشاءُ انْتَهى. ولا يَلْزَمُ مِن إطْلاقِ العَشِيِّ عَلى ما بَعْدَ الزَّوالِ أنْ يَكُونَ الظُّهْرُ طَرَفًا لِلنَّهارِ، لِأنَّ الأمْرَ إنَّما جاءَ بِالإقامَةِ لِلصَّلاةِ في طَرَفَيِ النَّهارِ، لا في الغَداةِ والعَشِيِّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وزُلَفًا﴾ بِفَتْحِ اللّامِ، وطَلْحَةُ وعِيسى البَصْرَةِ وابْنُ أبِي إسْحاقَ وأبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّها كَأنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ ومُجاهِدٌ: بِإسْكانِها ورُوِيَ عَنْهُما: (وزُلْفى) عَلى وزْنِ فُعْلى عَلى صِفَةِ الواحِدِ مِنَ المُؤَنَّثِ لَمّا كانَتْ بِمَعْنى المَنزِلَةِ. وأمّا القِرَءاتُ الأُخَرُ مِنَ الجُمُوعِ فَمَنزِلَةٌ بَعْدَ مَنزِلَةٍ، فَزُلَفٌ جَمْعٌ كَظُلَمٍ، وزُلْفٌ كَبُسْرٍ في بُسُرٍ، وزُلُفٌ كَبُسُرٍ في بُسْرَةٍ، فَهُما اسْما جِنْسٍ، وزُلْفى بِمَنزِلَةِ الزُّلْفَةِ. والظّاهِرُ عَطْفُ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ عَلى طَرَفَيِ النَّهارِ، عَطَفَ طَرَفًا عَلى طَرَفٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَدْ ذُكِرَ هَذِهِ القِرَآتُ وهو ما يَقْرُبُ مِن آخِرِ النَّهارِ مِنَ اللَّيْلِ. وقِيلَ: زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، وقُرَبًا مِنَ اللَّيْلِ، وحَقُّها عَلى هَذا التَّفْسِيرِ أنْ تُعْطَفَ عَلى الصَّلاةِ أيْ: أقِمِ الصَّلاةَ في النَّهارِ، وأقِمْ زُلْفى مِنَ اللَّيْلِ عَلى مَعْنى صَلَواتٍ يُتَقَرَّبُ بِها إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ في بَعْضِ اللَّيْلِ. والظّاهِرُ عُمُومُ الحَسَناتِ مِنَ الصَّلَواتِ المَفْرُوضَةِ، وصِيامِ رَمَضانَ، وما أشْبَهَهُما مِن فَرائِضِ الإسْلامِ. وخُصُوصُ السَّيِّئاتِ وهي الصَّغائِرُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «ما اجْتُنِبَتِ الكَبائِرُ» وذَهَبَ جُمْهُورُ المُتَأوِّلِينَ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ: إلى أنَّ الحَسَناتِ يُرادُ بِها الصَّلَواتُ الخَمْسُ، وإلَيْهِ ذَهَبَ عُثْمانُ عِنْدَ وُضُوءِهِ عَلى المَقاعِدِ، وهو تَأْوِيلُ مالِكٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: الحَسَناتُ قَوْلُ الرَّجُلِ: سُبْحانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ. ويَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ هَذا كُلُّهُ عَلى جِهَةِ المِثالِ في الحِسابِ، ومِن أجْلِ أنَّ الصَّلَواتِ الخَمْسَ هي أعْظَمُ الأعْمالِ. والصَّغائِرُ الَّتِي تَذْهَبُ هي (p-٢٧١)بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنها وعَدَمِ الإصْرارِ عَلَيْها، وهَذا نَصُّ حُذّاقِ الأُصُولِيِّينَ. ومَعْنى إذْهابِها: تَكْفِيرُ الصَّغائِرِ، والصَّغائِرُ قَدْ وُجِدَتْ وأذْهَبَتِ الحَسَناتُ ما كانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْها، لا أنَّها تَذْهَبُ حَقائِقُها، إذْ هي قَدْ وُجِدَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب