الباحث القرآني

سُورَةُ الكافِرُونَ مَكِّيَّةٌ وهي سِتُّ آياتٍ ﷽ ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾ ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ ﴿لَكم دِينُكم ولِيَ دِينِ﴾ . (p-٥٢١)هَذِهِ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أنَّها مَدَنِيَّةٌ، وذَكَرُوا مِن أسْبابِ نُزُولِها أنَّهم قالُوا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: دَعْ ما أنْتَ فِيهِ ونَحْنُ نُمَوِّلُكَ ونُزَوِّجُكَ مَن شِئْتَ مِن كَرائِمِنا، ونُمَلِّكُكَ عَلَيْنا، وإنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذا فَلْتَعْبُدْ آلِهَتَنا ونَحْنُ نَعْبُدُ إلَهَكَ حَتّى نَشْتَرِكَ، فَحَيْثُ كانَ الخَيْرُ نِلْناهُ جَمِيعًا، ولَمّا كانَ أكْثَرُ شانِئِهِ قُرَيْشًا، وطَلَبُوا مِنهُ أنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهم سَنَةً ويَعْبُدُوا إلَهَهُ سَنَةً، أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ السُّورَةَ تَبَرِّيًا مِنهم وإخْبارًا لا شَكَّ فِيهِ أنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ، وفي قَوْلِهِ: (قُلْ) دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وخِطابُهُ لَهم بـِ ﴿ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ في نادِيهِمْ، ومَكانِ بَسْطَةِ أيْدِيهِمْ مَعَ ما في الوَصْفِ مِنِ الإرْذالِ بِهِمْ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ مَحْرُوسٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى لا يُبالِي بِهِمْ، والكافِرُونَ ناسٌ مَخْصُوصُونَ، وهُمُ الَّذِينَ قالُوا لَهُ تِلْكَ المَقالَةَ: الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، والعاصِي بْنُ وائِلٍ، والأسْوَدُ بْنُ المُطَّلِبِ، وأُمِّيَّةُ وأُبَيٌّ ابْنا خَلَفٍ، وأبُو جَهْلٍ، وابْنا الحَجّاجِ ونُظَراؤُهم مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ، ووافى عَلى الكُفْرِ تَصْدِيقًا لِلْإخْبارِ في قَوْلِهِ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ . ولِلْمُفَسِّرِينَ في هَذِهِ الجُمَلِ أقْوالٌ: أحَدُها: أنَّها لِلتَّوْكِيدِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ . وقَوْلُهُ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ ثانِيًا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ أوَّلًا، والتَّوْكِيدُ في لِسانِ العَرَبِ كَثِيرٌ جِدًّا، وحَكَوْا مِن ذَلِكَ نَظْمًا ونَثْرًا ما لا يَكادُ يُحْصَرُ، وفائِدَةُ هَذا التَّوْكِيدِ قَطْعُ أطْماعِ الكُفّارِ، وتَحْقِيقُ الإخْبارِ بِمُوافاتِهِمْ عَلى الكُفْرِ، وأنَّهم لا يُسْلِمُونَ أبَدًا. والثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ لِلتَّوْكِيدِ، واخْتَلَفُوا، فَقالَ الأخْفَشُ: المَعْنى لا أعْبُدُ السّاعَةَ ما تَعْبُدُونَ، ولا أنْتُمْ عابِدُونَ السَّنَةَ ما أعْبُدُ، ولا أنا عابِدٌ في المُسْتَقْبَلِ ما عَبَدْتُمْ، ولا أنْتُمْ عابِدُونَ في المُسْتَقْبَلِ ما أعْبُدُ، فَزالَ التَّوْكِيدُ، إذْ قَدْ تَقَيَّدَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ بِزَمانٍ مُغايِرٍ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: ما في الأُولَيَيْنِ بِمَعْنى الَّذِي، والمَقْصُودُ المَعْبُودُ، وما في الأُخْرَيَيْنِ مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ لا أعْبُدُ عِبادَتَكُمُ المَبْنِيَّةَ عَلى الشَّكِّ وتَرْكِ النَّظَرِ، ولا أنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِثْلَ عِبادَتِي المَبْنِيَّةِ عَلى اليَقِينِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمّا كانَ قَوْلُهُ: (لا أعْبُدُ) مُحْتَمِلًا أنْ يُرادَ بِهِ الآنَ، ويَبْقى المُسْتَأْنَفُ مُنْتَظَرًا ما يَكُونُ فِيهِ، جاءَ البَيانُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ أبَدًا وما حَيِيتُ، ثُمَّ جاءَ قَوْلُهُ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ الثّانِي حَتْمًا عَلَيْهِمْ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أبَدًا، كالَّذِي كَشَفَ الغَيْبَ، فَهَذا كَما قِيلَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦] . أمّا أنَّ هَذا في مُعَيَّنِينَ، وقَوْمُ نُوحٍ عُمُّوا بِذَلِكَ، فَهَذا مَعْنى التَّرْدِيدِ الَّذِي في السُّورَةِ، وهو بارِعُ الفَصاحَةِ، ولَيْسَ بِتَكْرارٍ فَقَطْ، بَلْ فِيهِ ما ذَكَرْتُهُ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (لا أعْبُدُ) أُرِيدَتْ بِهِ العِبادَةُ فِيما يُسْتَقْبَلُ، لِأنَّ (لا) لا تَدْخُلُ إلّا عَلى مُضارِعٍ في مَعْنى الِاسْتِقْبالِ، كَما أنَّ (ما) لا تَدْخُلُ إلّا عَلى مُضارِعٍ في مَعْنى الحالِ، والمَعْنى: لا أفْعَلُ في المُسْتَقْبَلِ ما تَطْلُبُونَهُ مِنِّي مِن عِبادَةِ آلِهَتِكم، ولا أنْتُمْ فاعِلُونَ فِيهِ ما أطْلُبُ مِنكم مِن عِبادَةِ إلَهِي. (p-٥٢٢)﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ أيْ وما كُنْتُ قَطُّ عابِدًا فِيما سَلَفَ ما عَبَدْتُمْ فِيهِ، يَعْنِي: لَمْ تُعْهَدْ مِنِّي عِبادَةُ صَنَمٍ في الجاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ تُرْجى مِنِّي في الإسْلامِ ؟ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ أيْ وما عَبَدْتُمْ في وقْتٍ ما أنا عَلى عِبادَتِهِ، فَإنْ قُلْتَ: فَهَلّا قِيلَ ما عَبَدْتُ كَما قِيلَ ما عَبَدْتُمْ ؟ قُلْتُ: لِأنَّهم كانُوا يَعْبُدُونَ الأصْنامَ قَبْلَ البَعْثِ، وهو لَمْ يَكُنْ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعالى في ذَلِكَ الوَقْتِ. انْتَهى. أمّا حَصْرُهُ في قَوْلِهِ: لِأنَّ (لا) لا تَدْخُلُ، وفي قَوْلِهِ: (ما) لا تَدْخُلُ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ ذَلِكَ غالِبٌ فِيهِما لا مُتَحَتِّمٌ. وقَدْ ذَكَرَ النُّحاةُ دُخُولَ (لا) عَلى المُضارِعِ يُرادُ بِهِ الحالُ، ودُخُولَ (ما) عَلى المُضارِعِ يُرادُ بِهِ الِاسْتِقْبالُ، وذَلِكَ مَذْكُورٌ في المَبْسُوطاتِ مِن كُتُبِ النَّحْوِ، ولِذَلِكَ لَمْ يُورِدْ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ بِأداةِ الحَصْرِ، إنَّما قالَ: وتَكُونُ لا نَفْيًا لِقَوْلِهِ يَفْعَلُ، ولَمْ يَقَعِ الفِعْلُ، وقالَ: وأمّا ما فَهي نَفْيٌ لِقَوْلِهِ هو يَفْعَلُ إذا كانَ في حالِ الفِعْلِ، فَذَكَرَ الغالِبَ فِيهِما. وأمّا قَوْلُهُ: في قَوْلِهِ ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ أيْ وما كُنْتُ قَطُّ عابِدًا فِيما سَلَفَ ما عَبَدْتُمْ فِيهِ، فَلا يَسْتَقِيمُ؛ لِأنَّ عابِدًا اسْمُ فاعِلٍ قَدْ عَمِلَ في ﴿ما عَبَدْتُمْ﴾، فَلا يُفَسَّرُ بِالماضِي، إنَّما يُفَسَّرُ بِالحالِ أوْ الِاسْتِقْبالِ، ولَيْسَ مَذْهَبُهُ في اسْمِ الفاعِلِ مَذْهَبَ الكِسائِيِّ وهِشامٍ مِن جَوازِ إعْمالِهِ ماضِيًا. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ أيْ وما عَبَدْتُمْ في وقْتٍ ما أنا عَلى عِبادَتِهِ، فَعابِدُونَ قَدْ أعْمَلَهُ فِيما أعْبُدُ، فَلا يُفَسَّرُ بِالماضِي، وأمّا قَوْلُهُ: وهو لَمْ يَكُنْ إلى آخِرِهِ، فَسُوءُ أدَبٍ مِنهُ عَلى مَنصِبِ النُّبُوَّةِ، وهو أيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأنَّهُ ﷺ، لَمْ يَزَلْ مُوَحِّدًا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ مُنَزِّهًا لَهُ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِجَلالِهِ، مُجْتَنِبًا لِأصْنامِهِمْ بِحَجِّ بَيْتِ اللَّهِ، ويَقِفُ بِمَشاعِرِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهَذِهِ عِبادَةٌ لِلَّهِ تَعالى، وأيُّ عِبادَةٍ أعْظَمُ مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى ونَبْذِ أصْنامِهِمْ، والمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ تَعالى مِن أعْظَمِ العِباداتِ، قالَ تَعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] قالَ المُفَسِّرُونَ: مَعْناهُ لِيَعْرِفُونِ، فَسَمّى اللَّهُ تَعالى المَعْرِفَةَ بِهِ عِبادَةً. والَّذِي أخْتارُهُ في هَذِهِ الجُمَلِ أنَّهُ أوَّلًا: نَفى عِبادَتَهُ في المُسْتَقْبَلِ؛ لِأنَّ لا الغالِبُ أنَّها تَنْفِي المُسْتَقْبَلَ، قِيلَ: ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ نَفْيًا لِلْمُسْتَقْبَلِ عَلى سَبِيلِ المُقابَلَةِ، ثُمَّ قالَ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ نَفْيًا لِلْحالِ، لِأنَّ اسْمَ الفاعِلِ العامِلَ الحَقِيقَةُ فِيهِ دَلالَتُهُ عَلى الحالِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ نَفْيًا لِلْحالِ عَلى سَبِيلِ المُقابَلَةِ، فانْتَظَمَ المَعْنى أنَّهُ ﷺ، لا يَعْبُدُ ما يَعْبُدُونَ، لا حالًا ولا مُسْتَقْبَلًا، وهم كَذَلِكَ، إذْ قَدْ حَتَّمَ اللَّهُ مُوافاتَهم عَلى الكُفْرِ، ولَمّا قالَ: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ فَأطْلَقَ ما عَلى الأصْنامِ، قابَلَ الكَلامَ بِما في قَوْلِهِ: (ما أعْبُدُ) وإنْ كانَتْ يُرادُ بِها اللَّهُ تَعالى، لِأنَّ المُقابَلَةَ يَسُوغُ فِيها ما لا يَسُوغُ مَعَ الِانْفِرادِ، وهَذا عَلى مَذْهَبِ مَن يَقُولُ: إنَّ ما لا تَقَعُ عَلى آحادِ مَن يَعْلَمُ، أمّا مَن جَوَّزَ ذَلِكَ، وهو مَنسُوبٌ إلى سِيبَوَيْهِ، فَلا يَحْتاجُ إلى اسْتِعْذارٍ بِالتَّقابُلِ، وقِيلَ: ما مَصْدَرِيَّةٌ في قَوْلِهِ: (ما أعْبُدُ)، وقِيلَ: فِيها جَمِيعِها، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المُرادُ الصِّفَةُ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا أعْبُدُ الباطِلَ، ولا تَعْبُدُونَ الحَقَّ. ﴿لَكم دِينُكم ولِيَ دِينِ﴾ أيْ لَكم شِرْكُكم ولِيَ تَوْحِيدِي، وهَذا غايَةٌ في التَّبَرُّؤِ، ولَمّا كانَ الأهَمُّ انْتِفاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن دِينِهِمْ، بَدَأ بِالنَّفْيِ في الجُمَلِ السّابِقَةِ بِالمَنسُوبِ إلَيْهِ، ولَمّا تَحَقَّقَ النَّفْيُ رَجَعَ إلى خِطابِهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿لَكم دِينُكُمْ﴾ عَلى سَبِيلِ المُهادَنَةِ، وهي مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وقَرَأ سَلامٌ: (دِينِي) بِياءٍ وصْلًا ووَقْفًا، وحَذَفَها القُرّاءُ السَّبْعَةُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب