الباحث القرآني

﴿وقالَ مُوسى رَبَّنا إنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلَأهُ زِينَةً وأمْوالًا في الحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنا اطْمِسْ عَلى أمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ ﴿قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فاسْتَقِيما ولا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾: لَمّا بالَغَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في إظْهارِ المُعْجِزاتِ وهم مُصِرُّونَ عَلى العِنادِ، واشْتَدَّ أذاهم عَلَيْهِ وعَلى مَن آمَنَ مَعَهُ، وهم لا يَزِيدُونَ عَلى عَرْضِ الآياتِ إلّا كُفْرًا، وعَلى الإنْذارِ إلّا اسْتِكْبارًا، وعَلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وطُولِ الصُّحْبَةِ أنَّهُ لا يَجِيءُ مِنهم إلّا الغَيُّ والضَّلالُ، أوْ عَلِمَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، دَعا اللَّهَ تَعالى عَلَيْهِمْ بِما عَلِمَ أنَّهُ لا يَكُونُ غَيْرُهُ كَما تَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ إبْلِيسَ وأخْزى الكَفَرَةَ. كَما دَعا نُوحٌ عَلى قَوْمِهِ حِينَ أُوحِيَ إلَيْهِ ﴿أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦] وقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ الدُّعاءِ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ في الدُّنْيا، وكانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإيمانِ بِهِ ولِشُكْرِ نِعَمِهِ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا لِجُحُودِهِ ولِكُفْرِ نِعَمِهِ. والزِّينَةُ: عِبارَةٌ عَمّا يُتَزَيَّنُ بِهِ ويُتَحَسَّنُ مِنَ المَلْبُوسِ والمَرْكُوبِ والأثاثِ، والمالُ: ما يَزِيدُ عَلى ذَلِكَ مِنَ الصّامِتِ والنّاطِقِ. قالَ المُؤَرِّخُونَ والمُفَسِّرُونَ: كانَ لَهم فُسْطاطُ مِصْرَ إلى أرْضِ الحَبَشَةِ جِبالٌ فِيها مَعادِنُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والزَّبَرْجَدِ والياقُوتِ. وفي تَكْرارِ رَبَّنا تَوْكِيدٌ لِلدُّعاءِ والِاسْتِغاثَةِ، واللّامُ في لِيُضِلُّوا الظّاهِرُ أنَّها لامُ كَيْ عَلى مَعْنى: آتَيْتَهم ما آتَيْتَهم عَلى سَبِيلِ الِاسْتِدْراجِ، فَكانَ الإتْيانُ لِكَيْ يُضِلُّوا. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لامَ الصَّيْرُورَةِ والعاقِبَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] وكَما قالَ الشّاعِرُ: ؎ولِلْمَنايا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ولِلْخَرابِ يَجِدُّ النّاسُ عُمْرانا وقالَ الحَسَنُ: هو دُعاءٌ عَلَيْهِمْ، وبِهَذا بَدَأ الزَّمَخْشَرِيُّ قالَ: كَأنَّهُ قالَ لِيَثْبُتُوا عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ ولِيَكُونُوا ضُلّالًا، ولِيَطْبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا. ويَبْعُدُ أنْ يَكُونَ دُعاءً عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ: (لِيُضِلُّوا) بِضَمِّ الياءِ، إذْ يَبْعُدُ أنْ يَدْعُوَ بِأنْ يَكُونُوا مُضِلِّينَ غَيْرَهم، وهي قِراءَةُ الكُوفِيِّينَ وقَتادَةَ والأعْمَشِ وعِيسى والحَسَنِ والأعْرَجِ بِخِلافٍ عَنْهُما. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ والعَرَبِيّانِ ومُجاهِدٌ وأبُو رَجاءٍ والأعْرَجُ وشَيْبَةُ وأبُو جَعْفَرٍ وأهْلُ مَكَّةَ بِفَتْحِها. وقَرَأ الشَّعْبِيُّ بِكَسْرِها، والى بَيْنَ الكَسَراتِ (p-١٨٧)الثَّلاثِ. وقِيلَ: لا مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: لِئَلّا يَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ قالَهُ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ. وقَرَأ أبُو الفَضْلِ الرَّقاشِيُّ: (أإنَّكَ آتَيْتَ) عَلى الِاسْتِفْهامِ. ولَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الأمْوالِ وهي أعَزُّ ما ادُّخِرَ، دَعا بِالطُّمُوسِ عَلَيْها وهي التَّعْفِيَةُ والتَّغْيِيرُ أوِ الإهْلاكُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: صارَتْ دَراهِمُهم حِجارَةً مَنقُوشَةً صِحاحًا وأثْلاثًا وأنْصافًا، ولَمْ يَبْقَ لَهم مَعْدِنٌ إلّا طَمَسَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِها أحَدٌ بَعْدُ. وقالَ قَتادَةُ: بَلَغَنا أنَّ أمْوالَهم وزُرُوعَهم صارَتْ حِجارَةً. وقالَ مُجاهِدٌ وعَطِيَّةُ: أهْلَكَها حَتّى لا تُرى. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: صارَتْ دَنانِيرُهم ودَراهِمُهم وفُرُشُهم وكُلُّ شَيْءٍ لَهم حِجارَةً. قالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: سَألَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَدَعا بِخَرِيطَةٍ أُصِيبَتْ بِـ مِصْرَ فَأخْرَجَ مِنها الفَواكِهَ والدَّراهِمَ والدَّنانِيرَ، وأنَّها الحِجارَةُ. وقالَ قَتادَةُ والضَّحّاكُ وأبُو صالِحٍ والقُرْطُبِيُّ: جَعَلَ سُكَّرَهم حِجارَةً. وقالَ السُّدِّيُّ: مَسَخَ اللَّهُ الثِّمارَ والنَّخْلَ والأطْعِمَةَ حِجارَةً. وقالَ شَيْخُنا أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ المَقْدِسِيُّ عُرِفَ بِابْنِ النَّقِيبِ، وهو جامِعُ كِتابِ التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ في هَذا الكِتابِ: أخْبَرَنِي جَماعِةٌ مِنَ الصّالِحِينَ كانَ شُغْلُهُمُ السِّياحَةَ: أنَّهم عايَنُوا بِجِبالِ مِصْرَ وبَرارِيها حِجارَةً عَلى هَيْئَةِ الدَّنانِيرِ والدَّراهِمِ، وفِيها آثارُ النَّفْسِ وعَلى هَيْئَةِ الفُلُوسِ، وعَلى هَيْئَةِ البِطِّيخِ العَبْدَوِيِّ وهَيْئَةِ البِطِّيخِ الأخْضَرِ، وعَلى هَيْئَةِ الخِيارِ وعَلى هَيْئَةِ القِثّاءِ، وحِجارَةً مُطَوَّلَةً رَقِيقَةً مُعْوَجَّةً عَلى هَيْئَةِ النُّقُوشِ، ورُبَّما رَأوْا عَلى صُورَةِ الشَّجَرِ. واشْدُدْ: عَلى قُلُوبِهِمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُقاتِلٌ والفَرّاءُ والزَّجّاجُ: اطْبَعْ عَلَيْها وامْنَعْها مِنَ الإيمانِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا والضَّحّاكُ: أهْلِكْهم كُفّارًا. وقالَ مُجاهِدٌ: اشْدُدْ عَلَيْها بِالضَّلالَةِ، وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَسِّ قُلُوبَهم، وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: اشْدُدْ عَلَيْها بِالمَوْتِ، وقالَ الكِرْمانِيُّ: أيْ لا تَجِدُوا سَلْوًا عَنْ أمْوالِهِمْ، ولا صَبْرًا عَلى ذَهابِها. وقَرَأ الشَّعْبِيُّ وفِرْقَةٌ: اطْمُسْ بِضَمِّ المِيمِ، وهي لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ. فَلا يُؤْمِنُوا مَجْزُومٌ عَلى أنَّهُ دُعاءٌ عِنْدَ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ، كَما قالَ الأعْشى: ؎فَلا تَنْبَسِطْ مِن بَيْنِ عَيْنَيْكَ ما انْزَوى ∗∗∗ ولا تَلْقَنِي إلّا وأنْفُكَ راغِمُ ومَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ جَوابُ اشْدُدْ، بَدَأ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، ومَعْطُوفٌ عَلى لِيُضِلُّوا، عَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ قالَهُ الأخْفَشُ وغَيْرُهُ. وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ، أوْ عَلى أنَّهُ مَجْزُومٌ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: أنَّ لامَ لِيُضِلُّوا لامُ الدُّعاءِ، وكَأنَّ رُؤْيَةَ العَذابِ غايَةٌ ونِهايَةٌ، لِأنَّ الإيمانَ إذْ ذاكَ لا يَنْفَعُ ولا يُخْرِجُ مِنَ الكُفْرَ، وكانَ العَذابُ الألِيمُ: غَرَقَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كانَ مُوسى يَدْعُو وهارُونُ يُؤْمِنُ، فَنُسِبَتِ الدَّعْوَةُ إلَيْهِما. ويُمْكِنُ أنْ يَكُونا دَعَوا، ويَبْعُدُ قَوْلُ مَن قالَ: كَنّى عَنِ الواحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، لِأنَّ الآيَةَ تَضَمَّنَتْ بُعْدَ مُخاطَبَتِهِما في غَيْرِ شَيْءٍ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ومُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ والضَّحّاكِ: أنَّ الدَّعْوَةَ لَمْ تَظْهَرْ إجابَتُها إلّا بَعْدَ أرْبَعِينَ سَنَةً، وأعْلَما أنَّ دُعاءَهُما صادَفَ مَقْدُورًا، وهَذا مَعْنى إجابَةِ الدُّعاءِ. وقِيلَ لَهُما: ﴿ولا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾، أيْ: في أنْ تَسْتَعْجِلا قَضائِيَ، فَإنَّ وعْدِيَ لا خُلْفَ لَهُ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ والضَّحّاكُ دَعَواتُكُما عَلى الجَمْعِ. وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْقَعِ: قَدْ أجَبْتُ دَعْوَتَكُما خَبَرًا عَنِ اللَّهِ تَعالى ونَصَبَ دَعْوَةٍ، والرَّبِيعُ: دَعْوَتَيْكُما، وهَذا يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ هارُونَ دَعا مَعَ مُوسى. وقِراءَةُ: (دَعْوَتَيْكُما) تَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَرَأ: قَدْ أجَبْتُ عَلى أنَّهُ فِعْلٌ وفاعِلٌ، ثُمَّ أُمِرا بِالِاسْتِقامَةِ والمَعْنى: الدَّيْمُومَةُ عَلَيْها وعَلى ما أُمِرْتُما بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ تَعالى، وإلْزامِ حُجَّةِ اللَّهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿تَتَّبِعانِّ﴾ بِتَشْدِيدِ التّاءِ والنُّونِ، وابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ ذَكْوانَ بِتَخْفِيفِ التّاءِ وشَدِّ النُّونِ، وابْنُ ذَكْوانَ أيْضًا بِتَشْدِيدِ التّاءِ وتَخْفِيفِ النُّونِ، وفِرْقَةٌ بِتَخْفِيفِ التّاءِ وسُكُونِ النُّونِ، ورَوى ذَلِكَ الأخْفَشُ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ أصْحابِهِ عَنِ ابْنِ عامِرٍ، فَأمّا شَدُّ النُّونِ فَعَلى أنَّها نُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةُ لَحِقَتْ فِعْلَ النَّهْيِ المُتَّصِلَ بِهِ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ، وأمّا تَخْفِيفُها (p-١٨٨)مَكْسُورَةً فَقِيلَ: هي نُونُ التَّوْكِيدِ الخَفِيفَةُ، وكُسِرَتْ كَما كُسِرَتِ الشَّدِيدَةُ. وقَدْ حَكى النَّحْوِيُّونَ كَسْرَ النُّونِ الخَفِيفَةِ في مِثْلِ هَذا عَنِ العَرَبِ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ والكِسائِيِّ أنَّها لا تَدْخُلُ هُنا الخَفِيفَةُ، ويُونُسُ والفَرّاءُ يَرَيانِ ذَلِكَ. وقِيلَ: النُّونُ المَكْسُورَةُ الخَفِيفَةُ هي عَلامَةُ الرَّفْعِ والفِعْلُ مَنفِيٌّ والمُرادُ مِنهُ النَّهْيُ، أوْ هو خَبَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: غَيْرُ مُتَّبِعِينَ قالَهُ الفارِسِيُّ. والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ. أوِ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ القَضاءَ قَبْلَ مَجِيئِهِ، ذَكَرَهُ أبُو سُلَيْمانَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب