الباحث القرآني

(p-١٨٢)﴿قالُوا أجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمّا وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ في الأرْضِ وما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهم مُوسى ألْقُوا ما أنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ ﴿فَلَمّا ألْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ﴾ ﴿ويُحِقُّ اللَّهُ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ ولَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ﴾: أجِئْتَنا: خِطابٌ لِـ مُوسى وحْدَهُ، لِأنَّهُ هو الَّذِي ظَهَرَتْ عَلى يَدَيْهِ مُعْجِزَةُ العَصا واليَدِ. لِتَصْرِفَنا وتَلْوِيَنا: عَمّا وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا: مِن عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، واتِّخاذِ إلَهٍ دُونَهُ. والكِبْرِياءُ مَصْدَرٌ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والضَّحّاكُ وأكْثَرُ المُتَأوِّلِينَ: المُرادُ بِهِ هُنا: المُلْكُ، إذِ المُلُوكُ مَوْصُوفُونَ بِالكِبْرِ، ولِذَلِكَ قِيلَ لِلْمَلِكِ الجَبّارُ، ووُصِفَ بِالصَّدِّ والشَّرَسِ. وقالَ ابْنُ الرُّقَيّاتِ في مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ؎مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيهِ جَبَرُوتٌ مِنهُ ولا كِبْرِياءُ يَعْنِي ما عَلَيْهِ المُلُوكُ مِن ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ الرِّقاعِ: ؎سُؤْدُدٌ غَيْرُ فاحِشٍ لا يُدانِي ∗∗∗ ـهِ تَجِبّارَةٌ ولا كِبْرِياءُ وقالَ الأعْمَشُ: الكِبْرِياءُ العَظَمَةُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: العُلُوُّ. وقالَ الضَّحّاكُ أيْضًا: الطّاعَةُ، والأرْضُ هُنا: أرْضُ مِصْرَ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ وإسْماعِيلُ والحَسَنُ فِيما زَعَمَ خارِجَةُ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ بِخِلافٍ عَنْهُما، وتَكُونُ بِالتّاءِ لِمَجازِ تَأْنِيثِ الكِبْرِياءِ، والجُمْهُورُ بِالياءِ لِمُراعاةِ اللَّفْظِ، والمَعْنى أنَّهم قالُوا: مَقْصُودُكَ في مَجِيئِكَ إلَيْنا بِما جِئْتَ، هو أنْ نَنْتَقِلَ مِن دِينِ آبائِنا إلى ما تَأْمُرُ بِهِ ونُطِيعَكَ، ويَكُونَ لَكُما العُلُوُّ والمُلْكُ عَلَيْنا بِطاعَتِنا لَكَ، فَنَصِيرَ أتْباعًا لَكَ تارِكِينَ دِينَ آبائِنا، وهَذا مَقْصُودٌ لا نَراهُ، فَلا نُصَدِّقُكَ فِيما جِئْتَ بِهِ إذْ غَرَضُكُ إنَّما هو مُوافَقَتُكَ عَلى ما أنْتَ عَلَيْهِ، واسْتِعْلاؤُكَ عَلَيْنا. فالسَّبَبُ الأوَّلُ هو: التَّقْلِيدُ، والثّانِي: الجِدُّ في الرِّئاسَةِ حَتّى لا تَكُونُوا تَبَعًا. واقْتَضى هَذانِ السَّبَبانِ اللَّذانِ تَوَهَّمُوهُما مَقْصُودا التَّصْرِيحِ بِانْتِفاءِ الإيمانِ الَّذِي هو سَبَبٌ لِحُصُولِ السَّبَبَيْنِ. ويَجُوزُ أنْ يَقْصِدُوا الذَّمَّ بِأنَّهُما إنْ مَلَكا أرْضَ مِصْرَ تَكَبَّرا وتَجَبَّرا كَما قالَ القِبْطِيُّ: ﴿إنْ تُرِيدُ إلّا أنْ تَكُونَ جَبّارًا في الأرْضِ﴾ [القصص: ١٩] . ولَمّا ادَّعَوْا أنَّ ما جاءَ بِهِ مُوسى هو سِحْرٌ، أخَذُوا في مُعارَضَتِهِ بِأنْواعٍ مِنَ السِّحْرِ، لِيَظْهَرَ لِسائِرِ النّاسِ أنَّ ما أتى بِهِ مُوسى مِن بابِ السِّحْرِ. والمُخاطَبُ بِقَوْلِهِ: ائْتُونِي، خَدَمَةُ فِرْعَوْنَ والمُتَصَرِّفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ. وقَرَأ ابْنُ مُصَرِّفٍ وابْنُ وثّابٍ وعِيسى وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: بِكُلِّ سَحّارٍ عَلى المُبالَغَةِ. وفي قَوْلِهِ: ﴿ألْقُوا ما أنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ اسْتِطالَةٌ عَلَيْهِمْ وعَدَمُ مُبالاةٍ بِهِمْ. وفِي إبْهامِ ما أنْتُمْ مُلْقُونَ تَخْسِيسٌ لَهُ وتَقْلِيلٌ، وإعْلامٌ أنَّهُ لا شَيْءَ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: كَيْفَ أمَرَهم، فالكُفْرُ والسِّحْرُ والأمْرُ بِالكُفْرِ كُفْرٌ، قُلْنا: إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أمَرَهم بِإلْقاءِ الحِبالِ والعِصِيِّ، لِيُظْهِرَ لِلْخَلْقِ أنَّ ما ألْقَوْا عَمَلٌ فاسِدٌ وسَعْىٌ باطِلٌ، لا عَلى طَرِيقِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أمَرَهم بِالسِّحْرِ، انْتَهى. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو ومُجاهِدٌ وأصْحابُهُ وابْنُ القَعْقاعِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ في قَوْلِهِ: (p-١٨٣)آلسِّحْرُ مَمْدُودَةً، وباقِي السَّبْعَةِ والجُمْهُورُ بِهَمْزَةِ الوَصْلِ، فَعَلى الِاسْتِفْهامِ قالُوا: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما اسْتِفْهامِيَّةً مُبْتَدَأً، والسِّحْرُ بَدَلٌ مِنها، وأنْ تَكُونَ مَنصُوبَةً بِمُضْمَرٍ تَفْسِيرُهُ: جِئْتُمْ بِهِ، والسِّحْرُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. ويَجُوزُ عِنْدِي في هَذا الوَجْهِ أنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً مُبْتَدَأةً، وجُمْلَةُ الِاسْتِفْهامِ خَبَرٌ، إذِ التَّقْدِيرُ: أهْوَ السِّحْرُ أوْ آلسِّحْرُ هو ؟ فَهو الرّابِطُ كَما تَقُولُ: الَّذِي جاءَكَ أزْيَدٌ هو ؟ وعَلى هَمْزَةِ الوَصْلِ جازَ أنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً مُبْتَدَأةً، والخَبَرُ السِّحْرُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ والأعْمَشِ: سِحْرٌ. وقِراءَةُ أُبَيٍّ: ما أتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ. ويَجُوزُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ في هَذا الوَجْهِ اسْتِفْهامِيَّةً في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، أوْ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الِاشْتِغالِ، وهو اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ التَّحْقِيرِ والتَّعْلِيلِ لِما جاءُوا بِهِ، والسِّحْرُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هو السِّحْرُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والتَّعْرِيفُ هُنا في السِّحْرِ أرْتَبُ، لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مُنَكَّرًا في قَوْلِهِمْ: إنَّ هَذا لَسِحْرٌ، فَجاءَ هُنا بِلامِ العَهْدِ كَما يُقالُ أوَّلَ الرِّسالَةِ: سَلامٌ عَلَيْكَ، وفي آخِرِها والسَّلامُ عَلَيْكَ، انْتَهى. وهَذا أخَذَهُ مِنَ الفَرّاءِ. قالَ الفَرّاءُ: وإنَّما قالَ السِّحْرُ بِالألِفِ واللّامِ، لِأنَّ النَّكِرَةَ إذا أُعِيدَتْ أُعِيدَتْ بِالألِفِ واللّامِ، ولَوْ قالَ لَهُ: مَن رَجُلٌ ؟ لَمْ يَقَعْ في وهْمِهِ أنَّهُ يَسْألُهُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ لَهُ، انْتَهى. وما ذَكَراهُ هُنا في السِّحْرِ لَيْسَ هو مِن بابِ تَقَدُّمِ النَّكِرَةِ، ثُمَّ أُخْبِرَ عَنْها بَعْدَ ذَلِكَ، لِأنَّ شَرْطَ هَذا أنْ يَكُونَ المُعَرَّفُ بِالألِفِ واللّامِ هو النَّكِرَةُ المُتَقَدِّمُ، ولا يَكُونَ غَيْرَهُ كَما قالَ تَعالى: ﴿كَما أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ [المزمل: ١٥] ﴿فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل: ١٦] وتَقُولُ: زارَنِي رَجُلٌ فَأكْرَمْتُ الرَّجُلَ، ولَمّا كانَ إيّاهُ جازَ أنْ يُأْتى بِالضَّمِيرِ بَدَلَهُ فَتَقُولُ: فَأكْرَمْتُهُ. والسِّحْرُ هُنا لَيْسَ هو السِّحْرُ الَّذِي هو في قَوْلِهِمْ: إنَّ هَذا لَسِحْرٌ، لِأنَّ الَّذِي أخْبَرُوا عَنْهُ بِأنَّهُ سِحْرٌ هو ما ظَهَرَ عَلى يَدَيْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن مُعْجِزَةِ العَصا، والسِّحْرُ الَّذِي في قَوْلِ مُوسى إنَّما هو سِحْرُهُمُ الَّذِي جاءُوا بِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ المَدْلُولانِ وقالُوا هم عَنْ مُعْجِزَةِ مُوسى وقالَ مُوسى عَمّا جاءُوا بِهِ، ولِذَلِكَ لا يَجُوزُ أنْ يُأْتى هُنا بِالضَّمِيرِ بَدَلَ السِّحْرِ، فَيَكُونُ عائِدًا عَلى قَوْلِهِمُ السِّحْرَ. والظّاهِرُ أنَّ الجُمَلَ بَعْدَهُ مِن كَلامِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وسَيُبْطِلُهُ: يَمْحَقُهُ، بِحَيْثُ يَذْهَبُ أوْ يُظْهِرُ بُطْلانَهُ بِإظْهارِ المُعْجِزَةِ عَلى الشَّعْوَذَةِ. وقِيلَ: هَذِهِ الجُمَلُ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى. ومَعْنى بِكَلِماتِهِ: بِقَضاياهُ السّابِقَةِ في وعْدِهِ. وقالَ ابْنُ سَلّامٍ: بِكَلِماتِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَخَفْ إنَّكَ أنْتَ الأعْلى﴾ [طه: ٦٨] وقِيلَ بِكَلِماتِهِ: بِحُجَجِهِ وبَراهِينِهِ وقُرِئَ: بِكَلِمَتِهِ عَلى التَّوْحِيدِ، أيْ بِأمْرِهِ ومَشِيئَتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب