الباحث القرآني

﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ نُوحٍ إذْ قالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكم مَقامِي وتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأجْمِعُوا أمْرَكم وشُرَكاءَكم ثُمَّ لا يَكُنْ أمْرُكم عَلَيْكم غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ ولا تُنْظِرُونِ﴾ ﴿فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَألْتُكم مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ ومَن مَعَهُ في الفُلْكِ وجَعَلْناهم خَلائِفَ وأغْرَقْنا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُنْذَرِينَ﴾ ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ فَجاءُوهم بِالبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ﴾ ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِمْ مُوسى وهارُونَ إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِآياتِنا فاسْتَكْبَرُوا وكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ [يونس: ٧٥] ﴿فَلَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ مِن عِنْدِنا قالُوا إنَّ هَذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [يونس: ٧٦] ﴿قالَ مُوسى أتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمّا جاءَكم أسِحْرٌ هَذا ولا يُفْلِحُ السّاحِرُونَ﴾ [يونس: ٧٧] ﴿قالُوا أجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمّا وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ في الأرْضِ وما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٧٨] لَفَتَ عُنُقَهُ: لَواها وصَرَفَها. وقالَ الأزْهَرِيُّ: لَفَتَ الشَّيْءَ وفَتَلَهُ: لَواهُ وهَذا مِنَ المَقْلُوبِ، انْتَهى. ومُطاوِعُ لَفَتَ: التَفَتَ، وقِيلَ: انْفَتَلَ. ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ نُوحٍ إذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكم مَقامِي وتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأجْمِعُوا أمْرَكم وشُرَكاءَكم ثُمَّ لا يَكُنْ أمْرُكم عَلَيْكم غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ ولا تُنْظِرُونِ﴾: لَمّا ذَكَرَ تَعالى الدَّلائِلَ عَلى وحْدانِيَّتِهِ، وذَكَرَ ما جَرى بَيْنَ الرَّسُولِ وبَيْنَ الكُفّارِ، ذَكَرَ قَصَصًا مِن قَصَصِ الأنْبِياءِ وما جَرى لَهم مَعَ قَوْمِهِمْ مِنَ الخِلافِ، وذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ ولِيَتَأسّى بِمَن قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ فَيَخِفَّ عَلَيْهِ ما يَلْقى مِنهم مِنَ التَّكْذِيبِ وقِلَّةِ الِاتِّباعِ، ولِيَعْلَمَ المَتْلُوُّ عَلَيْهِمْ هَذا القَصَصُ عاقِبَةَ مَن كَذَّبَ الأنْبِياءَ، وما مَنَحَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ العِلْمِ بِهَذا القَصَصِ وهو لَمْ يُطالِعْ كِتابًا ولا صَحِبَ عالِمًا، وأنَّها طِبْقُ ما أخْبَرَ بِهِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ اللَّهَ أوْحاهُ إلَيْهِ وأعْلَمَهُ بِهِ، وأنَّهُ نَبِيٌّ لا شَكَّ فِيهِ. والضَّمِيرُ في عَلَيْهِمْ عائِدٌ عَلى أهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم. وكَبُرَ مَعْناهُ: عَظُمَ مَقامِي، أيْ: طُولُ مَقامِي فِيكم، أوْ قِيامِي لِلْوَعْظِ. كَما يُحْكى عَنْ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ كانَ يَعِظُ الحَوارِيِّينَ قائِمًا لِيَرَوْهُ وهم قُعُودٌ، وكَقِيامِ الخَطِيبِ لِيَسْمَعَ النّاسُ ولِيَرَوْهُ، أوْ نَسَبَ ذَلِكَ إلى مَقامِهِ والمُرادُ نَفْسُهُ كَما تَقُولُ: فَعَلْتُ كَذا لِمَكانِ فُلانٍ، وفُلانٌ ثَقِيلُ الظِّلِّ تُرِيدُ لِأجْلِ فُلانٍ وفُلانٌ ثَقِيلٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَمْ يُقْرَأْ هُنا بِضَمِّ المِيمِ، انْتَهى. ولَيْسَ كَما ذَكَرَ، بَلْ قَرَأ مُقامِي بِضَمِّ المِيمِ أبُو مِجْلَزٍ وأبُو رَجاءٍ وأبُو الجَوْزاءِ. والمُقامُ الإقامَةُ بِالمَكانِ، والمَقامُ مَكانُ القِيامِ. والتَّذْكِيرُ وعْظُهُ إيّاهم وزَجْرُهم عَنِ المَعاصِي، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فافْعَلُوا ما شِئْتُمْ. وقِيلَ: الجَوابُ فَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ. و(فَأجْمِعُوا) مَعْطُوفٌ عَلى الجَوابِ، وهو لا يَظْهَرُ لِأنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلى اللَّهِ دائِمًا. وقالَ الأكْثَرُونَ: الجَوابُ فَأجْمِعُوا، وفَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ جُمْلَةُ اعْتِراضٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وجَزائِهِ كَقَوْلِهِ: ؎أما تَرَيْنِي قَدْ نَحَلْتُ ومَن يَكُنْ غَرَضًا لِأطْرافِ الأسِنَّةِ يَنْحَلِ ؎فَلَرُبَّ أبْلَجَ مِثْلِ ثِقَلِكِ بادِنٍ ∗∗∗ ضَخْمٍ عَلى ظَهْرِ الجَوادِ مُهَبَّلِ وقَرَأ الجُمْهُورُ: فَأجْمِعُوا مِن أجْمَعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ عَزَمَ عَلَيْهِ ونَواهُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎أجْمَعُوا أمْرَهم بِلَيْلٍ فَلَمّا ∗∗∗ أصْبَحُوا أصْبَحَتْ لَهم ضَوْضاءُ وقالَ آخَرُ:(p-١٧٩) ؎يا لَيْتَ شِعْرِي والمُنى لا تَنْفَعُ ∗∗∗ هَلْ أعْذَرْتَ يَوْمًا وأمْرِي مُجْمَعُ وقالَ أبُو قَيْدٍ السَّدُوسِيُّ: أجْمَعْتُ الأمْرَ: أفْصَحُ مِن أجْمَعْتُ عَلَيْهِ. وقالَ أبُو الهَيْثَمِ: أجْمَعَ أمْرَهُ: جَعَلَهُ مَجْمُوعًا بَعْدَما كانَ مُتَفَرِّقًا، قالَ: وتَفْرِقَتُهُ أنَّهُ يَقُولُ مَرَّةً أفْعَلُ كَذا، ومَرَّةً أفْعَلُ كَذا، فَإذا عَزَمَ عَلى أمْرٍ واحِدٍ قَدْ جَعَلَهُ، أيْ: جَعَلَهُ جَمِيعًا، فَهَذا هو الأصْلُ في الإجْماعِ، ثُمَّ صارَ بِمَعْنى العَزْمِ حَتّى وُصِلَ بِعَلى، فَقِيلَ: أجْمَعْتُ عَلى الأمْرِ، أيْ عَزَمْتُ عَلَيْهِ، والأصْلُ أجْمَعْتُ الأمْرَ، انْتَهى. وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ يَكُونُ، وشُرَكاءَكم عَطْفًا عَلى أمْرَكم عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: وأمْرُ شُرَكائِكم، أوْ عَلى أمْرِكم مِن غَيْرِ مُراعاةِ مَحْذُوفٍ. لِأنَّهُ يُقالُ أيْضًا: أجْمَعْتُ شُرَكائِي، أوْ مَنصُوبًا بِإضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: وادْعُوا شُرَكاءَكم، وذَلِكَ بِناءً عَلى أنَّهُ لا يُقالُ أجْمَعْتُ شُرَكائِي يَعْنِي في الأكْثَرِ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: ؎فَعَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا ∗∗∗ حَتّى شَتَتْ هَمّالَةً عَيْناها فِي أحَدِ المَذْهَبَيْنِ، أيْ: وسَقَيْتُها ماءً بارِدًا، وكَذا هي في مُصْحَفِ أُبَيٍّ: وادْعُوا شُرَكاءَكم. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: وقَدْ تُنْصَبُ الشُّرَكاءُ بِواوِ مَعَ، كَما قالُوا: جاءَ البَرْدُ والطَّيالِسَةِ. ولَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ في نَصْبِ وشُرَكاءَكم غَيْرَ قَوْلِ أُبَيٍّ عَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ بِواوِ مَعَ، ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ هَذا التَّخْرِيجُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ مِنَ الفاعِلِ، وهو الضَّمِيرُ في فَأجْمِعُوا لا مِنَ المَفْعُولِ الَّذِي هو أمْرُكم، وذَلِكَ عَلى أشْهَرِ الِاسْتِعْمالَيْنِ. لِأنَّهُ يُقالُ: أجْمَعَ الشُّرَكاءُ، ولا يُقالُ جَمَعَ الشُّرَكاءُ أمْرَهم إلّا قَلِيلًا، ولا أجْمَعَتِ الشُّرَكاءُ إلّا قَلِيلًا. وفِي اشْتِراطِ صِحَّةِ جَوازِ العَطْفِ فِيما يَكُونُ مَفْعُولًا مَعَهُ خِلافٌ، فَإذا جَعَلْناهُ مِنَ الفاعِلِ كانَ أوْلى. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ والأعْمَشُ والجَحْدَرِيُّ وأبُو رَجاءٍ والأعْرَجُ والأصْمَعِيُّ عَنْ نافِعٍ ويَعْقُوبَ بِخِلافٍ عَنْهُ: فاجْمَعُوا بِوَصْلِ الألِفِ وفَتْحِ المِيمِ مِن جَمَعَ، وشُرَكاءَكم عَطْفٌ عَلى أمْرَكم لِأنَّهُ يُقالُ: شُرَكائِي، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، أوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: ذَوِي الأمْرِ مِنكم، فَجَرى عَلى المُضافِ إلَيْهِ ما جَرى عَلى المُضافِ لَوْ ثَبَتَ، قالَهُ أبُو عَلِيٍّ. وفِي كِتابِ اللَّوامِحِ: أجْمَعْتُ الأمْرَ، أيْ جَعَلْتُهُ جَمِيعًا، وجَمَعْتُ الأمْوالَ جَمِيعًا، فَكانَ الإجْماعُ في الأحْداثِ والجَمْعُ في الأعْيانِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ واحِدٍ مَكانَ الآخَرِ. وفي التَّنْزِيلِ: ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ [طه: ٦٠]، انْتَهى. وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ والحَسَنُ وابْنُ أبِي إسْحاقَ وعِيسى بْنُ عُمَرَ وسَلّامٌ و يَعْقُوبُ فِيما رُوِيَ عَنْهُ: وشُرَكاؤُكم بِالرَّفْعِ، ووُجِّهَ بِأنَّهُ عَطْفٌ عَلى الضَّمِيرِ في فَأجْمِعُوا وقَدْ وقَعَ الفَصْلُ بِالمَفْعُولِ فَحَسُنَ، وعَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ لِدِلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أيْ: وشُرَكاؤُكم فَلْيُجْمِعُوا أمْرَهم. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: وشُرَكائِكم بِالخَفْضِ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في (أمْرَكم) أيْ: وأمْرَ شُرَكائِكم فَحُذِفَ كَقَوْلِ الآخَرِ: ؎أكُلِّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَءًا ∗∗∗ ونارٍ تُوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نارا أيْ: وكُلُّ نارٍ، فَحَذَفَ كُلَّ لِدِلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ. والمُرادُ بِالشُّرَكاءِ الأنْدادُ مِن دُونِ اللَّهِ، أضافَهم إلَيْهِمْ إذْ هم يَجْعَلُونَهم شُرَكاءَ بِزَعْمِهِمْ، وأسْنَدَ الإجْماعَ إلى الشُّرَكاءِ عَلى وجْهِ التَّهَكُّمِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكم ثُمَّ كِيدُونِ﴾ [الأعراف: ١٩٥] أوْ يُرادُ بِالشُّرَكاءِ مَن كانَ عَلى دِينِهِمْ وطَرِيقَتِهِمْ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: المُرادُ مِنَ الأمْرِ هُنا: وُجُودُ كَيْدِهِمْ ومَكْرِهِمْ، فالتَّقْدِيرُ: لا تَتْرُكُوا مِن أمْرِكم شَيْئًا إلّا أحْضَرْتُمُوهُ، انْتَهى. وأمْرُهُ إيّاهم بِإجْماعِ أمْرِهِمْ دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ مُبالاتِهِ بِهِمْ، ثِقَةً بِما وعَدَهُ رَبُّهُ مِن كِلاءَتِهِ وعِصْمَتِهِ، ثُمَّ لا يَكُنْ أمْرُكم عَلَيْكم غُمَّةً، أيْ: حالُكم مَعِي وصُحْبَتُكم لِي غَمًّا وهَمًّا، أيْ: ثُمَّ أهْلِكُونِي لِئَلّا يَكُونَ عَيْشُكم بِسَبَبِي غُصَّةً، وحالُكم عَلَيْكم غُمَّةً. والغَمُّ والغُمَّةُ كالكَرْبِ والكُرْبَةِ، قالَ أبُو الهَيْثَمِ: هو مِن قَوْلِهِمْ: غَمَّ عَلَيْنا الهِلالُ فَهو مَغْمُومٌ إذا التُمِسَ فَلَمْ يُرَ. وقالَ طَرَفَةُ: ؎لَعَمْرُكَ ما أمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ∗∗∗ نَهارِي ولا لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ (p-١٨٠)وقالَ اللَّيْثُ: يُقالُ: إنَّهُ لَفي غُمَّةٍ مِن أمْرِهِ إذا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ. وقالَ الزَّجّاجُ: أمْرُكم ظاهِرٌ مَكْشُوفٌ، وحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ: وقَدْ ذَكَرَ القَوْلَ الأوَّلَ الَّذِي يُرادُ بِالأمْرِ فَقالَ: والثّانِي أنْ يُرادَ بِهِ ما أُرِيدَ بِالأمْرِ الأوَّلِ. والغُمَّةُ: السُّتْرَةُ، مِن غَمَّهُ إذا سَتَرَهُ. ومِنهُ قَوْلُهُ ﷺ: «ولا غُمَّةَ في فَرائِضِ اللَّهِ تَعالى» أيْ: لا تُسْتَرُ ولَكِنْ يُجاهَرُ بِها، يَعْنِي: ولا يَكُنْ قَصْدُكم إلى إهْلاكِي مَسْتُورًا عَلَيْكم، بَلْ مَكْشُوفًا مَشْهُورًا تُجاهِرُونَ بِهِ، انْتَهى. ومَعْنى اقْضُوا إلَيَّ: أنْفِذُوا قَضاءَكم نَحْوِي، ومَفْعُولُ اقْضُوا مَحْذُوفٌ، أيِ: اقْضُوا إلَيَّ ذَلِكَ الأمْرَ وامْضُوا في أنْفُسِكم، واقْطَعُوا ما بَيْنِي وبَيْنَكم. وقَرَأ السَّرِيُّ بْنُ يَنْعُمَ: ثُمَّ أفْضُوا بِالفاءِ وقَطْعِ الألْفِ، أيِ: انْتَهُوا إلَيَّ بِشَرِّكم، مِن أفْضى بِكَذا: انْتَهى إلَيْهِ. وقِيلَ: مَعْناهُ أسْرِعُوا. وقِيلَ: مِن أفْضى إذا خَرَجَ إلى الفَضاءِ، أيْ: فَأصْحِرُوا بِهِ إلَيَّ وأبْرِزُوهُ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎أبى الضَّيْمَ والنُّعْمانُ يَحْرِقُ نابُهُ ∗∗∗ عَلَيْهِ فَأفْضى والسُّيُوفُ مَعاقِلُهْ ولا تُنْظِرُونِ أيْ: لا تُؤَخِّرُونِ، والنَّظِرَةُ التَّأْخِيرُ ﴿فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَألْتُكم مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ ومَن مَعَهُ في الفُلْكِ وجَعَلْناهم خَلائِفَ وأغْرَقْنا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُنْذَرِينَ﴾:، أيْ: فَإنْ دامَ تَوَلِّيكم عَمّا جِئْتُ بِهِ إلَيْكم مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ ورَفْضِ آلِهَتِكم فَلَسْتُ أُبالِي بِكم، لِأنَّ تَوَلِّيَكم لا يَضُرُّنِي في خاصَّتِي، ولا قَطَعَ عَنِّي صِلَةً مِنكم، إذْ ما دَعَوْتُكم إلَيْهِ وذَكَّرْتُكم بِهِ ووَعَظْتُكم، لَمْ أسْألْكم عَلَيْهِ أجْرًا، إنَّما يُثِيبُنِي عَلَيْهِ اللَّهُ تَعالى، أيْ: ما نَصَحْتُكم إلّا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعالى لا لِغَرَضٍ مِن أغْراضِ الدُّنْيا، ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهُ أمَرَهُ أنْ يَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ مِنَ المُنْقادِينَ لِأمْرِ اللَّهِ الطّائِعِينَ لَهُ، فَكَذَّبُوهُ فَتَمُّوا عَلى تَكْذِيبِهِ، وذَلِكَ عِنْدَ مُشارَفَةِ الهَلاكِ بِالطُّوفانِ. وفِي الفُلْكِ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقْرارِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مَعَهُ، أوْ بِـ (فَنَجَّيْناهُ) و(جَعَلْناهم): جُمِعُ ضَمِيرُ المَفْعُولِ عَلى مَعْنى مِن، و(خَلائِفَ) يَخْلُفُونَ الفارِقِينَ المُهْلَكِينَ. ثُمَّ أمَرَ بِالنَّظَرِ في عاقِبَةِ المُنْذَرِينَ بِالعَذابِ، وإلى ما صارَ إلَيْهِ حالُهم. وفي هَذا الإخْبارِ تَوَعُّدٌ لِلْكُفّارِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وضَرْبُ مِثالٍ لَهم في أنَّهم بِحالِ هَؤُلاءِ مِنَ التَّكْذِيبِ فَسَيَكُونُ حالُهم كَحالِهِمْ في التَّعْذِيبِ. والخِطابُ في فانْظُرْ لِلسّامِعِ لِهَذِهِ القِصَّةِ، وفي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِما جَرى عَلَيْهِمْ، وتَحْذِيرٌ لِمَن أنْذَرَهُمُ الرَّسُولُ، وتَسْلِيَةٌ لَهُ ﷺ . ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ فَجاءُوهم بِالبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ﴾: مِن بَعْدِهِ، أيْ: مِن بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ، يَعْنِي هُودًا وصالِحًا ولُوطًا وإبْراهِيمَ وشُعَيْبًا. والبَيِّناتُ: المُعْجِزاتُ، والبَراهِينُ الواضِحَةُ المُثْبِتَةُ لِما جاءُوا بِهِ. وجاءَ النَّفْيُ مَصْحُوبًا بِلامِ الجُحُودِ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ إيمانَهم في حَيِّزِ الِاسْتِحالَةِ والِامْتِناعِ، والضَّمِيرُ في كَذَّبُوا عائِدٌ عَلى مَن عادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ كانُوا وهم قَوْمُ الرُّسُلِ. والمَعْنى: أنَّهم كانُوا قَبْلَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ أهْلَ جاهِلِيَّةٍ وتَكْذِيبٍ لِلْحَقِّ، فَتَساوَتْ حالَتُهم قَبْلَ البِعْثَةِ وبَعْدُها، كَأنْ لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ أحَدٌ. ومِن قَبْلُ مُتَعَلِّقٌ بِكَذَّبُوا، أيْ: مِن قَبْلِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ. وقِيلَ: المَعْنى أنَّهم بادَرُوا رُسُلَهم بِالتَّكْذِيبِ كُلَّما جاءَ رَسُولٌ، ثُمَّ لَحُّوا في الكُفْرِ وتَمادَوْا، فَلَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِما سَبَقَ بِهِ تَكْذِيبُهم مِن قَبْلِ لَحِّهِمْ في الكُفْرِ وتَمادِيهِمْ. وقالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ: مِن (p-١٨١)قَبْلُ مَعْناهُ مِن قَبْلِ العَذابِ، وهَذا القَوْلُ فِيهِ بُعْدٌ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في كَذَّبُوا عائِدٌ عَلى قَوْمِ نُوحٍ، أيْ: فَما كانَ قَوْمُ الرُّسُلِ لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبَ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ، يَعْنِي: أنَّ شِنْشِنَتَهم واحِدَةٌ في التَّكْذِيبِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ اللَّفْظُ عِنْدِي مَعْنًى آخَرَ وهو: أنْ تَكُونَ ما مَصْدَرِيَّةً والمَعْنى: فَكَذَّبُوا رُسُلَهم فَكانَ عِقابُهم مِنَ اللَّهِ أنْ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِتَكْذِيبِهِمْ مِن قَبْلُ، أيْ: مِن سَبَبِهِ ومِن جَرّائِهِ، ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ كَذَلِكَ نَطْبَعُ، انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ ما مَوْصُولَةٌ، ولِذَلِكَ عادَ الضَّمِيرُ عَلَيْها في قَوْلِهِ: بِما كَذَّبُوا بِهِ. ولَوْ كانَتْ مَصْدَرِيَّةً بَقِيَ الضَّمِيرُ غَيْرَ عائِدٍ عَلى مَذْكُورٍ، فَتَحْتاجُ أنْ يُتَكَلَّفَ ما يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: نَطْبَعُ بِالنُّونِ، والعَبّاسُ بْنُ الفَضْلِ بِالياءِ، والكافُ لِلتَّشْبِيهِ، أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ المُحْكَمِ الَّذِي يَمْتَنِعُ زَوالُهُ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ المُجاوِزِينَ طَوْرَهم والمُبالِغِينَ في الكُفْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب