الباحث القرآني
﴿وما تَكُونُ في شَأْنٍ وما تَتْلُو مِنهُ مِن قُرْآنٍ ولا تَعْمَلُونَ مِن عَمَلٍ إلّا كُنّا عَلَيْكم شُهُودًا إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ ولا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرَ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾: مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ جُمْلَةً مِن أحْوالِ الكُفّارِ ومَذاهِبِهِمْ والرَّدَّ عَلَيْهِمْ، ومُحاوَرَةَ الرَّسُولِ ﷺ لَهم، وذَكَرَ فَضْلَهُ تَعالى عَلى النّاسِ وأنَّ أكْثَرَهم لا يَشْكُرُهُ عَلى فَضْلِهِ، ذَكَرَ تَعالى اطِّلاعَهُ عَلى أحْوالِهِمْ وحالِ الرَّسُولِ مَعَهم في مُجاهَدَتِهِ لَهم، وتِلاوَةِ القُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وأنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِجَمِيعِ أعْمالِهِمْ، واسْتَطْرَدَ مِن ذَلِكَ إلى ذِكْرِ أوْلِياءِ اللَّهِ تَعالى، لِيُظْهِرَ التَّفاوُتَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ (p-١٧٤)فَرِيقِ الشَّيْطانِ وفَرِيقِ الرَّحْمَنِ. والخِطابُ في قَوْلِهِ تَعالى: وما تَكُونُ في شَأْنٍ، وما تَتْلُو لِلرَّسُولِ ﷺ وهو عامٌّ بِجَمِيعٍ شُئُونِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ. وما تَتْلُو مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عُمُومِ شَأْنٍ، وانْدَرَجَ مِن حَيْثُ المَعْنى في الخِطابِ كُلُّ ذِي شَأْنٍ.
وما في الجُمْلَتَيْنِ نافِيَةٌ، والضَّمِيرُ في مِنهُ عائِدٌ عَلى شَأْنٍ، ومِن قُرْآنٍ تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرِ، وخُصَّ مِنَ العُمُومِ لِأنَّ القُرْآنَ هو أعْظَمُ شُئُونِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى التَّنْزِيلِ، وفُسِّرَ بِالقُرْآنِ لِأنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنهُ قُرْآنٌ، وأُضْمِرَ قَبْلَ الذِّكْرِ عَلى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لَهُ.
وقِيلَ: يَعُودُ عَلى اللَّهِ تَعالى، أيْ: وما تَتْلُو مِن عِنْدِ اللَّهِ مِن قُرْآنٍ. والخِطابُ في قَوْلِهِ: ولا تَعْمَلُونَ عامٌّ، وكَذا إلّا كُنّا عَلَيْكم شُهُودًا. ووَلِيَ إلّا هُنا الفِعْلُ غَيْرَ مَصْحُوبٍ بِقَدْ، لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ إلّا فِعْلٌ.
والجُمْلَةُ بَعْدَ إلّا حالٌ وشُهُودًا رُقَباءَ نُحْصِي عَلَيْكم، وإذْ مَعْمُولَةٌ لِقَوْلِهِ: شُهُودًا. ولَمّا كانَتِ الأفْعالُ السّابِقَةُ المُرادُ بِها الحالَةُ الدّائِمَةُ وتَنْسَحِبُ عَلى الأفْعالِ الماضِيَةِ كانَ الظَّرْفُ ماضِيًا، وكانَ المَعْنى: وما كُنْتَ في شَأْنٍ وما تَلَوْتَ مِن قُرْآنٍ ولا عَمِلْتُمْ مِن عَمَلٍ إلّا كُنّا عَلَيْكم شُهُودًا إذْ أفَضْتُمْ فِيهِ.
وإذْ تُخَلِّصُ المُضارِعَ لِمَعْنى الماضِي، ولَمّا كانَ قَوْلُهُ: إلّا كُنّا عَلَيْكم شُهُودًا فِيهِ تَحْذِيرٌ وتَنْبِيهٌ عَدَلَ عَنْ خِطابِهِ ﷺ إلى خِطابِ أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: ولا تَعْمَلُونَ مِن عَمَلٍ، وإنْ كانَ اللَّهُ شَهِيدًا عَلى أعْمالِ الخَلْقِ كُلِّهِمْ. و(تُفِيضُونَ): تَخُوضُونَ أوْ تَنْشُرُونَ أوْ تَدْفَعُونَ أوْ تَنْهَضُونَ أوْ تَأْخُذُونَ أوْ تَنْقُلُونَ أوْ تَتَكَلَّمُونَ أوْ تَسْعَوْنَ أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ، ثُمَّ واجَهَهُ تَعالى بِالخِطابِ وحْدَهُ في قَوْلِهِ: وما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ، تَشْرِيفًا لَهُ وتَعْظِيمًا.
ولَمّا ذَكَرَ شَهادَتَهُ تَعالى عَلى أعْمالِ الخَلْقِ ناسَبَ تَقْدِيمُ الأرْضِ الَّذِي هي مَحَلُّ المُخاطَبِينَ عَلى السَّماءِ، بِخِلافِ ما في سُورَةِ سَبَأٍ، وإنْ كانَ الأكْثَرُ تَقْدِيمَها عَلى الأرْضِ.
وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ وابْنُ مُصَرِّفٍ والكِسائِيُّ: يَعْزِبُ بِكَسْرِ الزّايِ، وكَذا في سَبَأٍ. والمِثْقالُ: اسْمٌ لا صِفَةٌ، ومَعْناهُ هُنا: وزْنُ ذَرَّةٍ. والذَّرُّ: صِغارُ النَّمْلِ، ولَمّا كانَتِ الذَّرَّةُ أصْغَرَ الحَيَوانِ المُتَناسِلِ المَشْهُورِ النَّوْعِ عِنْدَنا، جَعَلَها اللَّهُ مِثالًا لِأقَلِّ الأشْياءِ وأحْقَرِها، إذْ هي أحْقَرُ ما نُشاهِدُ.
ثُمَّ قالَ: ﴿ولا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ﴾ أيْ: مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ لا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ أدَقُّ الأشْياءِ الَّتِي نُشاهِدُها، ناسَبَ تَقْدِيمُ ﴿ولا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ﴾، ثُمَّ أتى بِقَوْلِهِ: (ولا أكْبَرَ) عَلى سَبِيلِ إحاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الأشْياءِ.
ومَعْلُومٌ أنَّ مَن عَلِمَ أدَقَّ الأشْياءِ وأخْفاها كانَ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقًا بِأكْبَرِ الأشْياءِ وأظْهَرِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (لا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرَ) بِفَتْحِ الرّاءِ فِيهِما، ووُجِّهَ عَلى أنَّهُ عَطْفٌ عَلى ذَرَّةٍ أوْ عَلى مِثْقالِ عَلى اللَّفْظِ.
وقَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ: بِرَفْعِ الرّاءِ فِيهِما، ووُجِّهَ عَلى أنَّهُ عَطْفٌ عَلى مَوْضِعِ (مِثْقالِ) لِأنَّ مِن زائِدَةٌ فَهو مَرْفُوعٌ بِـ (يَعْزُبُ)، هَكَذا وجَّهَهُ الحَوْفِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ وأبُو البَقاءِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تابِعًا لِاخْتِيارِ الزَّجّاجِ: والوَجْهُ النَّصْبُ عَلى نَفْيِ الجِنْسِ، والرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ، يَكُونُ كَلامًا مُبْتَدَأً. وفي العَطْفِ عَلى مَحَلِّ (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) أوْ لَفْظِهِ فَتْحًا في مَوْضِعِ الجَرِّ إشْكالٌ، لِأنَّ قَوْلَكَ: لا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ إلّا في كِتابٍ، مُشْكِلٌ انْتَهى.
وإنَّما أشْكَلَ عِنْدَهُ، لِأنَّ التَّقْدِيرَ يَصِيرُ: إلّا في كِتابٍ فَيَعْزُبُ، وهَذا كَلامٌ لا يَصِحُّ. وخَرَّجَهُ أبُو البَقاءِ عَلى أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ هو في كِتابٍ مُبِينٍ، ويَزُولُ بِهَذا التَّقْدِيرِ الإشْكالُ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: أجابَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُنْقَطِعٌ، والآخَرُ: أنَّ العُزُوبَ: عِبارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ البُعْدِ، والمَخْلُوقاتُ قِسْمٌ أوْجَدَهُ اللَّهُ ابْتِداءً مِن غَيْرِ واسِطَةٍ كالمَلائِكَةِ والسَّماواتِ والأرْضِ، وقِسْمٌ أوْجَدَهُ بِواسِطَةِ القِسْمِ الأوَّلِ، مِثْلَ الحَوادِثِ الحادِثَةِ في عالَمِ الكَوْنِ والفَسادِ، وهَذا قَدْ يَتَباعَدُ في سِلْسِلَةِ العِلِيَّةِ والمَمْلُوكِيَّةِ عَنْ مَرْتَبَةِ وُجُودِ واجِبِ الوُجُودِ، فالمَعْنى: لا يَبْعُدُ عَنْ مَرْتَبَةِ وُجُودِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ إلّا وهو في كِتابٍ مُبِينٍ، كَتَبَهُ اللَّهُ، وأثْبَتَ صُوَرَ تِلْكَ المَعْلُوماتِ فِيها انْتَهى.
وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وقالَ الجُرْجانِيُّ صاحِبُ النَّظْمِ (p-١٧٥)إلّا بِمَعْنى الواوِ أيْ: وهو في كِتابٍ مُبِينٍ. والعَرَبُ تَضَعُ إلّا مَوْضِعَ واوِ النَّسَقِ كَقَوْلِهِ: ﴿إلّا مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨] ﴿إلّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠] انْتَهى.
وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لَمْ يَثْبُتْ مِن لِسانِ العَرَبِ وُضِعَ إلّا مَوْضِعَ الواوِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إلّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠] وسَيَأْتِي عَلى قَوْلِهِ: ﴿إلّا مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨] إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
{"ayah":"وَمَا تَكُونُ فِی شَأۡنࣲ وَمَا تَتۡلُوا۟ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانࣲ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَیۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِیضُونَ فِیهِۚ وَمَا یَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَاۤ أَصۡغَرَ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرَ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق