﴿۞ لِّلَّذِینَ أَحۡسَنُوا۟ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِیَادَةࣱۖ وَلَا یَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرࣱ وَلَا ذِلَّةٌۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ ٢٦ وَٱلَّذِینَ كَسَبُوا۟ ٱلسَّیِّـَٔاتِ جَزَاۤءُ سَیِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةࣱۖ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمࣲۖ كَأَنَّمَاۤ أُغۡشِیَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعࣰا مِّنَ ٱلَّیۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ ٢٧ وَیَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِیعࣰا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَاۤؤُكُمۡۚ فَزَیَّلۡنَا بَیۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَاۤؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِیَّانَا تَعۡبُدُونَ ٢٨ فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِیدَۢا بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَـٰفِلِینَ ٢٩ هُنَالِكَ تَبۡلُوا۟ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّاۤ أَسۡلَفَتۡۚ وَرُدُّوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَفۡتَرُونَ ٣٠ قُلۡ مَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن یَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَمَن یُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَیُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّ وَمَن یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَیَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٣١﴾ [يونس ٢٦-٣١]
﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وتَرْهَقُهم ذِلَّةٌ ما لَهم مِنَ اللَّهِ مِن عاصِمٍ كَأنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهم قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿ويَوْمَ نَحْشُرُهم جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أشْرَكُوا مَكانَكم أنْتُمْ وشُرَكاؤُكم فَزَيَّلْنا بيْنَهم وقالَ شُرَكاؤُهم ما كُنْتُمْ إيّانا تَعْبُدُونَ﴾ ﴿فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنا وبَيْنَكم إنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكم لَغافِلِينَ﴾ ﴿هُنالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ما أسْلَفَتْ ورُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَماذا بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: ٣٢] ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلى الَّذِينَ فَسَقُوا أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ٣٣] ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ [يونس: ٣٤] ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَهْدِي إلى الحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أفَمَن يَهْدِي إلى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أنْ يُهْدى فَما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: ٣٥] ﴿وما يَتَّبِعُ أكْثَرُهم إلّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: ٣٦] ﴿وما كانَ هَذا القُرْآنُ أنْ يُفْتَرى مِن دُونِ اللَّهِ ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وتَفْصِيلَ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ [يونس: ٣٧] ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [يونس: ٣٨] ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِينَ﴾ [يونس: ٣٩] ﴿ومِنهم مَن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنهم مَن لا يُؤْمِنُ بِهِ ورَبُّكَ أعْلَمُ بِالمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: ٤٠] ﴿وإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي ولَكم عَمَلُكم أنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أعْمَلُ وأنا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: ٤١] ﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ٤٢] ﴿ومِنهم مَن يَنْظُرُ إلَيْكَ أفَأنْتَ تَهْدِي العُمْيَ ولَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ﴾ [يونس: ٤٣] ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا ولَكِنَّ النّاسَ أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: ٤٤] ﴿ويَوْمَ يَحْشُرُهم كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهم قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [يونس: ٤٥] ﴿وإمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهم أوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإلَيْنا مَرْجِعُهم ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: ٤٦] ﴿ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإذا جاءَ رَسُولُهم قُضِيَ بَيْنَهم بِالقِسْطِ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ [يونس: ٤٧] ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [يونس: ٤٨] ﴿قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا ولا نَفْعًا إلّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ إذا جاءَ أجَلُهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس: ٤٩] ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أتاكم عَذابُهُ بَياتًا أوْ نَهارًا ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنهُ المُجْرِمُونَ﴾ [يونس: ٥٠] ﴿أثُمَّ إذا ما وقَعَ آمَنتُمْ بِهِ آلْآنَ وقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [يونس: ٥١] ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [يونس: ٥٢] ﴿ويَسْتَنْبِئُونَكَ أحَقٌّ هو قُلْ إي ورَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [يونس: ٥٣] ﴿ولَوْ أنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما في الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وأسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأوُا العَذابَ وقُضِيَ بَيْنَهم بِالقِسْطِ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ [يونس: ٥٤] ﴿ألا إنَّ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ ألا إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [يونس: ٥٥] ﴿هُوَ يُحْيِي ويُمِيتُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يونس: ٥٦] ﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧] ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨] ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالًا قُلْ آللَّهُ أذِنَ لَكم أمْ عَلى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: ٥٩] ﴿وما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلى النّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَشْكُرُونَ﴾ [يونس: ٦٠] ﴿وما تَكُونُ في شَأْنٍ وما تَتْلُو مِنهُ مِن قُرْآنٍ ولا تَعْمَلُونَ مِن عَمَلٍ إلّا كُنّا عَلَيْكم شُهُودًا إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ ولا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرَ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس: ٦١] رَهَقَهَ: غَشِيَهُ، وقِيلَ: لَحِقَهُ ومِنهُ
﴿ولا تُرْهِقْنِي مِن أمْرِي عُسْرًا﴾ [الكهف: ٧٣]، ورَجُلٌ مُرْهَقٌ: يَغْشاهُ الأضْيافُ. وقالَ الأزْهَرِيُّ: الرَّهَقُ: اسْمٌ مِنَ الإرْهاقِ، وهو أنْ يَحْمِلَ الإنْسانُ عَلى نَفْسِهِ ما لا يُطِيقُ.
يُقالُ: أرْهَقْتُهُ أنْ يُصَلِّيَ إذا أعْجَلْتَهُ عَنِ الصَّلاةِ. وقِيلَ: أصْلُ الرَّهَقِ: المُقارَبَةُ، يُقالُ: غُلامٌ مُراهِقٌ أيْ: قارَبَ الحُلُمَ. وفي الحَدِيثِ:
«أرْهِقُوا القِبْلَةَ» أيِ: ادْنُوا مِنها. ويُقالُ: رَهِقَتِ الكِلابُ الصَّيْدَ: إذا لَحِقَتْهُ، وأرْهَقْنا الصَّلاةَ: أخَّرْناها حَتّى تَدْنُوَ مِنَ الأُخْرى.
القَتَرُ والقَتَرَةُ: الغُبارُ الَّذِي مَعَهُ سَوادٌ، وقالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الغُبارُ. وقالَ الفَرَزْدَقُ:
مُتَوَّجٌ بِرِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُهُ مَوْجٌ تَرى فَوْقَهُ الرّاياتِ والقَتَرا
أيْ: غُبارُ العَسْكَرِ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: أصْلُ القَتَرِ: دُخانُ النّارِ، ومِنهُ قُتارُ القِدْرِ، انْتَهى.
ويُقالُ: القَتْرُ بِسُكُونِ التّاءِ: الشَّأْنُ والأمْرُ، وجَمْعُهُ: شُئُونٌ. وأصْلُهُ الهَمْزُ بِمَعْنى: القَصْدِ مِن شَأنْتُ شَأْنَهُ إذا قَصَدْتَ قَصْدَهُ.
عَزَبَ يَعْزُبُ ويَعْزِبُ بِكَسْرِ الزّايِ وضَمِّها: غابَ حَتّى خَفِيَ، ومِنهُ الرَّوْضُ: العازِبُ. وقالَ أبُو تَمّامٍ:
وقَلْقَلُ نَأْيٌ مِن خُراسانَ جَأْشَها ∗∗∗ فَقُلْتُ اطْمَئِنِّي أنْضَرُ الرَّوْضِ عازِبُهُ
وقِيلَ لِلْغائِبِ عَنْ أهْلِهِ عازِبٌ، حَتّى قالُوهُ لِمَن لا زَوْجَةَ لَهُ.
﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ هم فِيها خالِدُونَ﴾: (أحْسَنُوا) قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ذَكَرُوا كَلِمَةَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وقالَ الأصَمُّ: أحْسَنُوا في كُلِّ ما تَعَبَّدُوا بِهِ أيْ: أتَوْا بِالمَأْمُورِ بِهِ كَما يَنْبَغِي، واجْتَنَبُوا المَنهِيَّ.
وقِيلَ: أحْسَنُوا مُعامَلَةَ النّاسِ. ورَوى أنَسٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
«أحْسَنُوا العَمَلَ في الدُّنْيا» وفي الصَّحِيحِ:
«ما الإحْسانُ ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ» وعَنْ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ”لَيْسَ الإحْسانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَن أحْسَنَ إلَيْكَ، ذَلِكَ مُكافَأةٌ ! ولَكِنَّ الإحْسانَ أنْ تُحْسِنَ إلى مَن أساءَ إلَيْكَ“ .
والحُسْنى قالَ الأكْثَرُونَ: هي الجَنَّةُ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، ولَوْ صَحَّ وجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ.
وقالَ الطَّبَرِيُّ: الحُسْنى عامٌّ في كُلِّ حَسَنٍ، فَهو يَعُمُّ جَمِيعَ ما قِيلَ ووَعَدَ اللَّهُ في جَمِيعِها بِالزِّيادَةِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُهُ:
﴿أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ﴾ . ولَوْ كانَ مَعْنى الحُسْنى: الجَنَّةَ، لَكانَ في القَوْلِ تَكْرِيرٌ في المَعْنى. وقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سابِطٍ: هي النَّضْرَةُ.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الجَزاءُ في الآخِرَةِ. وقِيلَ: الأُمْنِيَّةُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المَثُوبَةُ الحُسْنى وزِيادَةٌ، وما يَزِيدُ عَلى المَثُوبَةِ وهو التَّفَضُّلُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ١٧٣] وعَنْ عَلِيٍّ: الزِّيادَةُ غُرْفَةٌ مِن لُؤْلُؤَةٍ واحِدَةٍ.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الحُسْنى الحَسَنَةُ، والزِّيادَةُ عَشَرَةُ أمْثالِها. وعَنِ الحَسَنِ: عَشَرَةُ أمْثالِها إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ.
وعَنْ مُجاهِدٍ: الزِّيادَةُ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ورِضْوانٌ. وعَنْ زِيادِ بْنِ شَجَرَةَ: الزِّيادَةُ أنْ تَمُرَّ السَّحابَةُ بِأهْلِ الجَنَّةِ فَتَقُولُ: ما تُرِيدُونَ أنْ أُمْطِرَكم ؟ فَلا يُرِيدُونَ شَيْئًا إلّا أمْطَرَتْهم.
وزَعَمَتِ المُشَبِّهَةُ والمُجْبِرَةُ أنَّ الزِّيادَةَ النَّظَرُ إلى وجْهِ اللَّهِ تَعالى، وجاءَتْ بِحَدِيثٍ مَوْضُوعٍ:
«إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ نُودُوا يا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيَكْشِفُونَ الحِجابَ، فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَواللَّهِ ما أعْطاهُمُ اللَّهُ تَعالى شَيْئًا هو أحَبُّ إلَيْهِمْ مِنهُ»، انْتَهى.
أمّا تَفْسِيرُهُ أوَّلًا ونَقْلُهُ عَمَّنْ ذَكَرَ تَفْسِيرَ الزِّيادَةِ فَهو نَصُّ الجُبّائِيِّ ونَقْلُهُ، وأمّا قَوْلُهُ: وجاءَتْ بِحَدِيثٍ مَوْضُوعٍ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، بَلْ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ صُهَيْبٍ، والنَّسائِيُّ عَنْهُ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ وخَرَّجَهُ ابْنُ المُبارَكِ في دَقائِقِهِ مَوْقُوفًا عَلى أبِي مُوسى وقالَ: بِأنَّ الزِّيادَةَ هي النَّظَرُ إلى اللَّهِ تَعالى.
أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ في رِوايَةٍ، وحُذَيْفَةُ، وعُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ، وكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وأبُو مُوسى، وصُهَيْبٌ، وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ، وهو قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ.
ومَسْألَةُ الرُّؤْيَةِ يُبْحَثُ فِيها في أُصُولِ الدِّينِ. قالَ مُجاهِدٌ: أرادَ ولا يَلْحَقُها خِزْيٌ، والخِزْيُ يَتَغَيَّرُ بِهِ الوَجْهُ ويَسْوَدُّ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: والذِّلَّةُ الكَآبَةُ. وقالَ غَيْرُهُ: الهَوانُ. وقِيلَ: الخَيْبَةُ نَفىَ عَنِ المُحْسِنِينَ ما أثْبَتَ لِلْكُفّارِ مِن قَوْلِهِ:
﴿وتَرْهَقُهم ذِلَّةٌ﴾ وقَوْلِهِ:
﴿عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ [عبس: ٤٠] ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ [عبس: ٤١] وكَنّى بِالوَجْهِ عَنِ الجُمْلَةِ لِكَوْنِهِ أشْرَفَها، ولِظُهُورِ أثَرِ السُّرُورِ والحُزْنِ فِيهِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، والأعْمَشُ: قَتْرٌ بِسُكُونِ التّاءِ، وهي لُغَةٌ كالقَدَرِ والقَدْرِ، وجُعِلُوا أصْحابَ الجَنَّةِ لِتَصَرُّفِهِمْ فِيها كَما يَتَصَرَّفُ المُلّاكُ عَلى حَسَبِ اخْتِيارِهِمْ.
﴿والَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وتَرْهَقُهم ذِلَّةٌ ما لَهم مِنَ اللَّهِ مِن عاصِمٍ كَأنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهم قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾: لَمّا ذَكَرَ ما أعَدَّ لِلَّذِينِ أحْسَنُوا وحالُهم يَوْمَ القِيامَةِ ومَآلُهم إلى الجَنَّةِ، ذَكَرَ ما أعَدَّ لِأضْدادِهِمْ وحالَهم ومَآلَهم، وجاءَتْ صِلَةُ المُؤْمِنِينَ أحْسَنُوا، وصِلَةُ الكافِرِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ المُؤْمِنَ لَمّا خُلِقَ عَلى الفِطْرَةِ وأصَّلَها بِالإحْسانِ، وعَلى أنَّ الكافِرَ لَمّا خُلِقَ عَلى الفِطْرَةِ انْتَقَلَ عَنْها وكَسَبَ السَّيِّئاتِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ مُحْسِنًا، وهَذا كاسِبًا لِلسَّيِّئاتِ، لِيَدُلَّ عَلى أنَّ المُؤْمِنَ سَلَكَ ما يَنْبَغِي، وهَذا سَلَكَ ما لا يَنْبَغِي.
والظّاهِرُ أنَّ والَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، وجَوَّزُوا في الخَبَرِ وُجُوهًا أحَدُها: أنَّهُ الجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ وهي جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، وجَزاءُ مُبْتَدَأٌ فَقِيلَ: خَبَرُهُ مُثْبَتٌ وهو بِمِثْلِها. واخْتَلَفُوا في الباءِ فَقِيلَ: زائِدَةٌ قالَهُ ابْنُ كَيْسانَ أيْ جَزاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُها، كَما قالَ: وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها، كَما زِيدَتْ في الخَبَرِ في قَوْلِهِ:
فَمَنَعَكَها بِشَيْءٍ يُسْتَطاعُ، أيْ شَيْءٌ يُسْتَطاعُ. وقِيلَ: لَيْسَتْ بِزائِدَةٍ، والتَّقْدِيرُ: مُقَدَّرٌ بِمِثْلِها أوْ مُسْتَقِرٌّ بِمِثْلِها. وقِيلَ: مَحْذُوفٌ، فَقَدَّرَهُ الحَوْفِيُّ: لَهم جَزاءُ سَيِّئَةٍ قالَ: ودَلَّ عَلى تَقْدِيرِ لَهم قَوْلُهُ:
﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى﴾ حَتّى تُشاكَلَ هَذِهِ بِهَذِهِ.
وقَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها واقِعٌ، والباءُ في قَوْلِهِما مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: جَزاءُ، والعائِدُ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: جَزاءُ سَيِّئَةٍ مِنهم، كَما حُذِفَ في قَوْلِهِمُ: السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ، أيْ مَنَوانِ مِنهُ بِدِرْهَمٍ. وعَلى تَقْدِيرِ الحَوْفِيِّ: لَهم جَزاءُ يَكُونُ الرّابِطُ لَهم.
الثّانِي: أنَّ الخَبَرَ قَوْلُهُ: ما لَهم مِنَ اللَّهِ مِن عاصِمٍ، ويَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ بِجُمْلَتَيْنِ عَلى سَبِيلِ الِاعْتِراضِ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ، والصَّحِيحُ جَوازُهُ.
الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ الخَبَرُ كَأنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهم قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا.
الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ الخَبَرُ أُولَئِكَ وما بَعْدَهُ، فَيَكُونُ في هَذا القَوْلِ فُصِلَ بَيْنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ بِأرْبَعِ جُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ، وفي القَوْلِ الثّالِثِ بِثَلاثِ جُمَلٍ، والصَّحِيحُ مَنعُ الِاعْتِراضِ بِثَلاثِ الجُمَلِ وبِأرْبَعِ الجُمَلِ، وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ الَّذِينَ في مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: لِلَّذِينِ أحْسَنُوا، ويَكُونُ (جَزاءُ) مُبْتَدَأً خَبَرُهُ قَوْلُهُ: والَّذِينَ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ أيْ: ولِلَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، فَيَتَعادَلُ التَّقْسِيمُ، كَما تَقُولُ: في الدّارِ زَيْدٌ، والقَصْرِ عَمْرٌو أيْ: وفي القَصْرِ عَمْرٌو.
وهَذا التَّرْكِيبُ مَسْمُوعٌ مِن لِسانِ العَرَبِ، فَخَرَّجَهُ الأخْفَشُ عَلى أنَّهُ مِنَ العَطْفِ عَلى عامِلَيْنِ.
وخَرَّجَهُ الجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ مِمّا حُذِفَ مِنهُ حَرْفُ الجَرِّ، وجَرُّهُ بِذَلِكَ الحَرْفِ المَحْذُوفِ لا بِالعَطْفِ عَلى المَجْرُورِ، وهي مَسْألَةُ خِلافٍ وتَفْصِيلٍ يُتَكَلَّمُ فِيها في عِلْمِ النَّحْوِ.
والظّاهِرُ أنَّ السَّيِّئاتِ هُنا هي سَيِّئاتُ الكُفْرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ أوْصافِهِمْ بَعْدُ. وقِيلَ: السَّيِّئاتُ المَعاصِي، فَيَنْدَرِجُ فِيها الكُفْرُ وغَيْرُهُ. ولِهَذا قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَعُمُّ السَّيِّئاتُ هاهُنا الكُفْرَ والمَعاصِي، فَمِثْلُ سَيِّئَةِ الكُفْرِ التَّخْلِيدُ في النّارِ، ومِثْلُ سَيِّئاتِ المَعاصِي مَصْرُوفٌ إلى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى، ومَعْنى بِمِثْلِها أيْ: لا يُزادُ عَلَيْها.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِالزِّيادَةِ الفَضْلُ، لِأنَّهُ دَلَّ بِتَرْكِ الزِّيادَةِ عَلى السَّيِّئَةِ عَلى عَدْلِهِ، ودَلَّ بِإثْباتِ الزِّيادَةِ عَلى المَثُوبَةِ عَلى فَضْلِهِ، انْتَهى.
وقِيلَ: مَعْنى بِمِثْلِها أيْ: بِما يَلِيقُ بِها مِنَ العُقُوباتِ، فالعُقُوباتُ تَتَرَتَّبُ عَلى قَدْرِ السَّيِّئاتِ، ولِهَذا كانَتْ جَهَنَّمُ دَرَكاتٍ، وكانَ المُنافِقُونَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ لِقُبْحِ مَعْصِيَتِهِمْ.
وقُرِئَ: ويَرْهَقُهم بِالياءِ؛ لِأنَّ تَأْنِيثَ الذِّلَّةِ مَجازٌ، وفي وصْفِ المُنافِقِينَ نَفْيِ القَتَرِ والذِّلَّةِ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وهُنا غَشِيَتْهُمُ الذِّلَّةُ، وبُولِغَ فِيما يُقابِلُ القَتَرَ فَقِيلَ: كَأنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهم قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا، وهَذِهِ مُبالَغَةٌ في سَوادِ الوُجُوهِ.
وقَدْ جاءَ مُصَرَّحًا في قَوْلِهِ:
﴿وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] (مِنَ اللَّهِ) أيْ مِن سَخَطِهِ وعَذابِهِ، أوْ مِن جِهَتِهِ تَعالى، ومِن عِنْدِهِ مَن يَعْصِمُهم كَما يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وأُغْشِيَتْ: كَسَبَتْ، ومِنهُ الغِشاءُ. وكَوْنُ وُجُوهِهِمْ مُسْوَدَّةً هي حَقِيقَةٌ لا مَجازٌ، فَتَكُونُ ألْوانُهم مُسْوَدَّةً.
قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: واعْلَمْ أنَّ حُكَماءَ الإسْلامِ قالُوا: المُرادُ مِن هَذا السَّوادِ هاهُنا: سَوادُ الجَهْلِ وظُلْمَةُ الضَّلالِ، فَإنَّ الجَهْلَ طَبْعُهُ طَبْعُ الظُّلْمَةِ. فَقَوْلُهُ:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨] ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٩]، المُرادُ نُورُ العِلْمِ ورُوحُهُ وبِشْرُهُ وبِشارَتُهُ،
﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ [عبس: ٤٠] ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ [عبس: ٤١] المُرادُ مِنهُ: ظُلْمَةُ الجَهْلِ وكُدُورَةُ الضَّلالَةِ، انْتَهى.
وكَثِيرًا ما يَنْقُلُ هَذا الرَّجُلُ عَنْ حُكَماءِ الإسْلامِ في التَّفْسِيرِ، ويَنْقُلُ كَلامَهم تارَةً مَنسُوبًا إلَيْهِمْ، وتارَةً مُسْتَنِدًا بِهِ ويُعْنى بِحُكَماءِ الفَلاسِفَةِ الَّذِينَ خُلِقُوا في مُدَّةِ المِلَّةِ الإسْلامِيَّةِ، وهم أحَقُّ بِأنْ يُسَمَّوْا سُفَهاءَ جُهَلاءَ مِن أنْ يُسَمَّوْا حُكَماءَ، إذْ هم أعْداءُ الأنْبِياءِ والمُحَرِّفُونَ لِلشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ، وهم أضَرُّ عَلى المُسْلِمِينَ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى. وإذا كانَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَهى عَنْ قِراءَةِ التَّوْراةِ مَعَ كَوْنِها كِتابًا إلَهِيًّا، فَلَأنْ يَنْهى عَنْ قِراءَةِ كَلامِ الفَلاسِفَةِ أحَقُّ. وقَدْ غَلَبَ في هَذا الزَّمانِ وقَبْلَهُ بِقَلِيلٍ الِاشْتِغالُ بِجَهالاتِ الفَلاسِفَةِ عَلى أكْثَرِ النّاسِ، ويُسَمُّونَها الحِكْمَةَ، ويَسْتَجْهِلُونَ مَن عُرِّيَ عَنْها، ويَعْتَقِدُونَ أنَّهُمُ الكَمَلَةُ مِنَ النّاسِ، ويَعْكُفُونَ عَلى دِراسَتِها، ولا تَكادُ تَلْقى أحَدًا مِنهم يَحْفَطُ قُرْآنًا ولا حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . ولَقَدْ غَضَضْتُ مَرَّةً مِنَ ابْنِ سِينا ونَسَبْتُهُ لِلْجَهْلِ فَقالَ لِي بَعْضُهم وأظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِن كَوْنِ أحَدٍ يَغُضُّ مِنَ ابْنِ سِينا: كَيْفَ يَكُونُ أعْلَمَ النّاسِ بِاللَّهِ يُنْسَبُ لِلْجَهْلِ ؟ ولَمّا ظَهَرَ مِن قاضِي الجَماعَةِ أبِي الوَلِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي القاسِمِ أحْمَدِ بْنِ أبِي الوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ الِاعْتِناءَ بِمَقالاتِ الفَلاسِفَةِ، والتَّعْظِيمَ لَهم، أغْرى بِهِ عُلَماءُ الإسْلامِ بِالأنْدَلُسِ، المَنصُورَ مَنصُورَ المُوَحِّدِينَ: يَعْقُوبَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ المُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ مَلِكَ المَغْرِبِ والأنْدَلُسِ، حَتّى أوْقَعَ بِهِ ما هو مَشْهُورٌ مِن ضَرْبِهِ ولَعْنِهِ وإهانَتِهِ، وإهانَةِ جَماعَةٍ مِنهم عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ، وكانَ مِمّا خُوطِبَ بِهِ المَنصُورُ في حَقِّهِمْ قَوْلُ بَعْضِ العُلَماءِ الشُّعَراءِ:
خَلِيفَتَنا جَزاكَ اللَّهُ خَيْرًا ∗∗∗ عَنِ الإسْلامِ والسَّعْيِ الكَرِيمِ
فَحَقُّ جِهادِهِ جاهَدْتَ فِيهِ ∗∗∗ إلى أنْ فُزْتَ بِالفَتْحِ العَظِيمِ
وصَيَّرْتَ الأنامَ بِحُسْنِ هَدْيٍ ∗∗∗ عَلى نَهْجِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ
فَجاهِدْ في أُناسٍ قَدْ أضَلُّوا ∗∗∗ طَرِيقَ الشَّرْعِ بِالعِلْمِ القَدِيمِ
وحَرِّقْ كُتْبَهم شَرْقًا وغَرْبًا ∗∗∗ فَفِيها كامِنًا شَرُّ العُلُومِ
يَدِبُّ إلى العَقائِدِ مِن أذاها ∗∗∗ سُمُومٌ والعَقائِدُ كالجُسُومِ
وفِي أمْثالِها إذْ لا دَواءَ ∗∗∗ يَكُونُ السَّيْفُ تِرْياقَ السُّمُومِ
وقالَ:
يا وحْشَةَ الإسْلامِ مِن فِرْقَةٍ ∗∗∗ شاغِلَةً أنْفُسَها بِالسَّفَهْ
قَدْ نَبَذَتْ دِينَ الهُدى خَلْفَها ∗∗∗ وادَّعَتِ الحِكْمَةَ والفَلْسَفَهْ
وقالَ:
قَدْ ظَهَرَتْ في عَصْرِنا فِرْقَةٌ ∗∗∗ ظُهُورُها شُؤْمٌ عَلى العَصْرِ
لا تَقْتَدِي في الدِّينِ إلّا بِما ∗∗∗ سَنَّ ابْنُ سِينا أوْ أبُو نَصْرِ
ولَمّا حَلَلْتُ بِدِيارِ مِصْرَ، ورَأيْتُ كَثِيرًا مِن أهْلِها يَشْتَغِلُونَ بِجَهالاتِ الفَلاسِفَةِ ظاهِرًا مِن غَيْرِ أنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ أحَدٌ، تَعَجَّبْتُ مِن ذَلِكَ، إذْ كُنّا نَشَأْنا في جَزِيرَةِ الأنْدَلُسِ عَلى التَّبَرُّءِ مِن ذَلِكَ والإنْكارِ لَهُ، وأنَّهُ إذا بِيعَ كِتابٌ في المَنطِقِ إنَّما يُباعُ خُفْيَةً، وأنَّهُ لا يَتَجاسَرُ أحَدٌ أنْ يَنْطِقَ بِلَفْظِ المَنطِقِ، إنَّما يُسَمُّونَهُ المَفْعِلَ، حَتّى أنَّ صاحِبَنا وزِيرَ المَلِكِ ابْنِ الأحْمَرِ: أبا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المَعْرُوفَ بِابْنِ الحَكِيمِ، كَتَبَ إلَيْنا كِتابًا مِنَ الأنْدَلُسِ يَسْألُنِي أنْ أشْتَرِيَ أوْ أسْتَنْسِخَ كِتابًا لِبَعْضِ شُيُوخِنا في المَنطِقِ، فَلَمْ يَتَجاسَرْ أنْ يَنْطِقَ بِالمَنطِقِ وهو وزِيرٌ، فَسَمّاهُ في كِتابِهِ لِي بِالمَفْعِلِ. ولَمّا أُلْبِسَتْ وُجُوهُهُمُ السَّوادَ قالَ: كَأنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهم، ولَمّا كانَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ نِهايَةً في السَّوادِ، شُبِّهَ سَوادُ وُجُوهِهِمْ بِقِطَعٍ مِنَ اللَّيْلِ حالَ اشْتِدادِ ظُلْمَتِهِ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ والكِسائِيُّ قِطْعًا بِسُكُونِ الطّاءِ، وهو مُفْرَدٌ اسْمٌ لِلشَّيْءِ المَقْطُوعِ. وقالَ الأخْفَشُ في قَوْلِهِ:
﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ٨١] بِسَوادٍ مِنَ اللَّيْلِ. وأهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: القِطْعُ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ.
وقالَ بَعْضُهم: طائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ. وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ: مُظْلِمًا صِفَةً لِقَوْلِهِ: قِطَعًا، كَما جاءَ ذَلِكَ في قِراءَةِ أُبَيٍّ: (كَأنَّما تَغْشى وُجُوهَهم قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ) . وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ فَتَحَ الطّاءَ.
وقِيلَ: قِطْعٌ جَمْعُ قِطْعَةٍ، نَحْوَ سِدْرٍ وسِدْرَةٍ، فَيَجُوزُ إذْ ذاكَ أنْ يُوصَفَ بِالمُذَكَّرِ نَحْوَ: نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، وبِالمُؤَنَّثِ نَحْوَ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، ويَجُوزُ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ مُظْلِمًا حالًا مِنَ اللَّيْلِ كَما أعْرَبُوهُ في قِراءَةِ باقِي السَّبْعَةِ، كَأنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهم قِطَعًا بِتَحْرِيكِ الطّاءِ بِالفَتْحِ مِنَ اللَّيْلِ، مُظْلِمًا بِالنَّصْبِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): إذا جَعَلْتَ مُظْلِمًا حالًا مِنَ اللَّيْلِ، فَما العامِلُ فِيهِ ؟ (قُلْتُ): لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ أُغْشِيَتْ مِن قِبَلِ أنَّ مِنَ اللَّيْلِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: قِطَعًا، فَكانَ إفْضاؤُهُ إلى المَوْصُوفِ كَإفْضائِهِ إلى الصِّفَةِ. وإمّا أنْ يَكُونَ مَعْنى الفِعْلِ في مِنَ اللَّيْلِ، انْتَهى.
أمّا الوَجْهُ الأوَّلُ فَهو بَعِيدٌ، لِأنَّ الأصْلَ أنْ يَكُونَ العامِلُ في الحالِ هو العامِلُ في ذِي الحالِ، والعامِلُ في اللَّيْلِ هو مُسْتَقَرُّ الواصِلِ إلَيْهِ بِمِن، وأُغْشِيَتْ عامِلٌ في قَوْلِهِ: قِطَعًا المَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّيْلِ، فاخْتَلَفا فَلِذَلِكَ كانَ الوَجْهُ الأخِيرُ أوْلى أيْ: قِطَعًا مُسْتَقِرَّةً مِنَ اللَّيْلِ، أوْ كائِنَةً مِنَ اللَّيْلِ في حالِ إظْلامِهِ.
وقِيلَ: مُظْلِمًا حالٌ مِن قَوْلِهِ: قِطَعًا، أوْ صِفَةٌ. وذُكِرَ في هَذَيْنِ التَّوْجِيهَيْنِ لِأنَّ قِطَعًا في مَعْنى كَثِيرٍ، فَلُوحِظَ فِيهِ الإفْرادُ والتَّذْكِيرُ. وجَوَّزُوا أيْضًا في قِراءَةِ مَن سَكَّنَ الطّاءَ أنْ يَكُونَ (مُظْلِمًا) حالًا مِن قِطْعٍ، وحالًا مِنَ الضَّمِيرِ في (مِن) .
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإذا كانَ نَعْتًا يَعْنِي: مُظْلِمًا نَعْتًا لِقِطْعٍ، فَكانَ حَقُّهُ أنْ يَكُونَ قَبْلَ الجُمْلَةِ، ولَكِنْ قَدْ يَجِيءُ بَعْدَ هَذا، وتَقْدِيرُ الجُمْلَةِ: قِطْعًا اسْتَقَرَّ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ:
﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ﴾ [الأنعام: ٩٢]، انْتَهى.
ولا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ العامِلِ في المَجْرُورِ بِالفِعْلِ فَيَكُونُ جُمْلَةً، بَلِ الظّاهِرُ أنْ يُقَدَّرَ بِاسْمِ الفاعِلِ، فَيَكُونُ مِن قَبِيلِ الوَصْفِ بِالمُفْرَدِ والتَّقْدِيرُ: قِطْعًا كائِنًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا.
﴿ويَوْمَ نَحْشُرُهم جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أشْرَكُوا مَكانَكم أنْتُمْ وشُرَكاؤُكم فَزَيَّلْنا بَيْنَهم وقالَ شُرَكاؤُهم ما كُنْتُمْ إيّانا تَعْبُدُونَ﴾ ﴿فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنا وبَيْنَكم إنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكم لَغافِلِينَ﴾ الضَّمِيرُ في نَحْشُرُهم عائِدٌ عَلى مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهم مِنَ (الَّذِينَ أحْسَنُوا)
﴿والَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ﴾ وقَرَأ الحَسَنُ و شَيْبَةُ والقُرّاءُ السَّبْعَةُ: نَحْشُرُهم بِالنُّونِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِالياءِ.
وقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلى الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ، ومِنهم عابِدُ غَيْرِ اللَّهِ، ومَن لا يَعْبُدُ شَيْئًا. وانْتَصَبَ يَوْمَ عَلى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أيْ: ذَكِّرْهم أوْ خَوِّفْهم ونَحْوَهُ.
وجَمِيعًا حالٌ، والشُّرَكاءُ الشَّياطِينُ، أوِ المَلائِكَةُ، أوِ الأصْنامُ، أوْ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ كائِنًا مَن كانَ، أرْبَعَةُ أقْوالٍ. ومَن قالَ: الأصْنامُ، قالَ: يُنْفَخُ فِيها الرُّوحُ فَيُنْطِقُها اللَّهُ بِذَلِكَ مَكانَ الشَّفاعَةِ الَّتِي عَلَّقُوا بِها أطْماعَهم.
ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (أنَّ الكُفّارَ إذا رَأوُا العَذابَ وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ: واللَّهِ لَإيّاكم كُنّا نَعْبُدُ، فَتَقُولُ الآلِهَةُ: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا) الآيَةَ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ مُحاوَرَتَهم إنَّما هي مَعَ الأصْنامِ، دُونَ المَلائِكَةِ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ بِدَلِيلِ القَوْلِ لَهم:
﴿مَكانَكم أنْتُمْ وشُرَكاؤُكُمْ﴾، ودُونَ فِرْعَوْنَ ومَن عُبِدَ مِنَ الجِنِّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ:
﴿إنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكم لَغافِلِينَ﴾ .
وهَؤُلاءِ لَمْ يَغْفُلُوا قَطُّ عَنْ عِبادَةِ مَن عَبَدَهم. ومَكانَكم عَدَّهُ النَّحْوِيُّونَ في أسْماءِ الأفْعالِ، وقُدِّرَ بِاثْبُتُوا كَما قالَ:
وقَوْلِي كُلَّما جَشَأتْ وجاشَتْ ∗∗∗ مَكانَكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحِي
أيِ: اثْبُتِي. ولِكَوْنِها بِمَعْنى اثْبُتِي جُزِمَ تُحْمَدِي، وتَحَمَّلَتْ ضَمِيرًا فَأُكِّدَ وعُطِفَ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: أنْتُمْ وشُرَكاؤُكم.
والحَرَكَةُ الَّتِي في مَكانَكَ ودُونَكَ، أهْيَ حَرَكَةُ إعْرابٍ، أوْ حَرَكَةُ بِناءٍ تُبْتَنى عَلى الخِلافِ الَّذِي بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ في أسْماءِ الأفْعالِ ؟ ألَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ أمْ لا ؟ فَمَن قالَ: هي في مَوْضِعِ نَصْبٍ جَعَلَ الحَرَكَةَ إعْرابًا، ومَن قالَ: لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ جَعَلَها حَرَكَةَ بِناءٍ. وعَلى الأوَّلِ عَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ: مَكانَكُمُ الزَمُوا مَكانَكم لا تَبْرَحُوا حَتّى تَنْظُرُوا ما يُفْعَلُ بِكم.
واخْتَلَفُوا في أنْتُمْ، فالظّاهِرُ ما ذَكَرْناهُ مِن أنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في مَكانَكم، وشُرَكاؤُكم عَطْفٌ عَلى ذَلِكَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ، وهو قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ قالَ: وأنْتُمْ أكَّدَ بِهِ الضَّمِيرَ في مَكانَكم لِسَدِّهِ مَسَدَّ قَوْلِهِ: الزَمُوا، وشُرَكاؤُكم عَطْفٌ عَلَيْهِ، انْتَهى.
يَعْنِي عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ، وتَقْدِيرُهُ: الزَمُوا، وأنَّ مَكانَكم قامَ مَقامَهُ، فَيُحْمَلُ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي الزَمُوا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إذْ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ مَكانَكَ الَّذِي هو اسْمُ فِعْلٍ يَتَعَدّى كَما يَتَعَدّى الزَمُوا.
ألا تَرى أنَّ اسْمَ الفِعْلِ إذا كانَ الفِعْلُ لازِمًا، كانَ اسْمُ الفِعْلِ لازِمًا، وإذا كانَ مُتَعَدِّيًا كانَ مُتَعَدِّيًا، مِثالُ ذَلِكَ: عَلَيْكَ زَيْدًا، لَمّا نابَ مَنابَ الزَمْ تَعَدّى. وإلَيْكَ لَمّا نابَ مَنابَ تَنَحَّ لَمْ يَتَعَدَّ. ولِكَوْنِ مَكانَكَ لا يَتَعَدّى، قَدَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ اثْبُتْ، واثْبُتْ لا يَتَعَدّى.
قالَ الحَوْفِيُّ: مَكانَكم نُصِبَ بِإضْمارِ فِعْلٍ أيِ: الزَمُوا مَكانَكم، أوِ اثْبُتُوا. وقالَ أبُو البَقاءِ: مَكانَكم ظَرْفٌ مَبْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الأمْرِ، أيِ: الزَمُوا، انْتَهى.
وقَدْ بَيَّنّا أنَّ تَقْدِيرَ الزَمُوا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إذْ لَمْ تَقُلِ العَرَبُ مَكانَكَ زَيْدًا فَتُعَدِّيهِ، كَما تَعَدّى الزَمْ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أنْتُمْ رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ: مَخْزِيُّونَ، أوْ مُهانُونَ ونَحْوُهُ، انْتَهى.
فَيَكُونُ مَكانَكم قَدْ تَمَّ، ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهم كَذا، وهَذا ضَعِيفٌ لِفَكِّ الكَلامِ الظّاهِرِ لِاتِّصالِ بَعْضِ أجْزائِهِ بِبَعْضٍ، ولِتَقْدِيرِ إضْمارٍ لا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، ولِقَوْلِهِ: فَزَيَّلْنا بَيْنَهم، إذْ يَدُلُّ عَلى أنَّهم ثَبَتُوا هم وشُرَكاؤُكم في مَكانٍ واحِدٍ حَتّى وقَعَ التَّزْيِيلُ بَيْنَهم وهو التَّفْرِيقُ.
ولِقِراءَةِ مَن قَرَأ: أنْتُمْ وشُرَكاءَكم بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، والعامِلُ فِيهِ اسْمُ الفِعْلِ. ولَوْ كانَ أنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وقَدْ حُذِفَ خَبَرُهُ، لَما جازَ أنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، تَقُولُ: كُلُّ رَجُلٍ وضَيْعَتُهُ بِالرَّفْعِ، ولا يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أيْضًا: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أنْتُمْ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي في الفِعْلِ المُقَدَّرِ، الَّذِي هو قِفُوا أوْ نَحْوُهُ، انْتَهى.
وهَذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إذْ لَوْ كانَ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ بِالفِعْلِ لَجازَ تَقْدِيمُهُ عَلى الظَّرْفِ، إذِ الظَّرْفُ لَمْ يَتَحَمَّلْ ضَمِيرًا عَلى هَذا القَوْلِ فَيَلْزَمُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، وهو غَيْرُ جائِزٍ، لا تَقُولُ: أنْتَ مَكانَكَ، ولا يُحْفَظُ مِن كَلامِهِمْ.
والأصَحُّ أنْ لا يَجُوزَ حَذْفُ المُؤَكَّدِ في التَّأْكِيدِ المَعْنَوِيِّ، فَكَذَلِكَ هَذا، لِأنَّ التَّأْكِيدَ يُنافِي الحَذْفَ. ولَيْسَ مِن كَلامِهِمْ: أنْتَ زَيْدًا لِمَن رَأيْتَهُ قَدْ شَهَرَ سَيْفًا، وأنْتَ تُرِيدُ اضْرِبْ أنْتَ زَيْدًا، إنَّما كَلامُ العَرَبِ: زَيْدًا تُرِيدُ اضْرِبْ زَيْدًا.
يُقالُ زِلْتُ الشَّيْءَ عَنْ مَكانِهِ أُزِيلُهُ. قالَ الفَرّاءُ: تَقُولُ العَرَبُ: زِلْتُ الضَّأْنَ مِنَ المَعْزِ فَلَمْ تَزُلْ. وقالَ الواحِدِيُّ: التَّزْيِيلُ والتَّزَيُّلُ والمُزايَلَةُ: التَّمْيِيزُ والتَّفَرُّقُ، انْتَهى.
وزَيَّلَ مُضاعَفٌ لِلتَّكْثِيرِ، وهو لِمُفارَقَةِ الحبث وهُنَّ مِن ذَواتِ الياءِ، بِخِلافِ زالَ يَزُولُ فَمادَّتُهُما مُخْتَلِفَةٌ. وزَعَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أنَّ زَيَّلْنا مِن مادَّةِ زالَ يَزُولُ، وتَبِعَهُ أبُو البَقاءِ.
وقالَ أبُو البَقاءِ: فَزَيَّلْنا عَيْنُ الكَلِمَةِ واوٌ لِأنَّهُ مِن زالَ يَزُولُ، وإنَّما قُلِبَتْ ياءً لِأنَّ وزْنَ الكَلِمَةِ فَيْعَلَ أيْ: زَيْوَلْنا، مِثْلَ بَيْطَرَ وبَيْقَرَ، فَلَمّا اجْتَمَعَتِ الواوُ والياءُ عَلى الشَّرْطِ المَعْرُوفِ قُلِبَتْ ياءً، انْتَهى.
ولَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأنَّ فَعَّلَ أكْثَرُ مِن (فَيْعَلَ)، ولِأنَّ مَصْدَرَهُ تَزْيِيلٌ. ولَوْ كانَ فَيْعَلَ لَكانَ مَصْدَرُهُ فَيْعَلَةً، فَكانَ يَكُونُ زَيَّلَةً كَبَيْطَرَةٍ، لِأنَّ فَيْعَلَ مُلْحَقٌ بِفَعْلَلَ، ولِقَوْلِهِمْ في قَرِيبٍ مِن مَعْناهُ: زايَلَ، ولَمْ يَقُولُوا: زاوَلَ بِمَعْنى فارَقَ، إنَّما قالُوهُ بِمَعْنى: حاوَلَ وخالَطَ وشَرَحَ، فَزَيَّلْنا فَفَرَّقْنا بَيْنَهم وقَطَعْنا أقْرانَهم والوُصَلَ الَّتِي كانَتْ بَيْنَهم في الدُّنْيا، أوْ فَباعَدْنا بَيْنَهم بَعْدَ الجَمْعِ بَيْنَهم في المَوْقِفِ، وبَيْنَ شُرَكائِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: ٢٢] قالُوا ضَلُّوا عَنّا وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: فَزايَلْنا حَكاهُ الفَرّاءُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ: صاعَرَ خَدَّهُ وصَعَّرَ، وكالَمْتُهُ وكَلَّمْتُهُ، انْتَهى.
يَعْنِي أنَّ فاعَلَ بِمَعْنى فَعَّلَ، وزايَلَ في لِسانِ العَرَبِ بِمَعْنى فارَقَ. قالَ:
وقالَ العَذارى إنَّما أنْتَ عَمُّنا ∗∗∗ وكانَ الشَّبابُ كالخَلِيطِ يُزايِلُهْ
وقالَ آخَرُ:
لَعَمْرِي لِمَوْتٍ لا عُقُوبَةَ بَعْدَهُ ∗∗∗ لِذِي البَثِّ أشَفى مَن هَوى لا يُزايِلُهْ
والظّاهِرُ أنَّ التَّزْيِيلَ أوِ المُزايَلَةَ هو بِمُفارَقَةِ الأجْسامِ وتَباعُدِهِ. وقِيلَ: فَرَّقْنا بَيْنَهم في الحُجَّةِ والمَذْهَبِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفَزَيَّلْنا. وقالَ: هُنا ماضِيانِ لَفْظًا، والمَعْنى: فَنُزَيِّلُ بَيْنَهم، ونَقُولُ: لِأنَّهُما مَعْطُوفانِ عَلى مُسْتَقْبَلٍ، ونَفْيُ الشُّرَكاءِ عِبادَةَ المُشْرِكِينَ هو رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: لَإيّاكم كُنّا نَعْبُدُ، والمَعْنى: إنَّكم كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مَن أمَرَكم أنْ تَتَّخِذُوا لِلَّهِ تَعالى أنْدادًا فَأطَعْتُمُوهم، ولَمّا تَنازَعُوا اسْتَشْهَدَ الشُّرَكاءُ بِاللَّهِ تَعالى. وانْتَصَبَ شَهِيدًا، قِيلَ: عَلى الحالِ، والأصَحُّ عَلى التَّمْيِيزِ لِقَبُولِهِ مِن. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في كَفى وفي الياءِ، وإنْ هي الخَفِيفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وعِنْدَ القُرّاءِ هي النّافِيَةُ، واللّامُ بِمَعْنى إلّا، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في ذَلِكَ. واكْتِفاؤُهم بِشَهادَةِ اللَّهِ هو عَلى انْتِفاءِ أنَّهم عَبَدُوهم. ثُمَّ اسْتَأْنَفُوا جُمْلَةً خَبَرِيَّةً أنَّهم كانُوا غافِلِينَ عَنْ عِبادَتِهِمْ أيْ: لا شُعُورَ لَنا بِذَلِكَ. وهَذا يُرَجِّحُ أنَّ الشُّرَكاءَ هي الأصْنامُ كَما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ الشُّرَكاءُ مِمَّنْ يَعْقِلُ مِن إنْسِيٍّ أوْ جِنِّيٍّ أوْ مَلَكٍ، لَكانَ لَهُ شُعُورٌ بِعِبادَتِهِمْ، ولا شَيْءَ أعْظَمُ سَبَبًا لِلْغَفْلَةِ مِنَ الجَمادِيَّةِ، إذْ لا تُحِسُّ ولا تَشْعُرُ بِشَيْءٍ البَتَّةَ.
﴿هُنالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ما أسْلَفَتْ ورُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾: هُنالِكَ ظَرْفُ مَكانٍ أيْ: في ذَلِكَ المَوْقِفِ والمَقامِ المُقْتَضِي لِلْحَيْرَةِ والدَّهْشِ. وقِيلَ: هو إشارَةٌ إلى الوَقْتِ، اسْتُعِيرَ ظَرْفُ المَكانِ لِلزَّمانِ أيْ: في ذَلِكَ الوَقْتِ.
وقَرَأ الأخَوانِ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَتْلُو بِتاءَيْنِ أيْ: تَتْبَعُ وتَطْلُبُ ما أسْلَفَتْ مِن أعْمالِها، قالَهُ السُّدِّيُّ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
إنَّ المُرِيبَ يَتَّبِعُ المُرِيبا ∗∗∗ كَما رَأيْتَ الذِّيبَ يَتْلُو الذِّيبا
قِيلَ: ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مِنَ التِّلاوَةِ وهي القِراءَةُ أيْ: تَقْرَأُ كُتُبَها الَّتِي تُدْفَعُ إلَيْها. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: تَبْلُو بِالتّاءِ والباءِ، أيْ: تَخْتَبِرُ ما أسْلَفَتْ مِنَ العَمَلِ فَتَعْرِفُ كَيْفَ هو، أقَبِيحٌ أمْ حَسَنٌ ؟، أنافِعٌ أمْ ضارٌّ ؟، أمَقْبُولٌ أمْ مَرْدُودٌ ؟ كَما يَتَعَرَّفُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ بِاخْتِبارِهِ. ورُوِيَ عَنْ عاصِمٍ: نَبْلُو بِنُونٍ وباءٍ أيْ: نَخْتَبِرُ. وكُلُّ نَفْسٍ بِالنَّصْبِ، وما أسْلَفَتْ بَدَلٌ مِن كُلِّ نَفْسٍ، أوْ مَنصُوبٌ عَلى إسْقاطِ الخافِضِ أيْ: ما أسْلَفَتْ. أوْ يَكُونُ نَبْلُو مِنَ البَلاءِ، وهو العَذابُ، أيْ: نُصِيبُ كُلَّ نَفْسٍ عاصِيَةٍ بِالبَلاءِ، بِسَبَبِ ما أسْلَفَتْ مِنَ العَمَلِ المُسِيءِ. وعَنِ الحَسَنِ تَبْلُو: تَتَسَلَّمُ. وعَنِ الكَلْبِيِّ: تَعْلَمُ. وقِيلَ: تَذُوفُ.
وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ: ورِدُّوا بِكَسْرِ الرّاءِ، لَمّا سَكَّنَ لِلْإدْغامِ نَقَلَ حَرَكَةَ الدّالِّ إلى حَرَكَةِ الرّاءِ بَعْدَ حَذْفِ حَرَكَتِها. ومَعْنى إلى اللَّهِ: إلى عِقابِهِ. وقِيلَ: إلى مَوْضِعِ جَزائِهِ.
(مَوْلاهُمُ الحَقِّ) لا ما زَعَمُوهُ مِن أصْنامِهِمْ، إذْ هو المُتَوَلِّي حِسابَهم. فَهو مَوْلاهم في المِلْكِ والإحاطَةِ، لا في النَّصْرِ والرَّحْمَةِ. وقُرِئَ: الحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلى المَدْحِ نَحْوَ: الحَمْدُ لِلَّهِ أهْلَ الحَمْدِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ هَذا عَبْدُ اللَّهِ الحَقَّ لا الباطِلَ، عَلى تَأْكِيدِ قَوْلِهِ: رُدُّوا إلى اللَّهِ، انْتَهى. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ورُدُّوا إلى اللَّهِ، جُعِلُوا مُلْجَئِينَ إلى الإقْرارِ بِالإلَهِيَّةِ بَعْدَ أنْ كانُوا في الدُّنْيا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، ولِذَلِكَ قالَ: مَوْلاهُمُ الحَقِّ. وضَلَّ عَنْهم أيْ: بَطَلَ وذَهَبَ ما كانُوا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الكَذِبِ، أوْ مِن دَعْواهم أنَّ أصْنامَهم شُرَكاءُ لِلَّهِ شافِعُونَ لَهم عِنْدَهُ.