الباحث القرآني

(p-١٤٠)﴿فَلَمّا أنْجاهم إذا هم يَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ يا أيُّها النّاسُ إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكم مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إلَيْنا مَرْجِعُكم فَنُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَبْغُونَ بِالدُّعاءِ إلى عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ والعَمَلِ بِالمَعاصِي والفَسادِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى قَوْلِهِ ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾، والبَغْيُ لا يَكُونُ بِحَقٍّ ؟ قُلْتُ: بَلى وهو اسْتِيلاءُ المُسْلِمِينَ عَلى أرْضِ الكَفَرَةِ، وهَدْمُ دُورِهِمْ، وإحْراقُ زُرُوعِهِمْ، وقَطْعُ أشْجارِهِمْ كَما فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبَنِي قُرَيْظَةَ. انْتَهى. وكَأنَّهُ قَدْ شَرَحَ قَوْلَهُ: (يَبْغُونَ) بِأنَّهم يُفْسِدُونَ، ويُبْعَثُونَ مُتَرَقِّينَ في ذَلِكَ مُمْعِنِينَ فِيهِ، مِن بَغى الجُرْحُ إذا تَرَقّى لِلْفَسادِ. انْتَهى. قالَ الزَّجّاجُ: البَغْيُ التَّرَقِّي في الفَسادِ. وقالَ الأصْمَعِيُّ: بَغى الجُرْحُ تَرَقّى إلى الفَسادِ، وبَغَتِ المَرْأةُ فَجَرَتْ. انْتَهى. ولا يَصِحُّ أنْ يُقالَ في المُسْلِمِينَ إنَّهم باغُونَ عَلى الكَفَرَةِ، إلّا إنْ ذُكِرَ أنَّ أصْلَ البَغْيِ هو الطَّلَبُ مُطْلَقًا ولا يَتَضَمَّنُ الفَسادَ، فَحِينَئِذٍ يَنْقَسِمُ إلى طَلَبٍ بِحَقٍّ، وطَلَبٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. ولَمّا حَمَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ البَغْيَ هُنا عَلى الفَسادِ قالَ: أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ . وجَوابُ ”لَمّا“ ”إذا“ الفُجائِيَّةُ وما بَعْدَها، ومَجِيءُ ”إذا“ وما بَعْدَها جَوابًا لَها دَلِيلٌ عَلى أنَّها حَرْفٌ يَتَرَتَّبُ ما بَعْدَها مِنَ الجَوابِ عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ الفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ ”لَمّا“، وأنَّها تُفِيدُ التَّرَتُّبَ والتَّعْلِيقَ في المُضِيِّ، وأنَّها كَما قالَ سِيبَوَيْهِ: حَرْفٌ. ومَذْهَبُ غَيْرِهِ أنَّها ظَرْفٌ، وقَدْ أوْضَحْنا ذَلِكَ فِيما كَتَبْناهُ في عِلْمِ النَّحْوِ. والجَوابُ بِـ ”إذا“ الفُجائِيَّةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَتَأخَّرْ بَغْيُهم عَنْ إنْجائِهِمْ، بَلْ بِنَفْسِ ما وقَعَ الإنْجاءُ وقَعَ البَغْيُ، والخِطابُ بِـ ﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ - قالَ الجُمْهُورُ: لِأهْلِ مَكَّةَ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ خِطابٌ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أنْجاهُمُ اللَّهُ وبَغَوْا، ويَحْتَمِلُ - كَما قالُوا - العُمُومَ، فَيَنْدَرِجُ أُولَئِكَ فِيهِمْ، وهَذا ذَمٌّ لِلْبَغْيِ في أوْجَزِ لَفْظٍ. ومَعْنى (عَلى أنْفُسِكم): وبالُ البَغْيِ عَلَيْكم، ولا يَجْنِي ثَمَرَتَهُ إلّا أنْتُمْ. فَقَوْلُهُ: (عَلى أنْفُسِكم) خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هو (بَغْيُكم)، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وعَلى هَذا التَّوْجِيهِ انْتَصَبَ (مَتاعَ) في قِراءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وحَفْصٍ، وابْنِ أبِي إسْحاقَ، وهارُونَ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ أيْ: مُتَمَتِّعِينَ، أوْ باقِيًا عَلى المَصْدَرِيَّةِ أيْ: يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مَتاعَ، أوْ نَصْبًا عَلى الظَّرْفِ نَحْوُ: مَقْدِمَ الحاجِّ، أيْ: وقْتَ مَتاعِ الحَياةِ الدُّنْيا. وكُلُّ هَذِهِ التَّوْجِيهاتِ مَنقُولَةٌ. والعامِلُ في (مَتاعَ) إذا كانَ حالًا أوْ ظَرْفًا ما تَعَلَّقَ بِهِ خَبَرُ (بَغْيُكم)، أيْ: كائِنٌ عَلى أنْفُسِكم، ولا يَنْتَصِبانِ بِـ (بَغْيُكم)، لِأنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَعْمُولِهِ بِالخَبَرِ، وهو غَيْرُ جائِزٍ. وارْتَفَعَ (مَتاعُ) في قِراءَةِ الجُمْهُورِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وأجازَ النَّحّاسُ، وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ ﴿عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: (بَغْيُكم)، كَما تَعَلَّقَ في قَوْلِهِ ﴿فَبَغى عَلَيْهِمْ﴾ [القصص: ٧٦]، ويَكُونُ الخَبَرُ (مَتاعُ) إذا رَفَعْتُهُ. ومَعْنى ﴿عَلى أنْفُسِكُمْ﴾: عَلى أمْثالِكم والَّذِينَ جِنْسُكم جِنْسُهم، يَعْنِي: بَغْيُ بَعْضِكم عَلى بَعْضٍ مَنفَعَةُ الحَياةِ الدُّنْيا. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ أيْضًا: (مَتاعًا الحَياةَ الدُّنْيا) بِنَصْبِ مَتاعٍ وتَنْوِينِهِ، ونَصْبِ الحَياةِ. وقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ في هَذِهِ الجُمْلَةِ: تُعَجَّلُ لَكم عُقُوبَتُهُ في الحَياةِ الدُّنْيا. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: (فَيُنَبِّئُكم) بِالياءِ عَلى الغِيبَةِ، والمُرادُ لِلَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب