الباحث القرآني
﴿ولَقَدْ أهْلَكْنا القُرُونَ مِن قَبْلِكم لَمّا ظَلَمُوا وجاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ وما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿ثُمَّ جَعَلْناكم خَلائِفَ في الأرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾: هَذا إخْبارٌ لِمُعاصِرِي الرَّسُولِ ﷺ وخِطابٌ لَهم بِإهْلاكِ مَن سَلَفَ قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وهو الكُفْرُ، عَلى سَبِيلِ الرَّدْعِ لَهم والتَّذْكِيرِ بِحالِ مَن سَبَقَ مِنَ الكُفّارِ، والوَعِيدِ لَهم، وضَرْبِ الأمْثالِ، فَكَما فَعَلَ بِهَؤُلاءِ، يَفْعَلُ بِكم. ولَفْظَةُ ”لَمّا“ مُشْعِرَةٌ بِالعِلِّيَّةِ، وهي حَرْفُ تَعْلِيقٍ في الماضِي. ومَن ذَهَبَ إلى أنَّها ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِـ (أهْلَكْنا) كالزَّمَخْشَرِيِّ مُتَّبِعًا لِغَيْرِهِ، فَإنَّما يَدُلُّ إذْ ذاكَ عَلى وُقُوعِ الفِعْلِ في حِينِ الظُّلْمِ، فَلا يَكُونُ لَها إشْعارٌ إذْ ذاكَ بِالعِلِّيَّةِ. لَوْ قُلْتَ: جِئْتُ حِينَ قامَ زَيْدٌ، لَمْ يَكُنْ مَجِيئُكَ مُتَسَبِّبًا عَنْ قِيامِ زَيْدٍ، وأنْتَ تَرى حَيْثُما جاءَتْ ”لَمّا“ كانَ جَوابُها أوْ ما قامَ مَقامَهُ مُتَسَبِّبًا عَمّا بَعْدَها، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى صِحَّةِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ مِن أنَّها حَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ. (وجاءَتْهم) ظاهِرُهُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى (ظَلَمُوا)، أيْ: لَمّا حَصَلَ هَذانِ الأمْرانِ: مَجِيءُ الرُّسُلِ بِالبَيِّناتِ، وظُلْمُهم؛ أُهْلِكُوا.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والواوُ في (وجاءَتْهم) لِلْحالِ، أيْ: ظَلَمُوا بِالتَّكْذِيبِ، وقَدْ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالحُجَجِ والشَّواهِدِ عَلى صِدْقِهِمْ، وهي المُعْجِزاتُ. انْتَهى. وقالَ مُقاتِلٌ: البَيِّناتُ مُخَوِّفاتُ العَذابِ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ (وما كانُوا) عائِدًا عَلى (القُرُونَ)، وأنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ (ظَلَمُوا) . وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ اعْتِراضًا لا مَعْطُوفًا، قالَ: واللّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، بِمَعْنى: وما كانُوا يُؤْمِنُونَ حَقًّا، تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ إيمانِهِمْ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ عَلِمَ أنَّهم مُصِرُّونَ عَلى كُفْرِهِمْ، وأنَّ الإيمانَ مُسْتَبْعَدٌ مِنهم، والمَعْنى: أنَّ السَّبَبَ في إهْلاكِهِمْ تَعْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ، وعَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ لا فائِدَةَ في إمْهالِهِمْ بَعْدَ أنْ أُلْزِمُوا الحُجَّةَ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ. انْتَهى. وقالَ مُقاتِلٌ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ﴿وما كانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ عائِدٌ عَلى أهْلِ مَكَّةَ، فَعَلى قَوْلِهِ يَكُونُ التِفاتًا؛ لِأنَّهُ خَرَجَ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ، ويَكُونُ مُتَّسِقًا مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ﴾ [يونس: ١٥] . والكافُ في (كَذَلِكَ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الجَزاءِ، وهو الإهْلاكُ.
﴿نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ﴾ فَهَذا وعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَن أجْرَمَ، يَدْخُلُ فِيهِ أهْلُ مَكَّةَ وغَيْرُهم. (p-١٣١)وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: (يَجْزِي) بِالياءِ، أيْ يَجْزِي اللَّهُ، وهو التِفاتٌ. والخِطابُ في (جَعَلْناكم) لِمَن بُعِثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . وقِيلَ: خِطابٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ، والمَعْنى: اسْتَخْلَفْناكم في الأرْضِ بَعْدَ القُرُونِ المُهْلَكَةِ لِلنَّظَرِ أتَعْمَلُونَ خَيْرًا أمْ شَرًّا فَنُعامِلُكم عَلى حَسَبِ عَمَلِكم. ومَعْنى (لِنَنْظُرَ): لِنَتَبَيَّنَ في الوُجُودِ ما عَمِلْناهُ أوَّلًا، فالنَّظَرُ مَجازٌ عَنْ هَذا.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ جازَ النَّظَرُ عَلى اللَّهِ تَعالى، وفِيهِ مَعْنى المُقابَلَةِ ؟ قُلْتُ: هو مُسْتَعارٌ لِلْعِلْمِ المُحَقَّقِ الَّذِي هو عِلْمٌ بِالشَّيْءِ مَوْجُودٌ، أشْبَهَ بِنَظَرِ النّاظِرِ وعِيانِ المُعايِنِ في حَقِيقَتِهِ. انْتَهى. وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ، وأنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ المُقابَلَةُ، وفِيهِ إنْكارُ وصْفِهِ تَعالى بِالبَصِيرِ ورَدُّهُ إلى مَعْنى العِلْمِ. وقِيلَ: ﴿لِنَنْظُرَ﴾، هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: لِيَنْظُرَ رُسُلُنا وأوْلِياؤُنا. وأُسْنِدَ النَّظَرُ إلى اللَّهِ مَجازًا، وهو لِغَيْرِهِ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ الحارِثِ الزَّمّارِيُّ: (لِنَظَّرَ) بِنُونٍ واحِدَةٍ وتَشْدِيدِ الظّاءِ، وقالَ: هَكَذا رَأيْتُهُ في مُصْحَفِ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ويَعْنِي: أنَّهُ رَآها بِنُونٍ واحِدَةٍ، لِأنَّ النَّقْطَ والشَّكْلَ بِالحَرَكاتِ والتَّشْدِيداتِ إنَّما حَدَثَ بَعْدَ عُثْمانَ، ولا يَدُلُّ كَتْبُهُ بِنُونٍ واحِدَةٍ عَلى حَذْفِ النُّونِ مِنَ اللَّفْظِ، ولا عَلى إدْغامِها في الظّاءِ؛ لِأنَّ إدْغامَ النُّونِ في الظّاءِ لا يَجُوزُ، ومُسَوِّغُ حَذْفِها أنَّهُ لا أثَرَ لَها في الأنْفِ، فَيَنْبَغِي أنْ تُحْمَلَ قِراءَةُ يَحْيى عَلى أنَّهُ بالَغَ في إخْفاءِ الغُنَّةِ، فَتَوَهَّمُ السّامِعُ أنَّهُ إدْغامٌ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إلَيْهِ. و”كَيْفَ“ مَعْمُولَةٌ لِـ (تَعْمَلُونَ)، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ (لِنَنْظُرَ)، لِأنَّها مُعَلَّقَةٌ. وجازَ التَّعْلِيقُ في (نَظَرَ)، وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن أفْعالِ القُلُوبِ؛ لِأنَّها وصْلَةُ فِعْلِ القَلْبِ الَّذِي هو العِلْمُ.
{"ayahs_start":13,"ayahs":["وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُوا۟ وَجَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَمَا كَانُوا۟ لِیُؤۡمِنُوا۟ۚ كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِینَ","ثُمَّ جَعَلۡنَـٰكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لِنَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ"],"ayah":"ثُمَّ جَعَلۡنَـٰكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لِنَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق