الباحث القرآني

﴿ولَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهم بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهم فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾: قالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتْ في دُعاءِ الرَّجُلِ عَلى نَفْسِهِ ومالِهِ أوْ ولَدِهِ ونَحْوِ هَذا. فَأخْبَرَ تَعالى لَوْ فَعَلَ مَعَ النّاسِ في إجابَتِهِ إلى المَكْرُوهِ مِثْلَ ما يُرِيدُونَ فِعْلَهُ مِنهم في إجابَتِهِ إلى الخَيْرِ لَأهْلَكَهم، ثُمَّ حَذَفَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ القَوْلِ جُمْلَةً يَتَضَمَّنُها الظّاهِرُ، تَقْدِيرُها: فَلا يَفْعَلُ ذَلِكَ، ولَكِنْ نَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ فاقْتَضَبَ القَوْلَ، ووَصَلَ إلى هَذا المَعْنى بِقَوْلِهِ: ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ﴾، فَتَأمَّلْ هَذا التَّقْدِيرَ تَجِدْهُ صَحِيحًا، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في قَوْلِهِمْ: ﴿ائْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ [الأعراف: ٧٧]، وما جَرى مَجْراهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمُرادُ أهْلُ مَكَّةَ. وقَوْلُهم: ﴿فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً﴾ [الأنفال: ٣٢] يَعْنِي: ولَوْ عَجَّلْنا لَهُمُ الشَّرَّ الَّذِي دَعَوْا بِهِ كَما نُعَجِّلُ لَهُمُ الخَيْرَ لَأُمِيتُوا وأُهْلِكُوا. قالَ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ اتَّصَلَ بِهِ ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا﴾، وما مَعْناهُ ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ﴾ مُتَضَمِّنٌ مَعْنى نَفْيِ التَّعْجِيلِ؛ كَأنَّهُ قالَ: ولا نُعَجِّلُ لَهُمُ الشَّرَّ ولا نَقْضِي إلَيْهِمْ أجَلَهم، فَنَذَرُهم في طُغْيانِهِمْ، أوْ فَنُمْهِلُهم، ونُقَيِّضُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ مَعَ طُغْيانِهِمْ إلْزامًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ عَجَبَ النّاسِ مِن إيحاءِ اللَّهِ إلى رَجُلٍ مِنهم، وكانَ فِيما أُوحِيَ إلَيْهِ الإنْذارُ والتَّبْشِيرُ، وكانُوا يَسْتَهِزِئُونَ بِذَلِكَ ولا يَعْتَقِدُونَ حُلُولَ ما أنْذَرُوهُ بِهِمْ فَقالُوا: ﴿فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً﴾ [الأنفال: ٣٢]، وقالَ إخْبارًا عَنْهم: ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ﴾ [الحج: ٤٧] وقالُوا: ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ [الأعراف: ٧٠] ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِن ذَلِكَ إلى وحْدانِيَّتِهِ تَعالى، وذَكَرَ إيجادَهُ العالَمَ، ثُمَّ إلى تَقْسِيمِ النّاسِ إلى مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، وذَكَرَ مَنازِلَ الفَرِيقَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إلى أنَّ ذَلِكَ المُنْذَرَ بِهِ الَّذِي طَلَبُوا وُقُوعَهُ عَجَلًا لَوْ وقَعَ لَهَلَكُوا، فَلَمْ يَكُنْ في إهْلاكِهِمْ رَجاءُ إيمانِ بَعْضِهِمْ، وإخْراجُ مُؤْمِنٍ مِن صُلْبِهِمْ بَلِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أنْ لا يُعَجِّلَ لَهم ما طَلَبُوهُ، لِما تَرَتَّبَ عَلى ذَلِكَ. وانْتَصَبَ (اسْتِعْجالَهم) عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُشَبَّهٌ بِهِ. فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أصْلُهُ ولَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنّاسِ الشَّرَّ تَعْجِيلَهُ لَهُمُ الخَيْرَ، فَوَضَعَ اسْتِعْجالَهُ لَهم بِالخَيْرِ مَوْضِعَ تَعْجِيلِهِ لَهُمُ الخَيْرَ إشْعارًا بِسُرْعَةِ إجابَتِهِ لَهم وإسْعافِهِ بِطِلْبَتِهِمْ، كَأنَّ اسْتِعْجالَهم بِالخَيْرِ تَعْجِيلٌ لَهم. وقالَ الحَوْفِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ: التَّقْدِيرُ مِثْلُ اسْتِعْجالِهِمْ، وكَذا قَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ. ومَدْلُولُ عَجَّلَ غَيْرُ مَدْلُولِ اسْتَعْجَلَ، لِأنَّ عَجَّلَ يَدُلُّ عَلى الوُقُوعِ، واسْتَعْجَلَ يَدُلُّ عَلى (p-١٢٩)طَلَبِ التَّعْجِيلِ، وذاكَ واقِعٌ مِنَ اللَّهِ، وهَذا مُضافٌ إلَيْهِمْ فَلا يَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلى ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَيَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ تَعْجِيلًا مِثْلَ اسْتِعْجالِهِمْ بِالخَيْرِ، فَشَبَّهَ التَّعْجِيلَ بِالِاسْتِعْجالِ؛ لِأنَّ طَلَبَهم لِلْخَيْرِ، ووُقُوعُ تَعْجِيلِهِ مُقَدَّمٌ عِنْدَهم عَلى كُلِّ شَيْءٍ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ ثَمَّ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَصْدَرُ، تَقْدِيرُهُ: ولَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنّاسِ الشَّرَّ إذا اسْتَعْجَلُوا بِهِ اسْتِعْجالَهم بِالخَيْرِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالشَّرِّ ووُقُوعِهِ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، كَما كانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالخَيْرِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: (لَقَضى) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ (أجَلَهم) بِالنَّصْبِ، والأعْمَشُ: (لَقَضَيْنا)، وباقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، و(أجَلُهم) بِالرَّفْعِ. وقَضى أكْمَلُ، والفاءُ في (فَنَذَرُ) جَوابُ ما أخْبَرَ بِهِ عَنْهم عَلى طَرِيقِ الِاسْتِئْنافِ، تَقْدِيرُهُ: فَنَحْنُ نَذَرُ، قالَهُ الحَوْفِيُّ. وقالَ أبُو البَقاءِ: (فَنَذَرُ) مَعْطُوفٌ عَلى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: ولَكِنْ نُمْهِلُهم فَنَذَرُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب