الباحث القرآني
﴿اهْدِنا﴾ الهِدايَةُ: الإرْشادُ والدَّلالَةُ والتَّقَدُّمُ، ومِنهُ الهَوادِي أوِ التَّبْيِينُ، ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ﴾ [فصلت: ١٧] أوِ الإلْهامُ ﴿أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ [طه: ٥٠]، قالَ المُفَسِّرُونَ: مَعْناهُ ألْهَمَ الحَيَواناتِ كُلَّها إلى مَنافِعِها، أوِ الدُّعاءُ، ﴿ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ [الرعد: ٧] أيْ داعٍ، والأصْلُ في هَدى أنْ يَصِلَ إلى ثانِي مَعْمُولِهِ بِاللّامِ ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] أوْ إلى ﴿لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] ثُمَّ يَتَّسِعُ فِيهِ فَيُعَدّى إلَيْهِ بِنَفْسِهِ، ومِنهُ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ﴾، ونا ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ ومَعَهُ غَيْرُهُ أوْ مُعْظَمُ نَفْسِهِ. ويَكُونُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ ونَصْبٍ وجَرٍّ.
﴿الصِّراطَ﴾ الطَّرِيقَ، وأصْلُهُ بِالسِّينِ مِنَ السَّرْطِ، وهو اللَّقْمُ، ومِنهُ سُمِّيَ الطَّرِيقُ لَقْمًا، وبِالسِّينِ عَلى الأصْلِ قَرَأ قُنْبُلٌ ورُوَيْسٌ، وإبْدالُ سِينِهِ صادًا هي الفُصْحى، وهي لُغَةُ قُرَيْشٍ، وبِها قَرَأ الجُمْهُورُ، وبِها كُتِبَتْ في الإمامِ، وزايًا لُغَةٌ رَواها الأصْمَعِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو، وإشْمامُها زايًا لُغَةُ قَيْسٍ، وبِهِ قَرَأ حَمْزَةُ بِخِلافٍ وتَفْصِيلٍ عَنْ رُواتِهِ. وقالَ أبُو يَعْلى: ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو، والسِّينُ والصّادُ والمُضارَعَةُ بَيْنَ الزّايِ والصّادِ، ورَواهُ عَنْهُ العُرْيانُ عَنْ أبِي سُفْيانَ، ورَوى الأصْمَعِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو أنَّهُ قَرَأها بِزايٍ خالِصَةٍ. قالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: ما حَكاهُ الأصْمَعِيُّ في هَذِهِ القِراءَةِ خَطَأٌ مِنهُ إنَّما سَمِعَ أبا عَمْرٍو يَقْرَؤُها بِالمُضارَعَةِ فَتَوَهَّمَها زايًا، ولَمْ يَكُنِ الأصْمَعِيُّ نَحْوِيًّا فَيُؤْمَنَ عَلى هَذا. وحَكى هَذا الكَلامَ أبُو عَلِيٍّ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ مُجاهِدٍ، وقالَ أبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ في تَفْسِيرِهِ، وهو إمامٌ مِن أئِمَّةِ الإمامِيَّةِ: الصِّراطُ بِالصّادِ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وهي اللُّغَةُ الجَيِّدَةُ، وعامَّةُ العَرَبِ يَجْعَلُونَها سِينًا، والزّايُ لُغَةٌ لِعُذْرَةَ وكَعْبٍ وبَنِي القَيْنِ. وقالَ أبُو بَكْرِ بْنِ مُجاهِدٍ: وهَذِهِ القِراءَةُ تُشِيرُ إلى أنَّ قِراءَةَ مَن قَرَأ بَيْنَ الزّايِ والصّادِ تَكَلُّفُ حَرْفٍ بَيْنَ حَرْفَيْنِ، وذَلِكَ صَعْبٌ عَلى اللِّسانِ، ولَيْسَ بِحَرْفٍ يَنْبَنِي عَلَيْهِ الكَلامُ، ولا هو مِن حُرُوفِ المُعْجَمِ. ولَسْتُ أدْفَعُ أنَّهُ مِن كَلامِ فُصَحاءِ العَرَبِ، إلّا أنَّ الصّادَ أفْصَحُ وأوْسَعُ، ويُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وتَذْكِيرُهُ أكْثَرُ. وقالَ أبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: أهْلُ الحِجازِ يُؤَنِّثُونَ الصِّراطَ كالطَّرِيقِ والسَّبِيلِ والزُّقاقِ والسُّوقِ، وبَنُو تَمِيمٍ يُذَكِّرُونَ هَذا كُلَّهُ ويُجْمَعُ في الكَثْرَةِ عَلى سُرُطٍ، نَحْوِ كِتابٍ وكُتُبٍ، وفي القِلَّةِ قِياسُهُ أسْرِطَةٌ، نَحْوُ حِمارٍ وأحْمِرَةٍ، هَذا إذا كانَ الصِّراطُ مُذَكَّرًا، وأمّا (p-٢٦)إذا أُنِّثَ فَقِياسُهُ أفْعُلٌ نَحْوُ ذِراعٍ وأذْرُعٍ وشِمالٍ وأشْمُلٍ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والضَّحّاكُ ونَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنِ الحَسَنِ: اهْدِنا صِراطًا مُسْتَقِيمًا، بِالتَّنْوِينِ مِن غَيْرِ لامِ التَّعْرِيفِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] ﴿صِراطِ اللَّهِ﴾ [الشورى: ٥٣] .
﴿المُسْتَقِيمَ﴾ اسْتَقامَ: اسْتَفْعَلَ بِمَعْنى الفِعْلِ المُجَرَّدِ مِنَ الزَّوائِدِ، وهَذا أحَدُ مَعانِي اسْتَفْعَلَ، وهو أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الفِعْلِ المُجَرَّدِ، وهو قامَ، والقِيامُ هو الِانْتِصابُ والِاسْتِواءُ مِن غَيْرِ اعْوِجاجٍ.
* * *
﴿صِراطَ الَّذِينَ﴾ اسْمٌ مَوْصُولٌ، والأفْصَحُ كَوْنُهُ بِالياءِ في أحْوالِهِ الثَّلاثَةِ، وبَعْضُ العَرَبِ يَجْعَلُهُ بِالواوِ في حالَةِ الرَّفْعِ، واسْتِعْمالُهُ بِحَذْفِ النُّونِ جائِزٌ، وخَصَّ بَعْضُهم ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ، إلّا إنْ كانَ لِغَيْرِ تَخْصِيصٍ فَيَجُوزُ في غَيْرِها، وسُمِعَ حَذْفُ ألْ مِنهُ فَقالُوا الَّذِينَ، وفِيما تُعَرَّفُ بِهِ خِلافٌ ذُكِرَ في النَّحْوِ، ويُخَصُّ العُقَلاءُ بِخِلافِ الَّذِي، فَإنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلى ذِي العِلْمِ وغَيْرِهِ.
﴿أنْعَمْتَ﴾ النِّعْمَةُ: لِينُ العَيْشِ وخَفْضُهُ، ولِذَلِكَ قِيلَ لِلْجَنُوبِ النُّعامى لِلِينِ هُبُوبِها، وسُمِّيَتِ النَّعامَةُ لِلِينِ سَهْمِها، نَعِمَ إذا كانَ في نِعْمَةٍ، وأنْعَمْتُ عَيْنَهُ أيْ سَرَرْتُها، وأنْعَمَ عَلَيْهِ بالَغَ في التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ، أيْ والهَمْزَةُ في أنْعَمَ بِجَعْلِ الشَّيْءِ صاحِبَ ما صِيغَ مِنهُ، إلّا أنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنى التَّفَضُّلِ، فَعُدِّيَ بِعَلى، وأصْلُهُ التَّعْدِيَةُ بِنَفْسِهِ. أنْعَمْتُهُ أيْ جَعَلْتُهُ صاحِبَ نِعْمَةٍ، وهَذا أحَدُ المَعانِي الَّتِي لِأفْعَلَ، وهي أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ مَعْنًى، هَذا أحَدُها. والتَّعْدِيَةُ، والكَثْرَةُ، والصَّيْرُورَةُ، والإعانَةُ، والتَّعْرِيضُ، والسَّلْبُ، وإصابَةُ الشَّيْءِ بِمَعْنى ما صِيغَ مِنهُ، وبُلُوغُ عَدَدٍ أوْ زَمانٍ أوْ مَكانٍ، ومُوافَقَةُ ثُلاثِيٍّ، وإغْناءٌ عَنْهُ، ومُطاوَعَةُ فِعْلٍ وفِعْلٍ، والهُجُومُ، ونَفْيُ الغَرِيزَةِ، والتَّسْمِيَةُ، والدُّعاءُ، والِاسْتِحْقاقُ، والوُصُولُ، والِاسْتِقْبالُ، والمَجِيءُ بِالشَّيْءِ والتَّفْرِقَةُ (مِثْلَ ذَلِكَ) أدْنَيْتُهُ وأعْجَبَنِي المَكانَ، وأغَدَّ البَعِيرُ وأحْلَيْتُ فُلانًا، وأقْبَلْتُ فُلانًا، واشْتَكَيْتُ الرَّجُلَ، وأحْمَدْتُ فُلانًا، وأعْشَرْتُ الدَّراهِمَ، وأصْبَحْنا، وأشْأمَ القَوْمُ، وأحْزَنَهُ بِمَعْنى حَزَّنَهُ، وأرْقَلَ، وأقْشَعَ السَّحابُ مُطاوِعُ قَشَعَ الرِّيحُ السَّحابَ، وأفْطَرَ مُطاوِعُ فَطَّرْتُهُ، واطَّلَعْتُ عَلَيْهِمْ، وأسْتَرِيحُ، وأخْطَيْتُهُ سَمَّيْتُهُ مُخْطِئًا، وأسْقَيْتُهُ، وأحْصَدَ الزَّرْعُ، وأغْفَلْتُهُ وصَلَتْ غَفْلَتِي إلَيْهِ، وأفَّفْتُهُ اسْتَقْبَلْتُهُ بِأُفٍّ هَكَذا مِثْلُ هَذا. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ أفْعَلَ فَعَلَ، ومُثِّلَ الِاسْتِقْبالُ أيْضًا بِقَوْلِهِمْ: أسْقَيْتُهُ أيِ اسْتَقْبَلْتُهُ بِقَوْلِكَ سُقْيًا لَكَ، وكَثَّرْتُ جِئْتُ بِالكَثِيرِ، وأشْرَقَتِ الشَّمْسُ أضاءَتْ، وشَرَقَتْ طَلَعَتْ. التّاءُ المُتَّصِلَةُ بِأنْعَمَ ضَمِيرُ المُخاطَبِ المُذَكَّرِ المُفْرَدِ، وهِي حَرْفٌ في أنْتَ، والضَّمِيرانِ فَهو مُرَكَّبٌ.
﴿عَلَيْهِمْ﴾ عَلى: حَرْفُ جَرٍّ عِنْدَ الأكْثَرِينَ، إلّا إذا جُرَّتْ بِمَن، أوْ كانَتْ في نَحْوِ هَوِّنْ عَلَيْكَ. ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّها إذا جُرَّتِ اسْمُ ظَرْفٍ؛ ولِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّها في حُرُوفِ الجَرِّ، ووافَقَهُ جَماعَةٌ مِن مُتَأخِّرِي أصْحابِنا، ومَعْناها الِاسْتِعْلاءُ حَقِيقَةً أوْ مَجازًا، وزَيْدٌ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى عَنْ، وبِمَعْنى الباءِ، وبِمَعْنى في، ولِلْمُصاحِبَةِ، ولِلتَّعْلِيلِ، وبِمَعْنى مِن، وزائِدَةٌ، مِثْلَ ذَلِكَ ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦]، ﴿فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣]، بَعْدَ عَلى كَذا ﴿حَقِيقٌ عَلى أنْ لا أقُولَ﴾ [الأعراف: ١٠٥] عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ﴿وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧]، ﴿ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٥]، ﴿حافِظُونَ﴾ [المؤمنون: ٥] ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ﴾ [المؤمنون: ٦] .
؎أبى اللَّهُ إلّا أنَّ سَرْحَةَ مالِكٍ عَلى كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ.
أيْ تَرُوقُ كُلُّ أفْنانِ العِضاهِ. هم ضَمِيرُ جَمْعٍ غائِبٍ مُذَكَّرٍ عاقِلٍ، ويَكُونُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ ونَصْبٍ وجَرٍّ. وحَكى اللُّغَوِيُّونَ في عَلَيْهِمْ عَشْرَ لُغاتٍ ضَمُّ الهاءِ، وإسْكانُ المِيمِ، وهي قِراءَةُ حَمْزَةَ. وكَسْرُها وإسْكانُ المِيمِ، وهِي قِراءَةُ الجُمْهُورِ. وكَسْرُ الهاءِ والمِيمِ وياءٌ بَعْدَها، وهِي قِراءَةُ الحَسَنِ. وزادَ ابْنُ مُجاهِدٍ أنَّها قِراءَةُ عُمَرَ بْنِ فائِدٍ وكَذَلِكَ بِغَيْرِ ياءٍ، وهي قِراءَةُ عَمْرِو بْنِ فائِدٍ. وكَسْرُ الهاءِ وضَمُّ المِيمِ وواوٌ بَعْدَها، وهي قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وقالُونَ بِخِلافٍ عَنْهُ. وكَسْرُ الهاءِ وضَمُّ المِيمِ بِغَيْرِ واوٍ وضَمُّ الهاءِ والمِيمِ وواوٌ بَعْدَها، وهي قِراءَةُ (p-٢٧)الأعْرَجِ والخَفّافِ عَنْ أبِي عَمْرٍو. وكَذَلِكَ بِدُونِ واوٍ وضَمِّ الهاءِ وكَسْرِ المِيمِ بِياءٍ بَعْدَها. كَذَلِكَ بِغَيْرِ ياءٍ. وقُرِئَ بِهِما، (وتَوْضِيحُ هَذِهِ القِراءاتِ بِالخَطِّ والشَّكْلِ): عَلَيْهم عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمُوا عَلَيْهِمُ عَلَيْهِمِي عَلَيْهِمِ عَلَيْهُمُ عَلَيْهُمِي عَلَيْهُمِ عَلَيْهُمُوا. ومُلَخَّصُها ضَمُّ الهاءِ مَعَ سُكُونِ المِيمِ، أوْ ضَمُّها بِإشْباعٍ، أوْ دُونَهُ، أوْ كَسْرُها بِإشْباعٍ، أوْ دُونَهُ وكَسْرُ الهاءِ مَعَ سُكُونِ المِيمِ، أوْ كَسْرُها بِإشْباعٍ، أوْ دُونَهُ، أوْ ضَمُّها بِإشْباعٍ، أوْ دُونَهُ، وتَوْجِيهُ هَذِهِ القِراءاتِ ذُكِرَ في النَّحْوِ. اهْدِنا صُورَتُهُ صُورَةُ الأمْرِ، ومَعْناهُ الطَّلَبُ والرَّغْبَةُ، وقَدْ ذَكَرَ الأُصُولِيُّونَ لِنَحْوِ هَذِهِ الصِّيغَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَحْمَلًا، وأصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أنْ تَدُلَّ عَلى الطَّلَبِ، لا عَلى فَوْرٍ ولا تَكْرارٍ ولا تَحَتُّمٍ، وهَلْ مَعْنى اهْدِنا أرْشِدْنا أوْ وفِّقْنا أوْ قَدِّمْنا أوْ ألْهِمْنا أوْ بَيِّنْ لَنا أوْ ثَبِّتْنا ؟ أقْوالٌ أكْثَرُها عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وآخِرُها عَنْ عَلِيٍّ وأُبَيٍّ. وقَرَأ ثابِتٌ البُنانِيُّ بَصِّرْنا الصِّراطَ، ومَعْنى الصِّراطِ القُرْآنُ، قالَهُ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ. وذَكَرَ المَهْدَوِيُّ أنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ فَسَّرَهُ بِكِتابِ اللَّهِ أوِ الإيمانِ وتَوابِعِهِ، أوِ الإسْلامِ وشَرائِعِهِ، أوِ السَّبِيلِ المُعْتَدِلِ، أوْ طَرِيقِ النَّبِيِّ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ والحَسَنُ، أوْ طَرِيقِ الحَجِّ، قالَهُ فُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ، أوِ السُّنَنِ، قالَهُ عُثْمانُ، أوْ طَرِيقِ الجَنَّةِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أوْ طَرِيقِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، قالَهُ القُشَيْرِيُّ، أوْ طَرِيقِ الخَوْفِ والرَّجاءِ، قالَهُ التِّرْمِذِيُّ، أوْ جِسْرِ جَهَنَّمَ، قالَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ.
ورُوِيَ عَنِ المُتَصَوِّفَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ أقْوالٌ، مِنها: قَوْلُ بَعْضِهِمْ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ بِالغَيْبُوبَةِ عَنِ الصِّراطِ لِئَلّا يَكُونَ مَرْبُوطًا بِالصِّراطِ، وقَوْلُ الجُنَيْدِ إنَّ سُؤالَ الهِدايَةِ عِنْدَ الحَيْرَةِ مِن إشْهارِ الصِّفاتِ الأزَلِيَّةِ، فَسَألُوا الهِدايَةَ إلى أوْصافِ العُبُودِيَّةِ لِئَلّا يَسْتَغْرِقُوا في الصِّفاتِ الأزَلِيَّةِ. وهَذِهِ الأقْوالُ يَنْبُو عَنْها اللَّفْظُ، ولَهم فِيما يَذْكُرُونَ ذَوْقٌ وإدْراكٌ لَمْ نَصِلْ نَحْنُ إلَيْهِ بَعْدُ. وقَدْ شُحِنَتِ التَّفاسِيرُ بِأقْوالِهِمْ، ونَحْنُ نُلِمُّ بِشَيْءٍ مِنها لِئَلّا يُظَنَّ أنّا إنَّما تَرَكْنا ذِكْرَها لِكَوْنِنا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْها. وقَدْ رَدَّ الفَخْرُ الرّازِيُّ عَلى مَن قالَ إنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ هو القُرْآنُ أوِ الإسْلامُ وشَرائِعُهُ، قالَ: لِأنَّ المُرادَ ”﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾“ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ ولَمْ يَكُنْ لَهُمُ القُرْآنُ ولا الإسْلامُ، يَعْنِي بِالإسْلامِ هَذِهِ المِلَّةَ الإسْلامِيَّةَ المُخْتَصَّةَ بِتَكالِيفَ لَمْ تَكُنْ تَقَدَّمَتْها. وهَذا الرَّدُّ لا يَتَأتّى لَهُ إلّا إذا صَحَّ أنَّ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هم مُتَقَدِّمُونَ، وسَتَأْتِي الأقاوِيلُ في تَفْسِيرِ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، واتِّصالُ نا بِاهْدِ مُناسِبٌ لِنَعْبُدَ ونَسْتَعِينَ لِأنَّهُ لَمّا أخْبَرَ المُتَكَلِّمُ أنَّهُ هو ومَن مَعَهُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ ويَسْتَعِينُونَهُ سَألَ لَهُ ولَهُمُ الهِدايَةَ إلى الطَّرِيقِ الواضِحِ؛ لِأنَّهم بِالهِدايَةِ إلَيْهِ تَصِحُّ مِنهُمُ العِبادَةُ. ألا تَرى أنَّ مَن لَمْ يَهْتَدِ إلى السَّبِيلِ المُوَصِّلَةِ لِمَقْصُودِهِ لا يَصِحُّ لَهُ بُلُوغَ مَقْصُودِهِ ؟ وقَرَأ الحَسَنُ والضَّحّاكُ: صِراطًا مُسْتَقِيمًا دُونَ تَعْرِيفٍ. وقَرَأ جَعْفَرٌ الصّادِقُ: صِراطَ مُسْتَقِيمٍ بِالإضافَةِ، أيِ الدِّينَ المُسْتَقِيمَ. فَعَلى قِراءَةِ الحَسَنِ والضَّحّاكِ يَكُونُ ﴿صِراطَ الَّذِينَ﴾ بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِن نَكِرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] ﴿صِراطِ اللَّهِ﴾ [الشورى: ٥٣]، وعَلى قِراءَةِ الصّادِقِ وقِراءاتِ الجُمْهُورِ تَكُونُ بَدَلَ مَعْرِفَةٍ مِن مَعْرِفَةِ ﴿صِراطَ الَّذِينَ﴾ بَدَلُ شَيْءٍ مِن شَيْءٍ، وهَما بِعَيْنٍ واحِدَةٍ، وجِيءَ بِها لِلْبَيانِ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ قَبْلَ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ كانَ فِيهِ بَعْضُ إبْهامٍ، فَعَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿صِراطَ الَّذِينَ﴾ لِيَكُونَ المَسْئُولُ الهِدايَةَ إلَيْهِ قَدْ جَرى ذِكْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وصارَ بِذَلِكَ البَدَلُ فِيهِ حَوالَةً عَلى طَرِيقٍ مِن أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أثْبَتُ وأوْكَدُ، وهَذِهِ هي فائِدَةُ نَحْوِ هَذا البَدَلِ، ولِأنَّهُ عَلى تَكْرارِ العامِلِ، فَيَصِيرُ في التَّقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ، ولا يَخْفى ما في الجُمْلَتَيْنِ مِنَ التَّأْكِيدِ، فَكَأنَّهم كَرَّرُوا طَلَبَ الهِدايَةِ.
ومِن غَرِيبِ القَوْلِ أنَّ الصِّراطَ الثّانِيَ لَيْسَ الأوَّلَ بَلْ هو غَيْرُهُ، وكَأنَّهُ قُرِئَ فِيهِ حَرْفُ العَطْفِ، وفي تَعْيِينِ ذَلِكَ اخْتِلافٌ. قِيلَ: هو العِلْمُ بِاللَّهِ والفَهْمُ عَنْهُ، قالَهُ جَعْفَرُ بْنُ (p-٢٨)مُحَمَّدٍ، وقِيلَ: التِزامُ الفَرائِضِ واتِّباعُ السُّنَنِ، وقِيلَ: هو مُوافَقَةُ الباطِنِ لِلظّاهِرِ في إسْباغِ النِّعْمَةِ. قالَ تَعالى: ﴿وأسْبَغَ عَلَيْكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً﴾ [لقمان: ٢٠] وقَرَأ: صِراطَ مَن أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، ابْنُ مَسْعُودٍ وعُمَرُ وابْنُ الزُّبَيْرِ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ. والمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ هُنا الأنْبِياءُ أوِ المَلائِكَةُ أوْ أُمَّةُ مُوسى وعِيسى الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا، أوِ النَّبِيُّ ﷺ أوِ النَّبِيُّونَ والصِّدِّيقُونَ والشُّهَداءُ والصّالِحُونَ، أوِ المُؤْمِنُونَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. أوِ الأنْبِياءُ والمُؤْمِنُونَ، أوِ المُسْلِمُونَ، قالَهُ وكِيعٌ، أقْوالٌ، وعَزا كَثِيرًا مِنها إلى قائِلِها ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقالَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ: أرادَ صِراطَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ، انْتَزَعُوا ذَلِكَ مِن آيَةِ النِّساءِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هُمُ المُؤْمِنُونَ. وقالَ الحَسَنُ: أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ . وقالَتْ فِرْقَةٌ: مُؤْمِنُو بَنِي إسْرائِيلَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أصْحابُ مُوسى قَبْلَ أنْ يُبَدِّلُوا. وقالَ قَتادَةُ: الأنْبِياءُ خاصَّةً. وقالَ أبُو العالِيَةِ: مُحَمَّدٌ ﷺ وأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ، انْتَهى مُلَخَّصًا. ولَمْ يُقَيِّدِ الأنْعامَ لِيَعُمَّ جَمِيعَ الأنْعامِ، أعْنِي عُمُومَ البَدَلِ. وقِيلَ: أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِهِمْ لِلسَّعادَةِ، وقِيلَ: بِأنْ نَجّاهم مِنَ الهَلَكَةِ، وقِيلَ: بِالهِدايَةِ واتِّباعِ الرَّسُولِ، ورُوِيَ عَنِ المُتَصَوِّفَةِ تَقْيِيداتٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ، ولَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى تَعْيِينِ قَيْدٍ. واخْتُلِفَ هَلْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلى الكافِرِ ؟ فَأثْبَتَها المُعْتَزِلَةُ ونَفاها غَيْرُهم. ومَوْضِعُ عَلَيْهِمْ نَصْبٌ، وكَذا كُلُّ حَرْفِ جَرٍّ تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ، أوْ ما جَرى مَجْراهُ غَيْرَ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ. وبِناءُ أنْعَمْتُ لِلْفاعِلِ اسْتِعْطافٌ لِقَبُولِ التَّوَسُّلِ بِالدُّعاءِ في الهِدايَةِ وتَحْصِيلِها، أيْ طَلَبْنا مِنكَ الهِدايَةَ، إذْ سَبَقَ إنْعامُكَ، فَمِن إنْعامِكَ إجابَةُ سُؤالِنا ورَغْبَتِنا، كَمِثْلِ أنْ تَسْألَ مِن شَخْصٍ قَضاءَ حاجَةٍ وتُذَكِّرَهُ بِأنَّ مِن عادَتِهِ الإحْسانُ بِقَضاءِ الحَوائِجِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آكَدُ في اقْتِضائِها وأدْعى إلى قَضائِهِ. وانْقِلابُ الفاعِلِ مَعَ المُضْمَرِ هي اللُّغَةُ الشُّهْرى، ويَجُوزُ إقْرارُها مَعَهُ عَلى لُغَةٍ، ومَضْمُونُ هَذِهِ الجُمْلَةِ طَلَبُ اسْتِمْرارِ الهِدايَةِ إلى طَرِيقِ مَن أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّ مَن صَدَرَ مِنهُ حَمِدَ اللَّهَ وأخْبَرَ بِأنَّهُ يَعْبُدُهُ ويَسْتَعِينُهُ فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ الهِدايَةُ، لَكِنْ يَسْألُ دَوامَها واسْتِمْرارَها.
﴿غَيْرِ﴾ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ دائِمًا، وإذا أُرِيدَ بِهِ المُؤَنَّثَ جازَ تَذْكِيرُ الفِعْلِ حَمْلًا عَلى اللَّفْظِ، وتَأْنِيثُهُ حَمْلًا عَلى المَعْنى، ومَدْلُولُهُ المُخالَفَةُ بِوَجْهٍ ما، وأصْلُهُ الوَصْفُ، ويُسْتَثْنى بِهِ ويَلْزَمُ الإضافَةَ لَفْظًا أوْ مَعْنًى، وإدْخالُ ألْ عَلَيْهِ خَطَأٌ ولا يَتَعَرَّفُ، وإنْ أُضِيفَ إلى مَعْرِفَةٍ. ومَذْهَبُ ابْنِ السَّرّاجِ أنَّهُ إذا كانَ المُغايِرُ واحِدًا تَعَرَّفَ بِإضافَتِهِ إلَيْهِ، وتَقَدَّمَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أنَّ كُلَّ ما إضافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ قَدْ يُقْصَدُ بِها التَّعْرِيفُ، فَتَصِيرُ مَحْضَةً، فَتَتَعَرَّفُ إذْ ذاكَ غَيْرُ بِما تُضافُ إلَيْهِ إذا كانَ مَعْرِفَةً، وتَقْرِيرُ هَذا كُلِّهِ في كُتُبِ النَّحْوِ. وزَعَمَ البَيانِيُّونَ أنَّ غَيْرًا أوْ مِثْلًا في بابِ الإسْنادِ إلَيْهِما مِمّا يَكادُ يَلْزَمُ تَقْدِيمُهُ، قالُوا نَحْوَ قَوْلِكَ غَيْرُكَ يُخْشى ظُلْمَهُ، ومِثْلُكَ يَكُونُ لِلْمَكْرُماتِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا لا يُقْصَدُ فِيهِ بِمِثْلٍ إلى إنْسانٍ سِوى الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ، ولَكِنَّهم يَعْنُونَ أنَّ كُلَّ مَن كانَ مِثْلَهُ في الصِّفَةِ كانَ مِن مُقْتَضى القِياسِ، ومُوجَبِ العُرْفِ أنْ يَفْعَلَ ما ذُكِرَ، وقَوْلُهُ:
؎غَيْرِي بِأكْثَرِ هَذا النّاسُ يَنْخَدِعُ
غَرَضُهُ أنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَنْخَدِعُ ويَغْتَرُّ، وهَذا المَعْنى لا يَسْتَقِيمُ فِيهِما إذا لَمْ يُقَدَّما نَحْوَ: يَكُونُ لِلْمَكْرُماتِ مِثْلُكَ، ويَنْخَدِعُ بِأكْثَرِ هَذا النّاسُ غَيْرِي، فَأنْتَ تَرى الكَلامَ مَقْلُوبًا عَلى جِهَتِهِ.
﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ الغَضَبُ: تَغَيُّرُ الطَّبْعِ لِمَكْرُوهٍ، وقَدْ يُطْلَقُ عَلى الإعْراضِ لِأنَّهُ مِن ثَمَرَتِهِ. لا حَرْفٌ يَكُونُ لِلنَّفْيِ ولِلطَّلَبِ وزائِدًا، ولا يَكُونُ اسْمًا خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ.
﴿ولا الضّالِّينَ﴾ والضَّلالُ: الهَلاكُ والخَفاءُ، ضَلَّ اللَّبَنُ في الماءِ، وقِيلَ: أصْلُهُ الغَيْبُوبَةُ، ﴿فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي﴾ [طه: ٥٢]، وضَلَلْتُ الشَّيْءَ جَهِلْتُ المَكانَ الَّذِي وضَعْتُهُ فِيهِ، وأضْلَلْتُ الشَّيْءَ ضَيَّعْتُهُ، وأضَلَّ أعْمالَهم، وضَلَّ غَفَلَ ونَسِيَ، وأنا مِنَ الضّالِّينَ، ﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما﴾ [البقرة: ٢٨٢]، والضَّلالُ سُلُوكُ غَيْرَ القَصْدِ، ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ سَلَكَ غَيْرَ جادَّتِها، والضَّلالُ الحَيْرَةُ (p-٢٩)والتَّرَدُّدُ، ومِنهُ قِيلَ لِحَجَرٍ أمْلَسٍ يُرَدِّدُهُ الماءُ في الوادِي ضَلْضَلَهُ، وقَدْ فُسِّرَ الضَّلالُ في القُرْآنِ بِعَدَمِ العِلْمِ بِتَفْصِيلِ الأُمُورِ وبِالمَحَبَّةِ، وسَيَأْتِي ذَلِكَ في مَواضِعِهِ، والجَرُّ في (غَيْرِ) قِراءَةُ الجُمْهُورِ. ورَوى الخَلِيلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ النَّصْبَ، وهي قِراءَةُ عُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ وعَلِيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. فالجَرُّ عَلى البَدَلِ مِنَ الَّذِينَ، عَنْ أبِي عَلِيٍّ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في عَلَيْهِمْ، وكِلاهُما ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ غَيْرًا أصْلُ وضْعِهِ الوَصْفُ، والبَدَلُ بِالوَصْفِ ضَعِيفٌ، أوْ عَلى النَّعْتِ عَنْ سِيبَوَيْهِ، ويَكُونُ إذْ ذاكَ غَيْرُ تَعَرَّفَتْ بِما أُضِيفَتْ إلَيْهِ، إذْ هو مَعْرِفَةٌ عَلى ما نَقَلَهُ سِيبَوَيْهِ، في أنَّ كُلَّ ما إضافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ قَدْ تَتَمَحَّضُ فَيَتَعَرَّفُ إلّا في الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ، أوْ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ السَّرّاجِ، إذْ وقَعَتْ غَيْرُ عَلى مَخْصُوصٍ لا شائِعٍ، أوْ عَلى أنَّ الَّذِينَ أُرِيدَ بِهِمُ الجِنْسُ لا قَوْمَ بِأعْيانِهِمْ. قالُوا: كَما وصَفُوا المُعَرَّفَ بَألِ الجِنْسِيَّةِ بِالجُمْلَةِ، وهَذا هَدْمٌ لِما اعْتَزَمُوا عَلَيْهِ مِن أنَّ المَعْرِفَةَ لا تُنْعَتُ إلّا بِالمَعْرِفَةِ، ولا أخْتارَ هَذا المَذْهَبَ وتَقْرِيرُ فَسادِهِ في النَّحْوِ والنَّصْبِ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في عَلَيْهِمْ، وهو الوَجْهُ أوْ مِنَ الَّذِينَ قالَهُ المَهْدَوِيُّ وغَيْرُهُ، وهو خَطَأٌ؛ لِأنَّ الحالَ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ الَّذِي لا مَوْضِعَ لَهُ لا يَجُوزُ، أوْ عَلى الِاسْتِثْناءِ، قالَهُ الأخْفَشُ والزَّجّاجُ وغَيْرُهُما، وهو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ إذْ لَمْ يَتَناوَلْهُ اللَّفْظُ السّابِقُ، ومَنَعَهُ الفَرّاءُ مِن أجْلِ لا في قَوْلِهِ ﴿ولا الضّالِّينَ﴾، ولَمْ يُسَوِّغْ في النَّصْبِ غَيْرَ الحالِ، قالَ: لِأنَّ لا لا تُزادُ إلّا إذا تَقَدَّمَ النَّفْيُ، نَحْوَ قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎ما كانَ يَرْضى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ ∗∗∗ والطَّيِّبانِ أبُو بَكْرٍ ولا عُمَرُ.
ومَن ذَهَبَ إلى الِاسْتِثْناءِ جَعْلَ لا صِلَةً، أيْ زائِدَةً مِثْلَها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]، وقَوْلِ الرّاجِزِ:
؎فَما ألُومُ البِيضَ أنْ لا تَسْخَرا
وقَوْلِ الأحْوَصِ:
؎ويَلْحِينَنِي في اللَّهْوِ أنْ لا أُحِبَّهُ ∗∗∗ ولِلَّهْوُ داعٍ دائِبٌ غَيْرُ غافِلٍ.
قالَ الطَّبَرِيُّ: أيْ أنْ تَسْخَرَ وأنْ أُحِبَّهُ، وقالَ غَيْرُهُ: مَعْناهُ إرادَةُ أنْ لا أُحِبَّهُ، فَلا فِيهِ مُتَمَكِّنَةٌ، يَعْنِي في كَوْنِها نافِيَةً لا زائِدَةً، واسْتَدَلُّوا أيْضًا عَلى زِيادَتِها بِبَيْتٍ أنْشَدَهُ المُفَسِّرُونَ، وهو:
؎أبى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ ∗∗∗ نَعَمْ مِن فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ قاتِلَهْ.
وزَعَمُوا أنَّ ”لا“ زائِدَةٌ، والبُخْلَ مَفْعُولٌ بِأبى، أيْ أبى جُودُهُ البُخْلَ، ولا دَلِيلَ في ذَلِكَ، بَلِ الأظْهَرُ أنَّ لا مَفْعُولٌ بِأبى، وأنَّ لَفْظَةَ ”لا“ لا تَتَعَلَّقُ بِها، وصارَ إسْنادًا لَفْظِيًّا، ولِذَلِكَ قالَ: واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ، فَجَعَلَ نَعَمْ فاعِلَةً بِقَوْلِهِ اسْتَعْجَلَتْ، وهو إسْنادٌ لَفْظِيٌّ، والبُخْلُ بَدَلٌ مِن لا أوْ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، وقِيلَ: انْتَصَبَ غَيْرُ بِإضْمارِ أعْنِي وعَزى إلى الخَلِيلِ، وهَذا تَقْدِيرٌ سَهْلٌ، وعَلَيْهِمْ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالمَغْضُوبِ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وفي إقامَةِ الجارِّ والمَجْرُورِ مَقامَ الفاعِلِ، إذا حُذِفَ خِلافٌ ذُكِرَ في النَّحْوِ. ومِن دَقائِقِ مَسائِلِهِ مَسْألَةٌ يُغْنِي فِيها عَنْ خَبَرِ المُبْتَدَأِ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ، و”لا“ في قَوْلِهِ: ﴿ولا الضّالِّينَ﴾ لِتَأْكِيدِ مَعْنى النَّفْيِ، لِأنَّ غَيْرَ فِيهِ النَّفْيَ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ، وعَيَّنَ دُخُولَها العَطْفُ عَلى قَوْلِهِ ﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ لِمُناسَبَةِ غَيْرَ، ولِئَلّا يُتَوَهَّمَ بِتَرْكِها عَطْفُ الضّالِّينَ عَلى الَّذِينَ. وقَرَأ عُمَرُ وأُبَيٌّ: وغَيْرِ الضّالِّينَ، ورُوِيَ عَنْهُما في الرّاءِ في الحَرْفَيْنِ النَّصْبُ والخَفْضُ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ المَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هم غَيْرُ الضّالِّينَ، والتَّأْكِيدُ فِيها أبْعَدُ، والتَّأْكِيدُ في لا أقْرَبُ، ولِتَقارُبِ مَعْنى غَيْرِ مِن مَعْنى لا، أتى الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَسْألَةٍ لِيُبَيِّنَ بِها تَقارُبَهُما فَقالَ: وتَقُولُ أنا زَيْدًا غَيْرُ ضارِبٍ، مَعَ امْتِناعِ قَوْلِكَ أنا زَيْدًا مِثْلُ ضارِبٍ؛ لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ أنا زَيْدًا لا ضارِبٌ، يُرِيدُ أنَّ العامِلَ إذا كانَ مَجْرُورًا بِالإضافَةِ فَمَعْمُولُهُ لا يَجُوزُ أنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ ولا عَلى المُضافِ، لَكِنَّهم تَسَمَّحُوا في العامِلِ المُضافِ إلَيْهِ غَيْرُ، فَأجازُوا تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلى غَيْرِ إجْراءً لِغَيْرِ مَجْرى لا، فَكَما أنَّ لا يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ (p-٣٠)ما بَعْدَها عَلَيْها، فَكَذَلِكَ غَيْرُ. وأوْرَدَها الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى أنَّها مَسْألَةٌ مُقَرَّرَةٌ مَفْرُوغٌ مِنها؛ لِيُقَوِّيَ بِها التَّناسُبَ بَيْنَ غَيْرِ ولا، إذْ لَمْ يَذْكُرْ فِيها خِلافًا. وهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، بَناهُ عَلى جَوازِ أنا زَيْدًا لا ضارِبٌ، وفي تَقْدِيمِ مَعْمُولِ ما بَعْدَ لا عَلَيْها ثَلاثَةُ مَذاهِبَ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ، وكَوْنُ اللَّفْظِ يُقارِبُ اللَّفْظَ في المَعْنى لا يَقْضِي لَهُ بِأنْ يُجْرى أحْكامُهُ عَلَيْهِ، ولا يَثْبُتُ تَرْكِيبٌ إلّا بِسَماعٍ مِنَ العَرَبِ، ولَمْ يُسْمَعْ أنا زَيْدًا غَيْرُ ضارِبٍ. وقَدْ ذَكَرَ أصْحابُنا قَوْلَ مَن ذَهَبَ إلى جَوازِ ذَلِكَ ورَدُّوهُ، وقَدَّرَ بَعْضُهم في ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ﴾ مَحْذُوفًا، قالَ: التَّقْدِيرُ غَيْرَ صِراطِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وأطْلَقَ هَذا التَّقْدِيرَ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِجَرِّ غَيْرَ ولا نَصْبِهِ، وهَذا لا يَتَأتّى إلّا بِنَصْبِ غَيْرَ، فَيَكُونُ صِفَةً لِقَوْلِهِ (الصِّراطَ)، وهو ضَعِيفٌ لِتَقَدُّمِ البَدَلِ عَلى الوَصْفِ، والأصْلُ العَكْسُ، أوْ صِفَةٌ لِلْبَدَلِ، وهو ﴿صِراطَ الَّذِينَ﴾، أوْ بَدَلًا مِنَ الصِّراطِ، أوْ مِن ﴿صِراطَ الَّذِينَ﴾، وفِيهِ تَكْرارُ الإبْدالِ، وهي مَسْألَةٌ لَمْ أقِفْ عَلى كَلامِ أحَدٍ فِيها، إلّا أنَّهم ذَكَرُوا ذَلِكَ في بَدَلِ النِّداءِ، أوْ حالًا مِنَ الصِّراطِ الأوَّلِ أوِ الثّانِي. وقَرَأ أيُّوبُ السِّخْتِيانِيُّ: ولا الضَّأْلِينَ، بِإبْدالِ الألِفِ هَمْزَةً فِرارًا مِنِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وحَكى أبُو زَيْدٍ دَأْبَةٌ وشَأْبَةٌ في كِتابِ الهَمْزِ، وجاءَتْ مِنهُ أُلَيْفاظٌ، ومَعَ ذَلِكَ فَلا يَنْقاسُ هَذا الإبْدالُ لِأنَّهُ لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً تُوجِبُ القِياسَ، نَصَّ عَلى أنَّهُ لا يَنْقاسُ النَّحْوِيُّونَ، قالَ أبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقْرَأُ ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩]، فَظَنَنْتُهُ قَدْ لَحَنَ حَتّى سَمِعْتُ مِنَ العَرَبِ دَأْبَةً وشَأْبَةً. قالَ أبُو الفَتْحِ: وعَلى هَذِهِ اللُّغَةِ قَوْلُ كُثَيِّرٍ:
؎إذا ما العَوالِي بِالعَبِيطِ احْمَأرَّتِ
وقَوْلُ الآخَرِ:
؎ولِلْأرْضِ إمّا سُودُها فَتَجَلَّتِ ∗∗∗ بَياضًا وإما بِيضُها فادَّهْأمَّتِ.
وعَلى ما قالَ أبُو الفَتْحِ إنَّها لُغَةٌ يَنْبَغِي أنْ يَنْقاسَ ذَلِكَ، وجُعِلَ الإنْعامُ في صِلَةِ الَّذِينَ، والغَضَبُ في صِلَةِ ألْ؛ لِأنَّ صِلَةَ الَّذِينَ تَكُونُ فِعْلًا فَيَتَعَيَّنُ زَمانُهُ، وصِلَةُ ألْ تَكُونُ اسْمًا فَيَنْبَهِمُ زَمانُهُ، والمَقْصُودُ طَلَبُ الهِدايَةِ إلى صِراطِ مَن ثَبَتَ إنْعامُ اللَّهِ عَلَيْهِ وتَحَقَّقَ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ أتى بِالفِعْلِ ماضِيًا وأتى بِالِاسْمِ في صِلَةِ أنَّ لِيَشْمَلَ سائِرَ الأزْمانِ، وبِناهِ لِلْمَفْعُولِ لِأنَّ مَن طُلِبَ مِنهُ الهِدايَةُ ونُسِبَ الإنْعامُ إلَيْهِ لا يُناسِبُ نِسْبَةَ الغَضَبِ إلَيْهِ، لِأنَّهُ مَقامُ تَلَطُّفٍ وتَرَفُقٍ وتَذَلُّلٍ لِطَلَبِ الإحْسانِ، فَلا يُناسِبُ مُواجَهَتَهُ بِوَصْفِ الِانْتِقامِ، ولِيَكُونَ المَغْضُوبُ تَوْطِئَةً لِخَتْمِ السُّورَةِ بِالضّالِّينَ لِعَطْفِ مَوْصُولٍ عَلى مَوْصُولٍ مِثْلَهُ لِتَوافُقِ آخِرِ الآيِ. والمُرادُ بِالإنْعامِ الإنْعامُ الدِّينِيُّ، والمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ والضّالِّينَ عامٌّ في كُلِّ مَن غُضِبَ عَلَيْهِ وضَلَّ. وقِيلَ: المَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ اليَهُودُ، والضّالُّونَ النَّصارى، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ. ورُوِيَ هَذا عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإذا صَحَّ هَذا وجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ، وقِيلَ: اليَهُودُ والمُشْرِكُونَ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وقَدْ رُوِيَ في كُتُبِ التَّفْسِيرِ في الغَضَبِ والضَّلالِ قُيُودٌ مِنَ المُتَصَوِّفَةِ لا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْها، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، بِتَرْكِ حُسْنِ الأدَبِ في أوْقاتِ القِيامِ بِخِدْمَتِهِ، ﴿ولا الضّالِّينَ﴾، بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ، وقِيلَ غَيْرُ هَذا. والغَضَبُ مِنَ اللَّهِ - تَعالى - إرادَةُ الِانْتِقامِ مِنَ العاصِي لِأنَّهُ عالِمٌ بِالعَبْدِ قَبْلَ خَلْقِهِ وقَبْلَ صُدُورِ المَعْصِيَةِ مِنهُ، فَيَكُونُ مِن صِفاتِ الذّاتِ، أوْ إحْلالُ العُقُوبَةِ بِهِ فَيَكُونُ مِن صِفاتِ الأفْعالِ، وقَدَّمَ الغَضَبَ عَلى الضَّلالِ وإنْ كانَ الغَضَبُ مِن نَتِيجَةِ الضَّلالِ ضَلَّ عَنِ الحَقِّ فَغَضِبَ عَلَيْهِ لِمُجاوَرَةِ الإنْعامِ، ومُناسَبَةُ ذِكْرِهِ قَرِينَةٌ، لِأنَّ الإنْعامَ يُقابَلُ بِالِانْتِقامِ، ولا يُقابِلُ الضَّلالُ الإنْعامَ، فالإنْعامُ إيصالُ الخَيْرِ إلى المُنْعَمِ عَلَيْهِ، والِانْتِقامُ إيصالُ الشَّرِّ إلى المَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَبَيْنَهُما تَطابُقٌ مَعْنَوِيٌّ، وفِيهِ أيْضًا تَناسُبُ التَّسْجِيعِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ولا الضّالِّينَ تَمامُ السُّورَةِ، فَناسَبَ أواخِرَ الآيِ، ولَوْ تَأخَّرَ الغَضَبُ ومُتَعَلِّقُهُ لَما ناسَبَ أواخِرَ الآيِ. وكانَ العَطْفُ بِالواوِ الجامِعَةِ الَّتِي لا دَلالَةَ فِيها عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ لِحُصُولِ هَذا (p-٣١)المَعْنى مِن مُغايَرَةِ جَمْعِ الوَصْفَيْنِ الغَضَبِ عَلَيْهِ والضَّلالِ لِمَن أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وإنْ فُسِّرَ اليَهُودَ والنَّصارى، فالتَّقْدِيمُ إمّا لِلزَّمانِ أوْ لِشِدَّةِ العَداوَةِ؛ لِأنَّ اليَهُودَ أقْدَمُ وأشَدُّ عَداوَةً مِنَ النَّصارى.
* * *
(وقَدِ انْجَرَّ) في غُضُونِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ مِن عِلْمِ البَيانِ فَوائِدُ كَثِيرَةٌ لا يَهْتَدِي إلى اسْتِخْراجِها إلّا مَن كانَ تَوَغَّلَ في فَهْمِ لِسانِ العَرَبِ، ورُزِقَ الحَظَّ الوافِرَ مِن عِلْمِ الأدَبِ، وكانَ عالِمًا بِافْتِنانِ الكَلامِ، قادِرًا عَلى إنْشاءِ النِّثارِ البَدِيعِ والنِّظامِ. وأمّا مَن لا اطِّلاعَ لَهُ عَلى كَلامِ العَرَبِ، وجَسا طَبْعُهُ حَتّى عَنِ الفِقْرَةِ الواحِدَةِ مِنَ الأدَبِ، فَسَمْعُهُ عَنْ هَذا الفَنِّ مَسْدُودٌ، وذِهْنُهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذا المَقْصُودِ. قالُوا: وفي هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ مِن أنْواعِ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ أنْواعٌ: (النَّوْعُ الأوَّلُ): حُسْنُ الِافْتِتاحِ وبَراعَةُ المَطْلَعِ، فَإنْ كانَ أوَّلُها ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١]، عَلى قَوْلِ مَن عَدَّها مِنها، فَناهِيكَ بِذَلِكَ حُسْنًا إذْ كانَ مَطْلَعُها مُفْتَتَحًا بِاسْمِ اللَّهِ، وإنْ كانَ أوَّلُها ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢]، فَحَمْدُ اللَّهِ والثَّناءُ عَلَيْهِ بِما هو أهْلُهُ، ووَصْفُهُ بِما لَهُ مِنَ الصِّفاتِ العَلِيَّةِ أحْسُنُ ما افْتُتِحَ بِهِ الكَلامُ، وقُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ النَّثْرَ والنِّظامَ، وقَدْ تَكَرَّرَ الِافْتِتاحُ بِالحَمْدِ في كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ، والمَطالِعُ تَنْقَسِمُ إلى حَسَنٍ وقَبِيحٍ، والحَسَنُ إلى ظاهِرٍ وخَفِيٍّ عَلى ما قُسِّمَ في عِلْمِ البَدِيعِ. (النَّوْعُ الثّانِي): المُبالَغَةُ في الثَّناءِ، وذَلِكَ لِعُمُومِ ألْ في الحَمْدِ عَلى التَّفْسِيرِ الَّذِي مَرَّ. (النَّوْعُ الثّالِثُ): تَلْوِينُ الخِطابِ عَلى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، فَإنَّهُ ذَكَرَ أنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ صِيغَتُهُ صِيغَةُ الخَبَرِ، ومَعْناهُ الأمْرُ، كَقَوْلِهِ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] ومَعْناهُ النَّهْيُ. (النَّوْعُ الرّابِعُ): الِاخْتِصاصُ بِاللّامِ الَّتِي في لِلَّهِ، إذْ دَلَّتْ عَلى أنَّ جَمِيعَ المَحامِدِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، إذْ هو مُسْتَحِقٌّ لَها، وبِالإضافَةِ في مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ لِزَوالِ الأمْلاكِ والمَمالِكِ عَنْ سِواهُ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وتَفَرُّدِهِ فِيهِ بِالمُلْكِ والمِلْكِ، قالَ تَعالى: ﴿لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ﴾ [غافر: ١٦]، ولِأنَّهُ لا مُجازِيَ في ذَلِكَ اليَوْمِ عَلى الأعْمالِ سِواهُ. (النَّوْعُ الخامِسُ): الحَذْفُ، وهو عَلى قِراءَةِ مَن نَصَبَ الحَمْدَ ظاهِرٌ، وتَقَدَّمَ، هَلْ يُقَدَّرُ مِن لَفْظِ الحَمْدِ أوْ مِن غَيْرِ لَفْظِهِ ؟ قالَ بَعْضُهم: ومِنهُ حَذْفُ العامِلِ الَّذِي هو في الحَقِيقَةِ خَبَرٌ عَنِ الحَمْدِ، وهو الَّذِي يُقَدَّرُ بِكائِنٍ أوْ مُسْتَقِرٍّ، قالَ: ومِنهُ حَذْفُ صِراطٍ مِن قَوْلِهِ ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ﴾، التَّقْدِيرُ غَيْرِ صِراطِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وغَيْرِ صِراطِ الضّالِّينَ، وحَذْفُ سُورَةٍ إنْ قَدَّرْنا العامِلَ في الحَمْدِ إذا نَصَبْناهُ، اذْكُرُوا أوِ اقْرَءُوا، فَتَقْدِيرُهُ اقْرَءُوا سُورَةَ الحَمْدِ، وأمّا مَن قَيَّدَ الرَّحْمَنَ والرَّحِيمَ ونَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ وأنْعَمْتُ والمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ والضّالِّينَ، فَيَكُونُ عِنْدَهُ في سُورَةِ مَحْذُوفاتٍ كَثِيرَةٍ. (النَّوْعُ السّادِسُ): التَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ، وهو في قَوْلِهِ نَعْبُدُ، ونَسْتَعِينُ، والمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، والضّالِّينَ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ. (النَّوْعُ السّابِعُ): التَّفْسِيرُ، ويُسَمّى التَّصْرِيحُ بَعْدَ الإبْهامِ، وذَلِكَ في بَدَلِ ﴿صِراطَ الَّذِينَ﴾ مِنَ ﴿الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ . (النَّوْعُ الثّامِنُ): الِالتِفاتُ، وهو في ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، ﴿اهْدِنا﴾ . (النَّوْعُ التّاسِعُ): طَلَبُ الشَّيْءِ، ولَيْسَ المُرادُ حُصُولَهُ بَلْ دَوامَهُ، وذَلِكَ في ﴿اهْدِنا﴾ . (النَّوْعُ العاشِرُ): سَرْدُ الصِّفاتِ لِبَيانِ خُصُوصِيَّةٍ في المَوْصُوفِ أوْ مَدْحٍ أوْ ذَمٍّ. (النَّوْعُ الحادِي عَشَرَ): التَّسْجِيعُ، وفي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّسْجِيعِ المُتَوازِي، وهو اتِّفاقُ الكَلِمَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ في الوَزْنِ والرَّوِيِّ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ٣]، ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، ﴿ولا الضّالِّينَ﴾ . انْقَضى كَلامُنا عَلى تَفْسِيرِ الفاتِحَةِ. وكَرِهَ الحَسَنُ أنْ يُقالَ لَها أُمُّ الكِتابِ، وكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أنْ يُقالَ لَها أُمُّ القُرْآنِ، وجَوَّزَهُ الجُمْهُورُ. والإجْماعُ عَلى أنَّها سَبْعُ آياتٍ إلّا ما شَذَّ فِيهِ مَن لا يَعْتَبِرُ خِلافَهُ. عَدَّ الجُمْهُورُ المَكِّيُّونَ والكُوفِيُّونَ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١] آيَةً، ولَمْ يَعُدُّوا ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وسائِرُ العادِّينَ ومِنهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ مِن قُرّاءِ مَكَّةَ والكُوفَةِ لَمْ يَعُدُّوها آيَةً، وعَدُّوا ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ آيَةً، وشَذَّ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَجَعَلَ آيَةً ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] فَهي عَلى عَدِّهِ ثَمانِ آياتٍ، وشَذَّ حُسَيْنٌ الجُعْفِيُّ فَزَعَمَ أنَّها سِتُّ آياتٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُ اللَّهِ - تَعالى -: ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾ [الحجر: ٨٧] هو الفَصْلُ في ذَلِكَ. ولَمْ (p-٣٢)يَخْتَلِفُوا في أنَّ البَسْمَلَةَ في أوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَيْسَتْ آيَةً، وشَذَّ ابْنُ المُبارَكِ فَقالَ: إنَّها آيَةٌ في كُلِّ سُورَةٍ. ولا أدْرِي ما المَلْحُوظُ في مِقْدارِ الآيَةِ حَتّى نَعْرِفَ الآيَةَ مِن غَيْرِ الآيَةِ ؟ وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ عَدَدَ حُرُوفِ الفاتِحَةِ وذَكَرُوا سَبَبَ نُزُولِها ما لا يُعَدُّ سَبَبَ نُزُولٍ، وذَكَرُوا أحادِيثَ في فَضْلِ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١]، اللَّهُ أعْلَمُ بِها. وذَكَرُوا لِلتَّسْمِيَةِ أيْضًا ما لا يُعَدُّ سَبَبًا، وذَكَرُوا أنَّ الفاتِحَةَ تُسَمّى الحَمْدَ، وفاتِحَةَ الكِتابِ، وأُمَّ الكِتابِ، والسَّبْعَ المَثانِي، والواقِيَةَ، والكافِيَةَ، والشِّفاءَ، والشّافِيَةَ، والرُّقْيَةَ، والكَنْزَ، والأساسَ، والنُّورَ، وسُورَةَ الصَّلاةِ، وسُورَةَ تَعْلِيمِ المَسْألَةِ، وسُورَةَ المُناجاةِ، وسُورَةَ التَّفْوِيضِ. وذَكَرُوا أنَّ ما ورَدَ مِنَ الأحادِيثِ في فَضْلِ الفاتِحَةِ، والكَلامِ عَلى هَذا كُلُّهُ مِن بابِ التَّذْيِيلاتِ، لا أنَّ ذَلِكَ مِن عِلْمِ التَّفْسِيرِ، إلّا ما كانَ مِن تَعْيِينِ مُبْهَمٍ أوْ سَبَبِ نُزُولٍ أوْ نَسْخٍ بِما صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَلِكَ يَضْطَرُّ إلَيْهِ عِلْمُ التَّفْسِيرُ. وكَذَلِكَ تَكَلَّمُوا عَلى آمِينَ ولُغاتِها والِاخْتِلافِ في مَدْلُولِها وحُكْمِها في الصَّلاةِ ولَيْسَتْ مِنَ القُرْآنِ، فَلِذَلِكَ أضْرَبْنا عَلى الكَلامِ عَلَيْها صَفْحًا كَما تَرَكْنا الكَلامَ عَلى الِاسْتِعاذَةِ في أوَّلِ الكِتابِ، وقَدْ أطالَ المُفَسِّرُونَ كُتُبَهم بِأشْياءَ خارِجَةٍ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ حَذَفْناها مِن كِتابِنا هَذا إذْ كانَ مَقْصُودُنا ما أشَرْنا إلَيْهِ في الخُطْبَةِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
{"ayahs_start":6,"ayahs":["ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ","صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ غَیۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّینَ"],"ayah":"ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق