الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ تَفْصِيلٌ لِيُرَوْا، والذَّرَّةُ نَمْلَةٌ صَغِيرَةٌ حَمْراءُ رَقِيقَةٌ، ويُقالُ: إنَّها تَجْرِي إذا مَضى لَها حَوْلٌ وهي عَلَمٌ في القِلَّةِ. (p-212)قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎مِنَ القاصِراتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنها لَأثَّرا وقِيلَ: الذَّرُّ ما يُرى في شُعاعِ الشَّمْسِ مِنَ الهَباءِ. وأخْرَجَ هَنّادٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسِ أنَّهُ أدْخَلَ يَدَهُ في التُّرابِ ثُمَّ رَفَعَها ثُمَّ نَفَخَ فِيها وقالَ: كُلُّ واحِدَةٍ مِن هَؤُلاءِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ. وانْتِصابُ «خَيْرًا، وشَرًّا» عَلى التَّمْيِيزِ؛ لِأنَّ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مِقْدارٌ. وقِيلَ: عَلى البَدَلِيَّةَ مِن ( مِثْقالَ ) والظّاهِرُ أنَّ «مِن» في المَوْضِعَيْنِ عامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ والكافِرِ، وأنَّ المُرادَ مِن رُؤْيَةِ ما يُعادِلُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ مُشاهَدَةُ جَزائِهِ بِأنْ يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ. واسْتُشْكِلَ بِأنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إثابَةَ الكافِرِ بِحَسَناتِهِ وما يَفْعَلُهُ مِنَ الخَيْرِ مَعَ أنَّهم قالُوا: أعْمالُ الكَفَرَةِ مُحْبَطَةٌ، وادَّعى في شَرْحِ المَقاصِدِ الإجْماعَ عَلى ذَلِكَ، كَيْفَ وقَدْ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ وقالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أعْمالُهم كَرَمادٍ﴾ الآيَةَ... وكَوْنُ خَيْرِهِمُ الَّذِي يَرَوْنَهُ تَخْفِيفَ العَذابِ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ﴾ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ﴾ ويَقْتَضِي أيْضًا عِقابَ المُؤْمِنِ بِصَغائِرِهِ إذا اجْتَنَبَ الكَبائِرَ مَعَ أنَّهم قالُوا: إنَّها مُكَفِّرَةٌ حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ وقَوْلِ ابْنِ المُنَيِّرِ: إنَّ الِاجْتِنابَ لا يُوجِبُ التَّكْفِيرَ عِنْدَ الجَماعَةِ بَلِ التَّوْبَةَ أوْ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعالى لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ التَّوْبَةَ والِاجْتِنابَ سَواءٌ في حُكْمِ النَّصِّ، ومَشِيئَةُ اللَّهِ تَعالى هي السَّبَبُ الأصِيلُ فالتَزَمَ بَعْضُهم كَوْنَ المُرادِ بِمَن الأُولى السُّعَداءَ، وبِمَن الثّانِيَةِ الأشْقِياءَ؛ بِناءً عَلى أنَّ ﴿فَمَن يَعْمَلْ﴾ إلَخْ تَفْصِيلٌ لِ ﴿يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتًا﴾ وكانَ مُفَسَّرًا بِما حاصِلُهُ: ﴿فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾ فالمُناسِبُ أنْ يَرْجِعَ كُلُّ فِقْرَةٍ إلى فِرْقَةٍ لِتَطابُقِ المُفَصَّلِ المُجْمَلَ؛ ولِأنَّ الظّاهِرَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: «فَمَن يَعْمَلْ، ومَن يَعْمَلْ» بِتَكْرِيرِ أداةِ الشَّرْطِ يَقْتَضِي التَّغايُرَ بَيْنَ العامِلَيْنِ وقالَ آخَرُونَ بِالعُمُومِ إلّا أنَّ مِنهم مَن قالَ: في الكَلامِ قَيْدٌ مُقَدَّرٌ، تُرِكَ لِظُهُورِهِ والعِلْمِ بِهِ مِن آياتٍ أُخَرَ. فالتَّقْدِيرُ: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ إنْ لَمْ يُحْبَطْ. ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ إنْ لَمْ يُكَفَّرْ. ومِنهم مَن جَعَلَ الرُّؤْيَةَ أعَمَّ مِمّا تَكُونُ في الدُّنْيا وما تَكُونُ في الآخِرَةِ، فالكافِرُ يَرى جَزاءَ خَيْرِهِ في الدُّنْيا وجَزاءَ شَرِّهِ في الآخِرَةِ، والمُؤْمِنُ يَرى جَزاءَ شَرِّهِ في الدُّنْيا وجَزاءَ خَيْرِهِ في الآخِرَةِ؛ فَقَدْ رَوى البَغَوِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ أنَّهُ قالَ: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ وهو كافِرٌ فَإنَّهُ يَرى ثَوابَ ذَلِكَ في الدُّنْيا في نَفْسِهِ وأهْلِهِ ومالِهِ حَتّى يَبْلُغَ الآخِرَةَ ولَيْسَ عَلَيْهِ فِيها خَيْرٌ، ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مِن شَرٍّ وهو مُؤْمِنٌ كُوفِئَ ذَلِكَ في الدُّنْيا في نَفْسِهِ وأهْلِهِ ومالِهِ حَتّى يَبْلُغَ الآخِرَةَ ولَيْسَ عَلَيْهِ فِيها شَرٌّ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وجَماعَةٌ عَنْ أنَسٍ قالَ: «بَيْنَما أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ الآيَةَ. فَرَفَعَ أبُو بَكْرٍ يَدَهُ وقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي لَراءٍ ما عَمِلْتُ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ مِن شَرٍّ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يا أبا بَكْرٍ، أرَأيْتَ ما تَرى في الدُّنْيا مِمّا تَكْرَهُ فَبِمَثاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ، ويُدَّخَرُ لَكَ مَثاقِيلُ ذَرِّ الخَيْرِ حَتّى تُوَفّاهُ يَوْمَ القِيامَةِ»». وفِي رِوايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي أيُّوبَ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ لَهُ إذْ رَفَعَ يَدَهُ: ««مَن عَمِلَ مِنكم خَيْرًا فَجَزاؤُهُ في الآخِرَةِ، ومَن عَمِلَ مِنكم شَرًّا يَرَهُ في الدُّنْيا مُصِيباتٍ وأمْراضًا، ومَن يَكُنْ فِيهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ دَخَلَ الجَنَّةَ»». ومِنهم مَن قالَ: المُرادُ مِن رُؤْيَةِ ما يُعادِلُ ذَلِكَ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ مُشاهَدَةُ نَفْسِهِ عَنْ غَيْرِ أنْ يُعْتَبَرَ مَعَهُ الجَزاءُ ولا عَدَمُهُ بَلْ يُفَوَّضُ كُلٌّ مِنهُما إلى سائِرِ الدَّلائِلِ النّاطِقَةِ بِعَفْوِ صَغائِرِ المُؤْمِنِ المُجْتَذِبِ عَنِ الكَبائِرِ وإثْباتِهِ بِجَمِيعِ حَسَناتِهِ وبِحُبُوطِ حَسَناتِ الكافِرِ ومُعاقَبَتِهِ بِجَمِيعِ مَعاصِيهِ وبِهِ يُشْعِرُ ما أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن قَوْلِهِ في الآيَةِ: لَيْسَ مُؤْمِنٌ ولا كافِرٌ عَمِلَ خَيْرًا وشَرًّا في (p-213)الدُّنْيا إلّا أراهُ اللَّهُ تَعالى إيّاهُ؛ فَأمّا المُؤْمِنُ فَيَرى حَسَناتِهِ وسَيِّئاتِهِ فَيَغْفِرُ لَهُ مِن سَيِّئاتِهِ ويُثِيبُهُ بِحَسَناتِهِ، وأمّا الكافِرُ فَيُرِيهِ حَسَناتِهِ وسَيِّئاتِهِ، فَيَرُدُّ حَسَناتِهِ ويُعَذِّبُهُ بِسَيِّئاتِهِ. واخْتارَ هَذا الطِّيبِيُّ فَقالَ: إنَّهُ يُساعِدُهُ النَّظْمُ والمَعْنى والأُسْلُوبُ، أمّا النَّظْمُ فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ﴾ إلَخْ تَفْصِيلٌ لِما عُقِّبَ بِهِ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتًا لِيُرَوْا أعْمالَهُمْ﴾ فَيَجِبُ التَّوافُقُ، والأعْمالُ جَمْعٌ مُضافٌ يُفِيدُ الشُّمُولَ والِاسْتِغْراقَ، ويَصْدُرُ النّاسُ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أشْتاتًا﴾ فَيُفِيدُ أنَّهم عَلى طَرائِقَ شَتّى لِلنُّزُولِ في مَنازِلِهِمْ مِنَ الجَنَّةِ والنّارِ بِحَسْبِ أعْمالِهِمِ المُخْتَلِفَةِ، ومِن ثَمَّ كانَتِ الجَنَّةُ ذاتَ دَرَجاتٍ والنّارُ ذاتَ دَرَكاتٍ. وأمّا المَعْنى فَإنَّها ورَدَتْ لِبَيانِ الِاسْتِقْصاءِ في عَرْضِ الأعْمالِ والجَزاءِ عَلَيْها كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وإنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ أتَيْنا بِها وكَفى بِنا حاسِبِينَ﴾ وأمّا الأُسْلُوبُ فَإنَّها مِنَ الجَوامِعِ الحاوِيَةِ لِفَوائِدِ الدِّينِ أصْلًا وفَرْعًا. رُوِّينا عَنِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنِ الحُمُرِ أيْ عَنْ صَدَقَتِها قالَ: «لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيها شَيْءٌ إلّا هَذِهِ الآيَةُ الجامِعَةُ الفاذَّةُ»». أيِ المُتَفَرِّدَةُ في مَعْناها فَتَلاها عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ورَوى الإمامُ أحْمَدُ «عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعاوِيَةَ عَمِّ الفَرَزْدَقِ أنَّهُ أتى النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَرَأ عَلَيْهِ الآيَةَ فَقالَ: «حَسْبِي لا أُبالِي أنْ لا أسْمَعَ مِنَ القُرْآنِ غَيْرَها»». انْتَهى. وأقُولُ: الظّاهِرُ عُمُومُ مِن، وكَوْنُ المُرادِ رُؤْيَةَ الجَزاءِ كَما تَقَدَّمَ، وكَذا الظّاهِرُ كَوْنُ ذَلِكَ في الآخِرَةِ ولا إشْكالَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الفِقْرَةَ الأُولى وعْدٌ والثّانِيَةَ وعِيدٌ، ومَذْهَبُنا أنَّ الوَعْدَ لازِمُ الوُقُوعِ تَفَضُّلًا وكَرَمًا، والوَعِيدُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيُفَوَّضُ أمْرُ الشَّرِّ في الثّانِيَةِ عَلى الدَّلائِلِ وهي ناطِقَةٌ بِأنَّهُ إنْ كانَ كُفْرًا لا يُغْفَرُ وإنْ كانَ صَغِيرَةً مِن مُؤْمِنٍ مُجْتَنِبٍ الكَبائِرَ يُكَفَّرُ، وإنْ كانَ كَبِيرَةً مِن مُؤْمِنٍ أوْ صَغِيرَةً مِنهُ وهو غَيْرُ مُجْتَنِبٍ الكَبائِرَ فَتَحْتَ المَشِيئَةِ. وخَبَرا أنَسٍ وأبِي أيُّوبَ السّابِقانِ لا يَأْبَيانِ ذَلِكَ بَعْدَ التَّأمُّلِ ولا يَبْعُدُ فِيما أرى أنْ يَكُونَ ما عَدا الكُفْرَ مِنَ الكافِرِ كَذَلِكَ. وأمّا أمْرُ الخَيْرِ فَباقٍ عَلى ما يَقْتَضِيهِ الظّاهِرُ وهو بِالنِّسْبَةِ إلى المُؤْمِنِ ظاهِرٌ، وأمّا بِالنِّسْبَةِ إلى الكافِرِ فَتَخْفِيفُ العَذابِ لِلْأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ فَقَدْ ورَدَ أنَّ حاتِمًا يُخَفِّفُ اللَّهَ تَعالى عَنْهُ لِكَرَمِهِ، وأنَّ أبا لَهَبٍ كَذَلِكَ لِسُرُورِهِ بِوِلادَةِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وإعْتاقِهِ لِجارِيَتِهِ ثُوَيْبَةَ حِينَ بَشَّرَتْهُ بِذَلِكَ، والحَدِيثُ في تَخْفِيفِ عَذابِ أبِي طالِبٍ مَشْهُورٌ، وما يَدُلُّ عَلى عَدَمِ تَخْفِيفِ العَذابِ فالعَذابُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلى عَذابِ الكُفْرِ بِحَسَبِ مَراتِبِهِ فَهو الَّذِي لا يُخَفَّفُ، والعَذابُ الَّذِي دَلَّتِ الأخْبارُ عَلى تَخْفِيفِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، ومَعْنى إحْباطِ أعْمالِ الكُفّارِ أنَّها لا تُنَجَيِّهِمْ مِنَ العَذابِ المُخَلِّدِ كَأعْمالِ غَيْرِهِمْ وهو مَعْنى كَوْنِها سَرابًا وهَباءً. ودَعْوى الإجْماعِ عَلى إحْباطِها بِالكُلِّيَّةِ غَيْرُ تامَّةٍ كَيْفَ وهَمَ مُخاطَبُونَ بِالتَّكالِيفِ في المُعامَلاتِ والجِناياتِ اتِّفاقًا، والخِلافُ إنَّما هو في خِطابِهِمْ في غَيْرِها مِنَ الفُرُوعِ ولا شَكَّ أنَّهُ لا مَعْنى لِلْخِطابِ بِها إلّا عِقابُ تارِكِها وثَوابُ فاعِلِها. وأقَلُّهُ التَّخْفِيفُ وإلى هَذا ذَهَبَ العَلّامَةُ شِهابُ الدِّينِ الخَفاجِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ ثُمَّ قالَ: وما في التَّبْصِرَةِ وشَرْحِ المَشارِقِ وتَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ مِن أنَّ أعْمالَ الكَفَرَةِ الحَسَنَةَ الَّتِي لا يُشْتَرَطُ فِيها الإيمانُ كَإنْجاءِ الغَرِيقِ وإطْفاءِ الحَرِيقِ وإطْعامِ ابْنِ السَّبِيلِ يُجْزَوْنَ عَلَيْها في الدُّنْيا ولا تُدَّخَرُ لَهم في الآخِرَةِ كالمُؤْمِنِينَ بِالإجْماعِ لِلتَّصْرِيحِ بِهِ في الأحادِيثِ، فَإنْ عَمِلَ أحَدُهم في كُفْرِهِ حَسَناتٍ ثُمَّ أسْلَمَ اخْتُلِفَ فِيهِ: هَلْ يُثابُ عَلَيْها في الآخِرَةِ أمْ لا؟ بِناءً عَلى أنَّ اشْتِراطَ الإيمانِ في الِاعْتِدادِ بِالأعْمالِ وعَدَمِ إحْباطِها هَلْ هو بِمَعْنى وُجُودِ الإيمانِ عِنْدَ العَمَلِ أوْ وُجُودِهِ ولَوْ بَعْدُ؛ لِقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الحَدِيثِ: ««أسْلَمْتَ عَلى ما سَلَفَ لَكَ مِن خَيْرٍ»». غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ودَعْوى الإجْماعِ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأنَّ كَوْنَ وُقُوعِ جَزائِهِمْ في الدُّنْيا دُونَ الآخِرَةِ كالمُؤْمِنِينَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِهِمْ، وذَهَبَ آخَرُونَ إلى الجَزاءِ بِالتَّخْفِيفِ وقالَ الكِرْمانِيُّ: إنَّ التَّخْفِيفَ واقِعٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ بَلْ لِأمْرٍ آخَرَ كَشَفاعَةِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ورَجائِهِ، ومِنهُ ما يَكُونُ (p-214)لِأبِي لَهَبٍ كَما قالَ الزَّرْكَشِيُّ. انْتَهى. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ الشَّفاعَةَ مِن آثارِ عَمَلِ المَشْفُوعِ الخَيْرَ أيْضًا. فَتَأمَّلْ. وسَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ عَلى ما أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ لَمّا نَزَلَ: ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ﴾ كانَ المُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أنَّهم لا يُؤْجَرُونَ عَلى الشَّيْءِ القَلِيلِ إذا أعْطَوْهُ فَيَجِيءُ المِسْكِينُ إلى أبْوابِهِمْ فَيَسْتَقِلُّونَ أنْ يُعْطُوهُ التَّمْرَةَ والبُسْرَةَ فَيَرُدُّونَهُ ويَقُولُونَ: ما هَذا بِشَيْءٍ إنَّما نُؤْجَرُ عَلى ما نُعْطِي ونَحْنُ نُحِبُّهُ، وكانَ آخَرُونَ يَرَوْنَ أنَّهم لا يُلامُونَ عَلى الذَّنْبِ اليَسِيرِ الكِذْبَةِ والنَّظْرَةِ والغِيبَةِ وأشْباهِ ذَلِكَ ويَقُولُونَ: إنَّما وعَدَ اللَّهُ تَعالى النّارَ عَلى الكَبائِرِ فَنَزَلَتِ الآيَةُ تُرَغِّبُهم في القَلِيلِ مِنَ الخَيْرِ أنْ يَعْمَلُوهُ، وتُحَذِّرَهُمُ اليَسِيرَ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَعْمَلُوهُ. وفِيها مِن دَلالَةِ الخِطابِ ما لا يَخْفى وقَدْ كانَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بَعْدَها يَتَصَدَّقُونَ بِما قَلَّ وكَثُرَ. فَقَدْ رُوِيَ أنَّ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها بَعَثَ إلَيْها ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمِائَةِ ألْفٍ وثَمانِينَ ألْفَ دِرْهَمٍ في غِرارَتَيْنِ فَدَعَتْ بِطَبَقٍ وجَعَلَتْ تُقَسِّمُها بَيْنَ النّاسِ، فَلَمّا أمْسَتْ قالَتْ جارِيَتُها: هَلُمِّي وكانَتْ صائِمَةً، فَجاءَتْ بِخُبْزٍ وزَيْتٍ فَقالَتْ: ما أمْسَكْتِ لَنا دِرْهَمًا نَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا نُفْطِرُ عَلَيْهِ. فَقالَتْ: لَوْ ذَكَّرْتِنِي لَفَعَلْتُ. وجاءَ في عِدَّةِ رِواياتٍ أنَّها أعْطَتْ سائِلًا يَوْمًا حَبَّةً مِن عِنَبٍ، فَقِيلَ لَها في ذَلِكَ. فَقالَتْ: هَذِهِ أثْقَلُ مِن ذَرٍّ كَثِيرٍ ثُمَّ قَرَأتِ الآيَةَ. ورُوِيَ نَحْوُ هَذا عَنْ عُمَرَ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وسَعْدِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وكانَ غَرَضُهم تَعْلِيمَ النّاسِ أنَّهُ لا بَأْسَ بِالتَّصَدُّقِ بِالقَلِيلِ ولَهم بِذَلِكَ أُسْوَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ. فَقَدْ أخْرَجَ الزَّجّاجِيُّ في أمالِيهِ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ «أنْ سائِلًا أتى النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَأعْطاهُ تَمْرَةً، فَقالَ السّائِلُ: نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِياءِ تَصَدَّقَ بِتَمْرَةٍ. فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أما عَلِمْتَ فِيها مَثاقِيلَ ذَرٍّ كَثِيرَةً»». وجاءَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ««اتَّقَوُا النّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»». ثُمَّ قَرَأ الآيَةَ. وتَقْدِيمُ عَمَلِ الخَيْرِ لِأنَّهُ أشْرَفُ القِسْمَيْنِ والمَقْصُودُ بِالأصالَةِ لا يَخْفى حُسْنُ مَوْقِعِهِ ويُعْلَمُ مِنهُ أنَّ هَذا الإحْصاءَ لا يُنافِي كَرَمَهُ عَزَّ وجَلَّ المُطْلَقَ وما يُحْكى مِن أنَّ أعْرابِيًّا أخَّرَ «خَيْرًا يَرَهُ» فَقِيلَ لَهُ: قَدَّمْتَ وأخَّرْتَ فَقالَ: ؎خُذا بَطْنَ هَرْشى أوْ قَفاها فَإنَّهُ ∗∗∗ كِلا جانِبَيْ هَرْشى لَهُنَّ طَرِيقُ فَغَفَلَ عَنِ اللَّطائِفِ القُرْآنِيَّةِ أوْ لَعَلَّهُ أرادَ أنَّهُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالعَمَلِ لا بَأْسَ بِهِ قُدِّمَ أوْ أُخِّرَ لا أنَّ القِراءَةَ بِهِ جائِزَةٌ. وقَرَأ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلى جَدِّهِ عَلَيْهِ وعَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وأبُو حَيْوَةَ والكَلْبِيُّ وخُلَيْدُ بْنُ نَشِيطٍ وأبانُ عَنْ عاصِمٍ والكِسائِيُّ في رِوايَةِ حُمَيْدِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْهُ: «يُرَهُ» بِضَمِّ الياءِ في المَوْضِعَيْنِ. وقَرَأ هِشامٌ وأبُو بَكْرٍ: «يَرَهْ» بِسُكُونِ الهاءِ فِيها وأبُو عَمْرٍو بِضَمِّها مُشْبَعَةً، وباقِي السَّبْعَةِ بِالإشْباعِ في الأوَّلِ والسُّكُونِ في الثّانِي، والإسْكانُ في الوَصْلِ لُغَةٌ حَكاها الأخْفَشُ ولَمْ يَحْكِها سِيبَوَيْهِ وحَكاها الكِسائِيُّ أيْضًا عَنْ بَنِي كِلابٍ وبَنِي عَقِيلٍ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ: «يَراهُ» بِالألِفِ فِيهِما وذَلِكَ عَلى لُغَةِ مَن يَرى الجَزْمَ بِحَذْفِ الحَرَكَةِ المُقَدَّرَةِ عَلى حَرْفِ العِلَّةِ كَما حَكى الأخْفَشُ أوْ عَلى ما يُقالُ في غَيْرِ القُرْآنِ مِن تَوَهُّمِ أنَّ مَن مَوْصُولَةٌ لا شَرْطِيَّةٌ كَما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: «إنَّهُ مَن يَتَّقِي ويَصْبِرْ» في قِراءَةِ مَن أثْبَتَ ياءَ يَتَّقِ وجَزَمَ يَصْبِرْ. وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ الألِفُ لِلْإشْباعِ والوَجْهُ الأوَّلُ أوْلى. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب