الباحث القرآني

والباءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ؛ أيْ: تُحَدِّثُ بِسَبَبِ إيحاءِ رَبِّكَ لَها وأمْرِهِ سُبْحانَهُ إيّاها بِالتَّحْدِيثِ، واللّامُ بِمَعْنى إلى؛ أيْ: أوْحى إلَيْها لِأنَّ المَعْرُوفَ تَعَدِّي الوَحْيِ بِها كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ﴾ لَكِنْ قَدْ يَتَعَدّى بِاللّامِ كَما في قَوْلِ العَجّاجِ يَصِفُ الأرْضَ: ؎أوْحى لَها القَرارَ فاسْتَقَرَّتِ وشَدَّها بِالرّاسِياتِ الثُّبَّتِ ولَعَلَّ اخْتِيارَها لِمُراعاةِ الفَواصِلِ. وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ اللّامُ لِلتَّعْلِيلِ أوِ المَنفَعَةِ؛ لِأنَّ الأرْضَ بِتَحْدِيثِها بِعَمَلِ العُصاةِ يَحْصُلُ لَها تَشَفٍّ مِنهم بِفَضْحِها إيّاهم بِذِكْرِ قَبائِحِهِمْ والمُوحى إلَيْهِ هي أيْضًا، والوَحْيُ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ وحْيَ إلْهامٍ وأنْ يَكُونَ وحْيَ إرْسالٍ؛ بِأنْ يُرْسِلَ سُبْحانَهُ إلَيْها رَسُولًا مِنَ المَلائِكَةِ بِذَلِكَ. وقالَ الطَّبَرِيُّ وقَوْمٌ: التَّحْدِيثُ اسْتِعارَةٌ أوْ مَجازٌ مُرْسَلٌ لِمُطْلَقِ دَلالَةِ حالِها، والإيحاءُ إحْداثُ ما تَدُلُّ بِهِ فَيُحْدِثُ عَزَّ وجَلَّ فِيها مِنَ الأحْوالِ ما يَكُونُ بِهِ دَلالَةٌ تَقُومُ مَقامَ التَّحْدِيثِ بِاللِّسانِ حَتّى يَنْظُرَ مَن يَقُولُ: ما لَها إلى تِلْكَ الأحْوالِ فَيَعْلَمُ لِمَ زُلْزِلَتْ ولِمَ لَفَظَتِ الأمْواتَ، وإنَّ هَذا ما كانَتِ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ يُنْذِرُونَهُ ويُحَذِّرُونَ مِنهُ وما يَعْلَمُ هو أخْبارَها. وقِيلَ: الإيحاءُ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ التَّحْدِيثِ حَقِيقِيًّا أيْضًا مَجازٌ عَنْ إحْداثِ حالَةٍ يُنْطِقُها سُبْحانَهُ بِها كَإيجادِ الحَياةِ وقُوَّةِ التَّكَلُّمِ والإخْبارِ عَلى ما سَمِعْتَ آنِفًا. وقالَ يَحْيى بْنُ سَلّامٍ: تُحَدِّثَ بِما أخْرَجَتْ مِن أثْقالِها ويَشْهَدُ لَهُ ما في حَدِيثِ ابْنِ ماجَهْ في سُنَنِهِ: ««تَقُولُ الأرْضُ يَوْمَ القِيامَةِ: يا رَبِّ، هَذا ما اسْتَوْدَعْتَنِي»». وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تُحَدِّثُ بِقِيامِ السّاعَةِ إذا قالَ الإنْسانُ: ما لَها، فَتُخْبِرُ أنَّ أمْرَ الدُّنْيا قَدِ انْقَضى وأمْرَ الآخِرَةِ قَدْ أتى فَيَكُونُ ذَلِكَ جَوابًا لَهم عِنْدَ سُؤالِهِمْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: تُحَدِّثُ بِتَحْدِيثِ أنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها أخْبارَها عَلى أنَّ تَحْدِيثَها بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها تَحْدِيثٌ بِإخْبارِها كَما تَقُولُ: نَصَحْتَنِي كُلَّ نَصِيحَةٍ؛ بِأنْ نَصَحْتَنِي في الدِّينِ. فَأخْبارُها عَلَيْهِ هو أنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها والباءُ تَجْرِيدِيَّةٌ مِثْلُها في قَوْلِكَ: لَئِنْ لَقِيتَ فُلانًا لَتَلْقَيَنَّ بِهِ رَجُلًا مُتَناهِيًا في الخَيْرِ. وكانَ الظّاهِرُ: تُحَدِّثُ بِخَبَرِها بِالإفْرادِ وكَذا عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ الوَجْهَيْنِ، لَكِنْ جُمِعَ لِلْمُبالَغَةِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ المِثالُ ونَحْوُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَأنالَنِي كُلَّ المُنى بِزِيارَةٍ ∗∗∗ كانَتْ مُخالَسَةً كَخَطْفَةِ طائِرِ ؎فَلَوِ اسْتَطَعْتَ خَلَعْتَ عَلى الدُّجى ∗∗∗ لِتَطُولَ لَيْلَتُنا - سَوادَ النّاظِرِ ولا يَخْفى بُعْدُهُ. وبالَغَ أبُو حَيّانَ في الحَطِّ عَلَيْهِ، فَقالَ: هو عَفْشٌ يُنَزَّهُ القُرْآنُ عَنْهُ. وأرادَ بِالعَفْشِ - بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وفاءٍ وشِينٍ مُعْجَمَةٍ: ما يُدَنِّسُ المَنزِلَ مِنَ الكُناسَةِ، وهي كَلِمَةٌ تَسْتَعْمِلُها في ذَلِكَ عَوامُّ أهْلِ المَغْرِبِ ولَيْسَ كَما قالَ. وجُوِّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ ﴿بِأنَّ رَبَّكَ﴾ إلَخْ بَدَلًا مِن: ﴿أخْبارَها﴾ كَأنَّهُ قِيلَ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها؛ لِأنَّكَ تَقُولُ: حَدَّثْتُهُ كَذا، وحَدَّثْتُهُ بِكَذا فَيَصِحُّ إبْدالُ «بِأنَّ» إلَخْ مِن «أخْبارَها» وأنَّ أحَدَهُما مَجْرُورٌ والآخَرَ مَنصُوبٌ؛ لِأنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّهُ في بَعْضِ الِاسْتِعْمالاتِ ولَيْسَ ذَلِكَ في الِامْتِناعِ خِلافًا لِأبِي حَيّانِ كاسْتَغْفَرْتُ الذَّنْبَ العَظِيمِ؛ بِنَصْبِ الذَّنْبِ وجَرِّ العَظِيمِ، عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لَهُ بِاعْتِبارِ قَوْلِهِمُ: اسْتَغْفَرْتُ مِنَ الذَّنْبِ؛ لِأنَّ (p-211)البَدَلَ هو المَقْصُودُ فَهو في قُوَّةِ عامِلٍ آخَرَ بِخِلافِ النَّعْتِ. نَعَمْ هو أيْضًا خِلافُ الظّاهِرِ وبَعْدَ كُلِّ ذَلِكَ اللّائِقُ أنْ لا يُعْدَلَ عَنِ المَأْثُورِ لا سِيَّما إذا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَقِيَ هاهُنا بَحْثٌ، وهو أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في نَحْوِ: حُدِّثْتُ: هَلْ هو مُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ أوْ إلى أكْثَرَ؟ فَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ ونُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ إلى الثّانِي، وهو عِنْدُهم مُلْحَقٌ بِأفْعالِ القُلُوبِ فَيَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ كَحَدَّثْتُ زَيْدًا الخَبَرَ، أوْ ثَلاثَةٍ كَحَدَّثْتُهُ عَمْرًا قائِمًا. فَأخْبارُها عَلَيْهِ هو المَفْعُولُ الثّانِي والمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ كَما أشَرْنا إلَيْهِ ولَمْ يُذْكَرْ لِأنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِهِ غَرَضٌ؛ إذِ الغَرَضُ تَهْوِيلُ اليَوْمِ، وأنَّهُ مِمّا يَنْطِقُ فِيهِ الجَمادُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ المُحَدَّثِ كائِنًا مَن كانَ. وقالَ الشَّيْخُ ابْنُ الحاجِبِ: إنَّما هو مُتَعَدٍّ لِواحِدٍ وما جاءَ بَعْدَهُ لِتَعَيُّنِ المَفْعُولِ المُطْلَقِ فَعَمْرًا قائِمًا فِي: حَدَّثْتُ زَيْدًا عَمْرًا قائِمًا. مَنصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ المَصْدَرِ لا لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا ثانِيًا وثالِثًا، ولا يُقالُ: كَيْفَ يَصِحُّ أنْ يَقَعَ ما لَيْسَ بِفِعْلٍ في المَعْنى؛ أعْنِي: عَمْرًا قائِمًا مَصْدَرًا لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَصْدَرًا بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ عَمْرًا قائِمًا، ولَكِنْ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ حَدِيثًا مَخْصُوصًا، فالوَجْهُ الَّذِي صَحَّحَ الإخْبارَ بِهِ عَنِ الحَدِيثِ إذا قُلْتَ: حَدِيثُ زَيْدٍ: عَمْرٌو قائِمٌ. هو الَّذِي صَحَّحَ وُقُوعَهُ مَصْدَرًا. فَإخْبارُها عَلَيْهِ في مَوْقِعِ المَفْعُولِ، والمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ لِما تَقَدَّمَ، بَلْ قالَ بَعْضُهُمْ: إنَّكَ إذا قُلْتَ: حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا أوْ خَبَرًا فَلا نِزاعَ في أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، والظّاهِرُ أنَّ الإخْبارَ في زَعْمِهِ كَذَلِكَ، وتَعَقَّبَ ذَلِكَ في الكَشْفِ بِأنَّ ما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ فَإنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّحْدِيثِ والحَدِيثِ، والأوَّلُ هو المَفْعُولُ المُطْلَقُ كَيْفَ وهو يُجَرُّ بِالباءِ فَتَقُولُ: حَدَّثْتُهُ الخَبَرَ وبِالخَبَرِ. ومَعْلُومٌ أنَّ ما دَخَلَ عَلَيْهِ الباءُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، وقَدْ يُقالُ: كَوْنُ الشَّيْخِ لَمْ يُفَرِّقْ في حَيِّزِ المَنعِ وكَيْفَ يَخْفى مِثْلُ ذَلِكَ عَلى مِثْلِهِ لَكِنَّهُ قائِلٌ بِأنَّ أثَرَ المَصْدَرِ ومُتَعَلِّقِهِ قَدْ سَدَّ مَسَدَّهُ فِيما ذُكِرَ كَما سَدَّ مَسَدَّهُ آلَتُهُ في نَحْوِ: ضَرَبْتُهُ سَوْطًا، ولَعَلَّ ما قَرَّرَهُ في غَيْرِ ما دَخَلَتْهُ الباءُ. وقالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ حَدَّثَ وأخَواتِها مُتَعَدِّياتٌ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ حَقِيقَةً، وجَعْلُها مُتَعَدِّياتٍ إلى ثَلاثَةٍ أوْ إلى اثْنَيْنِ تَجَوُّزٌ أوْ تَضْمِينٌ لِمَعْنى الإعْلامِ واسْتَأْنَسَ لَهُ بِكَلامٍ نَقَلَهُ عَنِ المُفَصَّلِ وكَلامٍ نَقَلَهُ عَنْ صاحِبِ الإقْلِيدِ فَتَأمَّلْ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: «تُنَبِّئُ أخْبارَها» وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: «تُنْبِئُ». بِالتَّخْفِيفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب