الباحث القرآني

﴿سَلامٌ﴾ وهو مَصْدَرٌ بِمَعْنى السَّلامَةِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هِيَ﴾ مُبْتَدَأٌ؛ أيْ هي سَلامٌ مِن كُلِّ أمْرٍ مَخُوفٍ، وتَعَلُّقُهُ بِذَلِكَ عَلى التَّوَسُّعِ في الظَّرْفِ وإلّا فَمَعْمُولُ المَصْدَرِ لا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ في المَشْهُورِ. وقِيلَ: هو مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ مُقَدَّمٍ يُفَسِّرُهُ المَذْكُورُ، ومَن وقَفَ عَلى كَلامِ العَلّامَةِ التَّفْتازانِيِّ في أوائِلِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ في مِثْلِ ذَلِكَ اسْتَغْنى عَمّا ذُكِرَ. وقِيلَ: ﴿مِن كُلِّ أمْرٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِ ( تَنَزَّلُ ) لَكِنْ عَلى مَعْنى تَنَزَّلُ إلى الأرْضِ مُنْفَصِلَةً مِن كُلِّ أمْرٍ لَها في السَّماءِ وتارِكَةً لَهُ. وفِيهِ إشارَةٌ إلى مَزِيدِ الِاهْتِمامِ بِالتَّنَزُّلِ إلى الأرْضِ. وفِيهِ مِنَ البُعْدِ ما فِيهِ. وتَقْدِيمُ الخَبَرِ لِلْحُصْرِ كَما فِي: تَمِيمِيٌّ أنا. والإخْبارُ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ؛ أيْ: ما هي إلّا سالِمَةٌ جِدًّا حَتّى كَأنَّهُ عَيْنُ السَّلامَةِ. قالَ الضَّحّاكُ في مَعْنى ذَلِكَ: إنَّهُ تَعالى لا يُقَدِّرُ ولا يَقْضِي فِيها إلّا السَّلامَةَ، قِيلَ: أيْ لا يَنْفُذُ تَقْدِيرُهُ تَعالى ويَتَعَلَّقُ قَضاؤُهُ إلّا بِذَلِكَ. وحاصِلُهُ لا يُوجَدُ إلّا ذَلِكَ. وقالَ مُجاهِدٌ: إنَّها سالِمَةٌ مِنَ الشَّيْطانِ وأذاهُ. ورُوِيَ أنَّ الشَّيْطانَ لا يَخْرُجُ في لَيْلَةِ القَدْرِ حَتّى يُضِيءَ فَجْرُها ولا يَسْتَطِيعُ أنْ يُصِيبَ فِيها أحَدًا بِخَبَلٍ أوْ داءٍ أوْ ضَرْبٍ مِن ضُرُوبِ الفَسادِ ولا يَنْفُذُ فِيها سِحْرُ ساحِرٍ، ولَعَلَّ ما يَصْدُرُ مِنَ المَعاصِي عَلى هَذا مِنَ النَّفْسِ الأمّارَةِ بِالسُّوءِ لا بِواسِطَةِ الشَّيْطانِ. واسْتُشْكِلَ كَلامُ الضَّحّاكِ بِناءً عَلى ما قِيلَ فِيهِ بِأنَّهُ لا تَخْلُو لَيْلَةٌ مِنَ الشَّرِّ والأمْرِ المُخُوفِ ولا مُوجِدَ إلّا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، فَلَعَلَّهُ أرادَ ما تَقَدَّمَ نَقْلُهُ غَيْرَ بَعِيدٍ مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما يُقَدِّرُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ السَّلامَةَ والخَيْرَ؛ أيْ لا يُظْهِرُ سُبْحانَهُ لِلْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ إلّا تَقْدِيرَهُ عَزَّ وجَلَّ، وقِيلَ: ما هي إلّا سَلامَةٌ؛ عَلى نَحْوَ: ما رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلّا رَحْمَةٌ. والمُرادُ أنَّها سَبَبٌ تامٌّ لِلسَّلامَةِ والنَّجاةِ مِنَ المَهالِكِ يَوْمَ القِيامَةِ حَيْثُ إنَّ مَن قامَها إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ. وقِيلَ: السَّلامُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى التَّسْلِيمِ؛ أيْ: ما هي إلّا تَسْلِيمٌ لِكَثْرَةِ التَّسْلِيمِ والمُسَلِّمِينَ مِنَ المَلائِكَةِ عَلى المُؤْمِنِينَ فِيها. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ ومَنصُورٍ وجَعَلَها عَيْنَ التَّسْلِيمِ لِلْمُبالَغَةِ أيْضًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ غايَةٌ تُبَيِّنُ تَعْمِيمَ السَّلامَةِ أوِ التَّسْلِيمِ كُلَّ اللَّيْلَةِ فالجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِ «سَلامٌ، ومَطْلَعِ» اسْمِ زَمانٍ، وقَدْ صَرَّحُوا أنَّهُ مِن يَفْعَلُ، ويَفْعَلُ بِفَتْحِ العَيْنِ وضَمِّها عَلى مَفْعِلٍ، مَفْتُوحَ العَيْنِ، وجُوِّزَ كَوْنُهُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنى الطُّلُوعِ ويَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مُضافٍ قَبْلَهُ هو وقْتٌ أوْ ما في مَعْناهُ لِتَتَّحِدَ الغايَةُ والمُغَيّا فَيَكُونانِ مِن جِنْسٍ واحِدٍ. وصَحَّ تَعَلُّقُ الجارِّ بِذَلِكَ مَعَ الفَصْلِ لِأنَّهُ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ نَظَرًا لِلْحَقِيقَةِ. وأفادَ الطَّبَرْسِيُّ وغَيْرُهُ أنَّهُ لا بُدَّ مِن تَأْوِيلِهِ بِسالِمَةٍ أوْ مُسَلَّمَةٍ لِيَصِحَّ التَّعَلُّقُ أمّا لَوْ أُبْقِيَ عَلى مَصْدَرِيَّتِهِ فَلا يَصِحُّ لِلُزُومِ الفَصْلِ بَيْنَ الصِّلَةِ والمَوْصُولِ. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ الفَصْلَ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ بِالمُبْتَدَأِ مُغْتَفَرٌ، وجُوِّزَ أنْ تَتَعَلَّقَ الغايَةُ بِ «تَنَزَّلُ» عَلى مَعْنى أنَّهُ لا يَنْقَطِعُ تَنَزُّلُهم فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ إلى وقْتِ طُلُوعِ الفَجْرِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ تَعَسُّفٌ؛ لِأنَّ ( سَلامٌ ) هي أجْنَبِيٌّ ولَيْسَ بِاعْتِراضٍ فَلا يَحْسُنُ الفَصْلُ بِهِ وجَعْلُهُ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ في قَوْلِهِ تَعالى: ( فِيها ) أيْ: ذاتِ سَلامَةٍ أوْ سَلامٍ لا يَخْفى حالُهُ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الوَقْفُ عَلى ( سَلامٌ ) وهو خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ و﴿مِن كُلِّ أمْرٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ( وهي ) مُبْتَدَأٌ و﴿حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ خَبَرُهُ. ولَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ الطِّيبِيُّ والطَّبَرْسِيُّ وغَيْرُهُما قالُوا: لِعَدَمِ الفائِدَةِ بِالإخْبارِ عَنْها بِأنَّها حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ؛ إذْ كُلُّ لَيْلَةٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وأُجِيبَ بِأنَّهُ لَمّا أخْبَرَ عَنْها بِأنَّها خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ وفُهِمَ أنَّها مُخالِفَةٌ لِسائِرِ اللَّيالِي في الصِّفَةِ وكانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَوَهُّمِ أنَّ ذاتَها في المِقْدارِ مُغايِرَةٌ لِذَواتِ اللَّيالِي فِيهِ أيْضًا دُفِعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى هي حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ، أيْ: لَمْ تُخالِفْ سائِرَ اللَّيالِي في ذَلِكَ وإنْ خالَفَتْها في الفَضْلِ والخَيْرِيَّةِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ والكَلْبِيُّ: «مَن كُلِّ امْرِئٍ» بِهَمْزٍ في آخِرِهِ؛ أيْ: تَنَزَّلُ مِن أجْلِ كُلِّ إنْسانٍ؛ أيْ مِن أجْلِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ مِمّا قُدِّرَ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ، ويَرْجِعُ إلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ أوْ مِن أجْلِ مَصْلَحَتِهِ مِنَ الِاسْتِغْفارِ لَهُ ونَحْوِهِ عَلى أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ كُلُّ امْرِئٍ مُؤْمِنٍ عَلى ما قِيلَ. وقِيلَ: الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِ ( سَلامٌ ) والمُرادُ «بِكُلِّ امْرِئٍ» المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، أيْ: سَلامٌ وتَحِيَّةٌ هي عَلى المُؤْمِنِينَ مِن كُلِّ مَلَكٍ، وأنْكَرَ كَما قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو حاتِمٍ وقَرَأ أبُو رَجاءٍ والأعْمَشُ وابْنٌ وثّابٍ وطَلْحَةُ وابْنُ (p-198)مُحَيْصِنٍ والكِسائِيُّ وأبُو عَمْرٍو بِخِلافٍ عَنْهُ: «مَطْلِعِ» بِكَسْرِ اللّامِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ كالمَرْجِعِ، ويُقَدَّرُ مُضافٌ كَما سَمِعْتَ أوِ اسْمُ زَمانٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ كالمَشْرِقِ فَإنَّ مَفْعِلًا بِالكَسْرِ قِياسُ يَفْعِلُ مَكْسُورَ العَيْنِ. وفي البَحْرِ قِيلَ: «مَطْلَعِ ومَطْلِعِ» بِالفَتْحِ والكَسْرِ مَصْدَرانِ في لُغَةِ تَمِيمٍ. وقِيلَ: المَصْدَرُ بِالفَتْحِ ومَوْضِعُ الطُّلُوعِ بِالكَسْرِ عِنْدَ أهْلِ الحِجازِ انْتَهى. وإرادَةُ المَوْضِعِ هاهُنا لا مَوْضِعَ لَها كَما لا يَخْفى هَذا. واعْلَمْ أنَّهُ يُسَنُّ الدُّعاءُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ المُبارَكَةِ وهي أحَدُ أوْقاتِ الإجابَةِ. وأخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ وغَيْرُهم «عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها قالَتْ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ وافَقْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ فَما أقُولُ؟ قالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنِّي»». ويُجْتَهَدُ فِيها بِأنْواعِ العِباداتِ مِن صَلاةٍ وغَيْرِها. وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: الدُّعاءُ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ أحَبُّ مِنَ الصَّلاةِ، ثُمَّ أفادَ أنَّهُ إذا قَرَأ ودَعا كانَ حَسَنًا، وكانَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَجْتَهِدُ في لَيالِي شَهْرِ رَمَضانَ ويَقْرَأُ فِيها قِراءَةً مُرَتَّلَةً لا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلّا سَألَ ولا بِآيَةِ عَذابٍ إلّا تَعَوَّذَ. وذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ أنَّ الأكْمَلَ الجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاةِ والقِراءَةِ والدُّعاءِ والتَّفَكُّرِ، وقَدْ كانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ لا سِيَّما في العَشْرِ الأواخِرِ ويَحْصُلُ قِيامُها عَلى ما قالَ البَعْضُ بِصَلاةِ التَّراوِيحِ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««مَن صَلّى المَغْرِبَ والعِشاءَ في جَماعَةٍ حَتّى يَنْقَضِيَ شَهْرُ رَمَضانَ فَقَدْ أصابَ مِن لَيْلَةِ القَدْرِ بِحَظٍّ وافِرٍ»». وأخْرَجَ مالِكٌ وابْنُ شَيْبَةَ وابْنُ زَنْجُوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قالَ: ««مَن شَهِدَ العِشاءَ لَيْلَةَ القَدْرِ في جَماعَةٍ فَقَدْ أخَذَ بِحَظِّهِ مِنها»». وفِي تُحْفَةِ المُحْتاجِ لِابْنِ حَجَرٍ الهَيْتَمِيِّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: يُسَنُّ لِرائِيها كَتْمُها ولا يَنالُ فَضْلَها أيْ كَمالَهُ إلّا مَن أطْلَعَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْها انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّهُ عَنى بِرُؤْيَتِها رُؤْيَةَ ما يَحْصُلُ بِهِ العِلْمُ لَهُ بِها مِمّا خُصَّتْ بِهِ مِنَ الأنْوارِ وتَنَزُّلِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أوْ نَحَوًا مِنَ الكَشْفِ المُفِيدِ لِلْعِلْمِ مِمّا لا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ إلّا أهْلُهُ وهو كالنَّصِّ في أنَّها يَراها مَن شاءَ اللَّهُ تَعالى مِن عِبادِهِ. وقالَ أبُو حَفْصِ بْنُ شاهِينٍ عَلى ما حَكاهُ ابْنُ رَجَبٍ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَكْشِفْها لِأحَدٍ مِنَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ ولا النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ في يَوْمٍ ولا لَيْلَةٍ إلّا نَبِيَّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَإنَّهُ لَمّا أنْزَلَها عَلَيْهِ وعَرَّفَهُ قَدْرَها أراهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيّاها في مَنامِهِ وعَرَّفَهُ في أيِّ لَيْلَةٍ تَكُونُ، فَأصْبَحَ عالِمًا بِها، وأرادَ أنْ يُخْبِرَ بِها النّاسَ لِسُرُورِهِ فَتَلاحى بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلانِ فَأُنْسِيَها صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأُمِرَ بِطَلَبِها في لَيالِي العَشْرِ الأواخِرِ لِأنَّهم لا يَرَوْنَها مُكاشَفَةً أبَدًا ولا يَراها أحَدٌ بَعْدَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أصْلًا، فَأُمِرُوا بِذَلِكَ لِيُلْتَمَسَ فَضْلُها في اللَّيالِي المُسَمّاةِ انْتَهى. وحَدِيثُ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَآها ونَسِيَها قَدْ رَواهُ الإمامُ مالِكٌ والإمامُ أحْمَدُ والبُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهم وهو مِمّا لا تَرَدُّدَ في صِحَّتِهِ، لَكِنَّ في دَلالَتِهِ عَلى أنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِها ولَمْ يَرَها بَعْدُ ولا يَراها أحَدٌ مِن أُمَّتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أبَدًا تَرَدُّدًا، ولَعَلَّ الأمْرَ بِالتِماسِهِ في العَشْرِ الأواخِرِ مَثَلًا يُشِيرُ إلى رَجاءِ رُؤْيَتِها فِيها إذْ ما لا يُرْجى في زَمانٍ أوْ مَكانٍ لا يَحْسُنُ أنْ يُؤْمَرَ أحَدٌ بِالتِماسِها فِيهِ عادَةً، وفي بَعْضِ الأخْبارِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ رُؤْيَتَها مَنامًا وقَعَتْ لِغَيْرِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ فَفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما «أنَّ رِجالًا مِن أصْحابِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المَنامِ في السَّبْعِ الأواخِرِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «أرى رُؤْياكم قَدْ تَواطَأتْ في السَّبْعِ الأواخِرِ؛ فَمَن كانَ مُتَحَرِّيَها فَلْيَتَحَرَّها في السَّبْعِ الأواخِرِ»». وحُكِيَ نَحْوُ قَوْلِ ابْنِ شاهِينٍ عَنْ غَيْرِهِ أيْضًا وغَلِطَ. فَفي شَرْحِ الصَّحِيحِ لِلنَّوَوِيِّ: اعْلَمْ أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ مَوْجُودَةٌ وأنَّها تُرى ويَتَحَقَّقُها مَن شاءَ اللَّهُ تَعالى مِن بَنِي آدَمَ كُلَّ سَنَةٍ في رَمَضانَ كَما تَظاهَرَتْ عَلَيْهِ الأحادِيثُ وأخْبارُ الصّالِحِينَ بِها، ورُؤْيَتُهم لَها أكْثَرُ مِن أنْ تُحْصى. وأمّا قَوْلُ القاضِي عِياضٍ عَنِ المُهَلَّبِ بْنِ أبِي صُفْرَةَ: لا يُمْكِنُ رُؤْيَتُها حَقِيقَةً فَغَلَطٌ فاحِشٌ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلّا يُغْتَرَّ بِهِ. انْتَهى. (p-199)بَقِيَ في الكَلامِ عَلى هَذِهِ اللَّيْلَةِ بَحْثٌ مُهِمٌّ؛ وهو أنَّهُ عَلى قَوْلِ المُعْتَبِرِينَ لِاخْتِلافِ المَطالِعِ يَلْزَمُ القَوْلُ بِتَعَدُّدِها في رَمَضانَ وكَوْنُها وتْرًا مِن لَيالِيهِ عِنْدَ قَوْمٍ وشَفْعًا عِنْدَ آخَرِينَ فَلا يَصِحُّ إطْلاقُ القَوْلِ بِأحَدِهِما وكَذا لا يَصِحُّ إطْلاقُ القَوْلِ بِأنَّها لَيْلَةُ كَذا كَلَيْلَةِ السّابِعِ والعِشْرِينَ أوِ الحادِي والعِشْرِينَ مَثَلًا مِنَ الشَّهْرِ عَلى ذَلِكَ أيْضًا. بَلْ لا يَصِحُّ إطْلاقُ القَوْلِ بِأنَّ وقْتَ التَّقْدِيرِ وتَنَزُّلِ المَلائِكَةِ لَيْلَةٌ؛ فاللَّيْلَةُ عِنْدَ قَوْمٍ نَهارٌ في الجِهَةِ المُسامِتَةِ لِأقْدامِهِمْ وهي قَدْ تَكُونُ مَسْكُونَةً ولَوْ بِواسِطَةِ سَفِينَةٍ تَمُرُّ فِيها، ورُبَّما يَكُونُ زَمانُ اللَّيْلِ عِنْدَ قَوْمٍ بَعْضُهُ لَيْلًا وبَعْضُهُ نَهارًا عِنْدَ آخَرِينَ كَأهْلِ بَعْضِ العُرُوضِ البَعِيدَةِ عَنْ خَطِّ الِاسْتِواءِ، بَلْ قَدْ تَنْقَضِي أشْهَرٌ بِلَيْلٍ ونَهارٍ عَلى قَوْمٍ ولَمْ يَنْقَضِ يَوْمٌ واحِدٌ في بَعْضِ العُرُوضِ، بَلْ لا يَصِحُّ أيْضًا إطْلاقُ القَوْلِ بِأنَّها في رَمَضانَ وأنَّها اللَّيْلَةُ الأُولى أوِ الأخِيرَةُ مِنهُ إذِ الشَّهْرُ دُخُولًا وخُرُوجًا مُخْتَلِفٌ بِالنِّسْبَةِ إلى سُكّانِ البَسِيطَةِ، وأجابَ بَعْضٌ بِالتِزامِ أنَّ ما أُطْلِقَ مِنَ القَوْلِ فِيها لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ فَيَكُونُ القَوْلُ بِوَتَرِيَّتِها بِالنِّسْبَةِ إلى قَوْمٍ وبِشَفْعِيَّتِها بِالنِّسْبَةِ إلى آخَرِينَ، وهَكَذا القَوْلُ بِأنَّها لَيْلَةُ كَذا مِنَ الشَّهْرِ وبِالتِزامِ أنَّها لَيْلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى قَوْمٍ نَهارٌ بِالنِّسْبَةِ إلى آخَرِينَ، وإنَّ التَّعْبِيرَ بِاللَّيْلَةِ لِرِعايَةِ مَكانِ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ القُرْآنُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وغالَبَ المُؤْمِنِينَ بِهِ كَأنَّ ما هو سَمْتُ أقْدامِهِمْ مِمّا لَيْلُهم نَهارُهُ لَمْ يَعْمُرْ بِالمُسْلِمِينَ بَلْ لا يَكادُ يَعْمُرُ بِهِمْ حَتّى يَرِثَ اللَّهُ تَعالى الأرْضَ ومَن عَلَيْها. وقالَ: إنَّها حَيْثُ كانَتْ نَهارًا عِنْدَ قَوْمٍ لا يَبْعُدُ أنْ يُعْطِيَ اللَّهَ تَعالى أجْرَها مَنِ اجْتَهَدَ مِن غَيْرِهِمْ في لَيْلَةِ ذَلِكَ النَّهارِ، وأنَّ يُعْطِيَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ أيْضًا مَنِ اجْتَهَدَ مِنهم لَيْلًا وهي عِنْدُهم نَهارٌ وعَلى نَحْوِ هَذا يُقالُ في الصُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ في البَحْثِ. وادَّعى أنَّ هَذا نَوْعٌ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ الأحادِيثِ المُتَعارِضَةِ وأنَّ في قَوْلِهِمْ يُسَنُّ الِاجْتِهادُ في يَوْمِها رَمْزٌ إمّا لِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ وهو كَما تَرى. وأجابَ آخَرُ بِما يَسْتَحِي القَلَمُ مِن ذِكْرِهِ ويَرى تَرْكَهُ هو الحَرِيُّ بِقَدْرِهِ. وسَمِعْتُ مِن بَعْضِ أحْبابِي أنَّ الشَّيْخَ إسْماعِيلَ العَجْلُونِيَّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ تَعَرَّضَ فِيما شَرَحَ مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ لِشَيْءٍ مِن هَذا البَحْثِ والجَوابِ عَنْهُ ولَمْ أقِفْ عَلَيْهِ، وعِنْدِي أنَّ البَحْثَ قَوِيٌّ والأمْرَ مِمّا لا مَجالَ لِعَقْلِي فِيهِ، ومِثْلُ لَيْلِ القَدْرِ فِيما ذُكِرَ وقْتُ نُزُولِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى إلى السَّماءِ الدُّنْيا مِنَ اللَّيْلِ كَما صَحَّتْ بِهِ الأخْبارُ وكَذا ساعَةُ الإجابَةِ مِن يَوْمِ الجُمْعَةِ إلى أمْثالٍ أُخَرَ. ولِلشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى كَلامٌ طَوِيلٌ في الأوَّلِ لَمْ يَحْضُرْنِي مِنهُ الآنَ ما يَرْوِي الغَلِيلَ، ولِغَيْرِهِ كابْنِ حَجَرٍ كَلامٌ مُخْتَصَرٌ في الثّانِي وهو مَشْهُورٌ ورُبَّما يُقالُ إنَّها لِكُلِّ قَوْمٍ لَيْلَتُهم وإنِ اخْتَلَفَتْ دُخُولًا وخُرُوجًا بِالنِّسْبَةِ إلى آفاقِهِمْ كَسائِرِ لَيالِيهِمْ فَتَدْخُلُ اللَّيْلَةَ مُطْلَقًا في بَغْدادَ مَثَلًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِيها وبَعْدَ نِصْفِ ساعَةٍ مِنهُ تَدْخُلُ في إسْتامْبُولَ مَثَلًا؛ وذَلِكَ أوَّلُ وقْتِ الغُرُوبِ فِيها وهَكَذا، والخُرُوجُ عَلى عَكْسِ ذَلِكَ فَكَأنَّ اللَّيْلَةَ راكِبٌ يَسِيرُ إلى جِهَةٍ فَيَصِلُ إلى كُلِّ مَنزِلٍ في وقْتٍ ويَلْتَزِمُ أنْ تَنْزِلَ المَلائِكَةُ حَسَبَ سَيْرِها ولا يَبْعُدُ أنْ يَتَنَزَّلَ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ ما شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنهم عِنْدَ أوَّلِ دُخُولِها عِنْدَهم ويَعْرُجُونَ عِنْدَ مَطْلَعِ فَجْرِها عِنْدَهم أيْضًا أوْ يَبْقى المُتَنَزِّلُ مِنهم هُناكَ إلى أنْ تَنْقَضِيَ اللَّيْلَةُ في جَمِيعِ المَعْمُورَةِ فَيَعْرُجُونَ مَعًا عِنْدَ انْقِضائِها ويُلْتَزَمُ القَوْلُ بِتَعَدُّدِ التَّقْدِيرِ حَسَبَ السَّيْرِ أيْضًا بِأنْ يُقَدِّرَ اللَّهُ تَعالى في أيِّ جُزْءٍ شاءَ سُبْحانَهُ مِنها بِالنِّسْبَةِ إلى مَن هي عِنْدَهم أُمُورًا تَتَعَلَّقُ بِهِمْ، ومَناطُ الفَضْلِ لِكُلِّ قَوْمٍ تَحَقُّقُها بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ وقِيامُهم فِيها ومِثْلُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِيما ذُكِرَ سائِرُ أوْقاتِ العِبادَةِ كَوَقْتِ الظُّهْرِ والعَصْرِ وغَيْرِهِما وهَذا غايَةُ ما يَخْطُرُ بِالبالِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهَذا الإشْكالِ، وأمْرُ ما يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مِن أخْبارِ الآحادِ سَهْلٌ عَلى أنَّ الكَثِيرَ مِنها في صِحَّتِهِ مَقالٌ فَتَأمَّلْ في ذاكَ واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَتَوَلّى هُداكَ، ثُمَّ إنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ عِنْدَ السّادَةِ الصُّوفِيَّةِ لَيْلَةٌ يَخْتَصُّ فِيها السّالِكُ بِتَجَلٍّ خاصٍّ يَعْرِفُ بِهِ قَدْرَهُ ورُتْبَتَهُ بِالنِّسْبَةِ إلى مَحْبُوبِهِ وهي وقْتُ ابْتِداءِ وُصُولِ السّالِكِ إلى عَيْنِ الجَمْعِ ومَقامِ البالِغِينَ في المَعْرِفَةِ، وما ألْطَفَ قَوْلَ الشَّيْخِ عُمَرَ بْنِ الفارِضِ قُدِّسَ سِرُّهُ:(p-200) ؎وكُلُّ اللَّيالِي لَيْلَةُ القَدْرِ إنْ دَنَتْ كَما كَلُّ أيّامِ اللِّقا يَوْمُ جُمْعَةِ هَذا واللَّهُ تَعالى الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب