الباحث القرآني

سُورَةُ العَلَقِ وتُسَمّى سُورَةَ اقْرَأْ، لا خِلافَ في مَكِّيَّتِها وإنَّما الخِلافُ في عَدَدِ آيِها، فَفي الحِجازِيِّ عِشْرُونَ آيَةً، وفي العِراقِيِّ تِسْعَ عَشْرَةَ، وفي الشّامِيِّ ثَمانِي عَشْرَةَ، وفي أنَّها أوَّلُ نازِلٍ أوْ لا فَذَهَبَ كَثِيرٌ إلى أنَّها أوَّلُ نازِلٍ، فَقَدْ أخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ في الكَبِيرِ بِسَنَدِهِ عَلى شَرْطِ الصَّحِيحِ عَنْ أبِي رَجاءٍ العُطارِدِيِّ قالَ: «كانَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ يُقْرِئُنا فَيُجْلِسُنا حِلَقًا، عَلَيْهِ ثَوْبانِ أبْيَضانِ، فَإذا تَلا هَذِهِ السُّورَةَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ (p-178)قالَ: هَذِهِ أوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ». وقَدْ أخْرَجَ الحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ وصَحَّحاهُ عَنْ عائِشَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ غَيْرُ واحِدٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ثُمَّ ﴿ن والقَلَمِ﴾ ورَوى الشَّيْخانِ عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ: «سَألْتُ جابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: أيُّ القُرْآنِ أُنْزِلَ أوَّلًا؟ قالَ: يا أيُّها المُدَّثِّرُ. قُلْتُ: يَقُولُونَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ؟ قالَ: أُحَدِّثُكم بِما حَدَّثَنا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ،» فَساقَ الحَدِيثَ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلى ما ادَّعاهُ وأجابَ عَنْهُ الأوَّلُونَ بِعِدَّةِ أجْوِبَةٍ مَرَّ ذِكْرُها. وقِيلَ: الفاتِحَةُ. واحْتُجَّ لَهُ بِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ رِجالُهُ ثِقاتٌ أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ والواحِدِيُّ مِن طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بَكِيرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُمَرَ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ ما فِيهِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمّا نَزَلَ بَعْدَ اقْرَأْ، ويا أيُّها المُدَّثِّرُ، مَعَ أنَّ غَيْرَهُ أقْوى مِنهُ رِوايَةً وجَزَمَ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ بِأنَّ أوَّلَ ما نَزَلَ اقْرَأْ، ثُمَّ «ن»، ثُمَّ يا أيُّها المُزَّمِّلُ، ثُمَّ يا أيُّها المُدَّثِّرُ، ثُمَّ الفاتِحَةُ. وقِيلَ: أوَّلُ ما نَزَلَ صَدْرُها إلى ما لَمْ يَعْلَمْ في غارِ حِراءَ ثُمَّ نَزَلَ آخِرُها بَعْدَ ذَلِكَ بِما شاءَ اللَّهُ تَعالى وهو ظاهِرُ ما أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والشَّيْخانِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وعَبْدُ الرَّزّاقِ وغَيْرُهم مِن طَرِيقِ ابْنِ شِهابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ في حَدِيثِ بَدْءِ الوَحْيِ، وفِيهِ: ««فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثّالِثَةَ حَتّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ﴾ ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾». فَرَجَعَ بِها رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوادِرُهُ إلى أنْ قالَتْ: ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوَفِّيَ وفَتَرَ الوَحْيُ». وفِي آخِرِ ما رَوَوْا قالَ ابْنُ شِهابٍ: وأخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأنْصارِيِّ قالَ وهو يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ فَقالَ في حَدِيثِهِ: ««بَيْنا أنا أمْشِي إذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّماءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإذا المَلِكُ الَّذِي جاءَنِي بِحِراءَ جالِسٌ عَلى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ فَرُعِبْتُ مِنهُ فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ ﴿قُمْ فَأنْذِرْ﴾ ﴿ورَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ ﴿وثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ ﴿والرُّجْزَ فاهْجُرْ﴾ فَحَمِيَ الوَحْيُ وتَتابَعَ»». ويُعْلَمُ مِنهُ ضَعْفُ الِاسْتِدْلالِ عَلى كَوْنِ سُورَةِ المُدَّثِّرِ أوَّلَ نازِلٍ مِنَ القُرْآنِ عَلى الإطْلاقِ بِما رُوِيَ أوَّلًا عَنْ جابِرٍ المَذْكُورِ كَما لا يَخْفى عَلى الواقِفِ عَلَيْهِ، وقَدْ ذَكَرْناهُ صَدْرَ الكَلامِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ لِقَوْلِهِ فِيهِ وهو يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ، وقَوْلِهِ: «فَإذا المَلَكُ الَّذِي جاءَنِي بِحِراءَ»، وقَوْلِهِ: «فَحَمِيَ الوَحْيُ وتَتابَعَ»، أيْ بَعْدِ فَتْرَتِهِ. وبِالجُمْلَةِ: الصَّحِيحُ كَما قالَ البَعْضُ وهو الَّذِي أخْتارُهُ أنَّ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ هو أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ عَلى الإطْلاقِ، كَيْفَ وقَدْ ورَدَ حَدِيثُ بَدْءِ الوَحْيِ المَرْوِيُّ عَنْ عائِشَةَ مِن أصَحِّ الأحادِيثِ، وفِيهِ: «فَجاءَهُ المَلَكُ فَقالَ: اقْرَأْ. فَقالَ: قُلْتُ: «ما أنا بِقارِئٍ، فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ...»» إلَخْ. والظّاهِرُ أنَّ «ما» فِيهِ نافِيَةٌ، بَلْ قالَ النَّوَوِيُّ هو الصَّوابُ وذَلِكَ إنَّما يُتَصَوَّرُ أوَّلًا، وإلّا لَكانَ الِامْتِناعُ مِن أشَدِّ المَعاصِي، ويُطابِقُهُ ما ذَكَرَهُ الأئِمَّةُ في بابِ تَأْخِيرِ البَيانِ وسَنُشِيرُ إلَيْهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وفي الكَشْفِ: الوَجْهُ حَمْلُ قَوْلِ جابِرٍ عَلى السُّورَةِ الكامِلَةِ، وفي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: الصَّوابُ أنَّ أوَّلَ ما نَزَلَ: ﴿اقْرَأْ﴾ أيْ: مُطْلَقًا، وأوَّلَ ما نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الوَحْيِ: ﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ وأمّا قَوْلُ مَن قالَ مِنَ المُفَسِّرِينَ: أوَّلُ ما نَزَلَ الفاتِحَةُ فَبُطْلانُهُ أظْهَرُ مِن أنْ يُذْكُرَ انْتَهى. وتَمامُ الكَلامِ في هَذا المَقامِ يُطْلَبُ مِن مَحَلِّهِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ في سُورَةِ التِّينِ خَلْقَ الإنْسانِ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ بَيَّنَ عَزَّ وجَلَّ هُنا أنَّهُ تَعالى خَلَقُ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ فَكانَ ما تَقَدَّمَ كالبَيانِ لِلْعِلَّةِ الصُّورِيَّةِ، وهَذا كالبَيانِ لِلْعِلَّةِ المادِّيَّةِ. وذَكَرَ سُبْحانَهُ هُنا أيْضًا مِن أحْوالِهِ في الآخِرَةِ ما هو أبْسَطُ مِمّا ذَكَرَهُ عَزَّ وجَلَّ هُناكَ فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿اقْرَأْ﴾ أيْ: ما يُوحى إلَيْكَ مِنَ القُرْآنِ، فالمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ بِقَرِينَةِ المَقامِ كَما قِيلَ: ولَيْسَ الفِعْلُ مُنَزَّلًا مَنزِلَةَ اللّازِمِ ولا أنَّ مَفْعُولَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ عَلى أنَّ الباءَ زائِدَةٌ كَما قالَ (p-179)أبُو عُبَيْدَةَ وزَعَمَ أنَّ المَعْنى: اذْكُرْ رَبَّكَ، بَلْ هي أصْلِيَّةٌ ومَعْناها المُلابَسَةُ وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِما عِنْدَها أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا كَما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ. والمَعْنى ﴿اقْرَأْ﴾ مُبْتَدِئًا أوْ مُفْتَتِحًا ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ أيْ: قُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ اقْرَأْ وهو ظاهِرٌ في أنَّهُ لَوِ افْتَتَحَ بِغَيْرِ اسْمِهِ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا، واسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّ البَسْمَلَةَ جُزْءٌ مِن كُلِّ سُورَةٍ وفِيهِ بَحْثُ وكَذا الِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى أنَّها لَيْسَتْ مِنَ القُرْآنِ لِلْمُقابَلَةِ؛ إذْ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّها تُخَصِّصُ القُرْآنَ المُقَدَّرَ مَفْعُولًا بِغَيْرِها. وبَعْضُهُمُ اسْتَدَلَّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ في أوائِلِ السُّوَرِ بِأنَّها لَمْ تُذْكَرْ فِيما صَحَّ مِن أخْبارِ بَدْءِ الوَحْيِ الحاكِيَةِ لِكَيْفِيَّةِ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ كَذا أفادَهُ النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، ثُمَّ قالَ: وجَوابُ المُثْبِتِينَ أنَّها لَمْ تَنْزِلْ أوَّلًا بَلْ نَزَلَتْ في وقْتٍ آخَرَ كَما نَزَلَ باقِي السُّورَةِ كَذَلِكَ وهَذا خِلافُ ما أخْرَجَ الواحِدَيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ والحَسَنِ أنَّهُما قالا: أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمِ، وأوَّلُ سُورَةٍ اقْرَأْ. وكَذا خِلافُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ مِن طَرِيقِ الضَّحّاكِ «عَنِ ابْنِ عَبّاسِ أنَّهُ قالَ: أوَّلُ ما نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: يا مُحَمَّدُ، اسْتَعِذْ ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،» وقَدْ عُدَّ القَوْلُ بِأنَّها أوَّلُ ما نَزَلَ أحَدَ الأقْوالِ في تَعْيِينِ أوَّلِ مُنَزَّلٍ مِنَ القُرْآنِ. وقالَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ: إنَّ هَذا القَوْلَ لا يُعَدُّ عِنْدِي قَوْلًا بِرَأْسِهِ؛ فَإنَّهُ مِن ضَرُورَةِ نُزُولِ السُّورَةِ نُزُولُ البَسْمَلَةِ مَعَها فَهي أوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلى الإطْلاقِ وفِيهِ مَنعٌ ظاهِرٌ كَما لا يَخْفى. وجُوِّزَ كَوْنُ الباءِ لِلِاسْتِعانَةِ مُتَعَلِّقَةً بِما عِنْدَها أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا ورُجِّحَتِ المُلابَسَةُ بِسَلامَتِها عَنْ إيهامِ كَوْنِ اسْمِهِ تَعالى آلَةً لِغَيْرِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ما يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أوَّلَ الكِتابِ، ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ في الأمْرِ المَذْكُورِ تَكْلِيفٌ بِما لا يُطاقُ سَواءٌ دَلَّ الأمْرُ عَلى الفَوْرِ أمْ لا؛ لِأنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلِمَ أنَّ ما أُوحِيَ قُرْآنٌ فَهو المُكَلَّفُ بِقِراءَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولا مَحْذُورَ في كَوْنِ اقْرَأْ إلَخْ مَأْمُورًا بِقِراءَتِهِ لِصِدْقِ المَأْمُورِ بِقِراءَتِهِ عَلَيْهِ، وهَذا كَما تَقُولُ لِشَخْصٍ: اسْمَعْ ما أقُولُ لَكَ، فَإنَّهُ مَأْمُورٌ بِسَماعِ هَذا اللَّفْظِ أيْضًا. وقَدْ ذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ الأُصُولِيِّينَ أنَّ هَذا بَيانٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ في قَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿اقْرَأْ﴾ المَذْكُورِ في حَدِيثِ بَدْءِ الوَحْيِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ. قالَ الآمِدِيُّ عِنْدَ ذِكْرِ أدِلَّةِ جَوازِ تَأْخِيرِ البَيانِ عَنْ وقْتِ الخِطابِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ جَماعَةٌ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وغَيْرِهِمْ: ومِنَ الأدِلَّةِ ما رُوِيَ «أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ﴿اقْرَأْ﴾ قالَ: «وما أقْرَأُ؟» كَرَّرَ عَلَيْهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ ثُمَّ قالَ لَهُ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾» . فَأُخِّرَ بَيانُ ما أمَرَهُ بِهِ أوَّلًا مَعَ إجْمالِهِ إلى ما بَعْدَ ثَلاثِ مَرّاتٍ مِن أمْرِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ وسُؤالِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَعَ إمْكانِ بَيانِهِ أوَّلًا وذَلِكَ دَلِيلُ جَوازِ التَّأْخِيرِ إلى آخِرِ ما قالَ سُؤالًا وجَوابًا لا يَتَعَلَّقُ بِهِما غَرَضُنا، ولا يَخْفى أنْ يَكُونَ هَذا بَيانًا لِلْمُرادِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ ظاهِرٌ وكَوْنُهُ كَذَلِكَ بِجَعْلِ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ إلى آخِرِ ما نَزَلَ أوْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿اقْرَأْ﴾ إلَخْ ما ادَّعاهُ الجَلالُ مَعْمُولَ اقْرَأْ المُكَرَّرَ في كَلامِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِمّا لا أظُنُّ أنَّ أُصُولِيًّا يَقُولُ بِهِ، ومِثْلُهُ كَوْنُهُ كَذَلِكَ بِحَمْلِ الآيَةِ عَلى ما سَمِعْتَ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ. وأمّا بِناءُ الِاسْتِدْلالِ عَلى ما في بَعْضِ الآثارِ مِن أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ جاءَ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهو بِحِراءَ بِنَمَطٍ مِن دِيباجٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ إلى: ﴿ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ فَقالَ لَهُ: اقْرَأْ. فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ السَّلامَ: «ما أنا بِقارِئٍ» قالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. بِأنْ يَكُونَ اقْرَأْ... إلَخْ بَيانًا وتِلاوَةً مِن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِما في النَّمَطِ المُنَزَّلِ لِعَدَمِ العِلْمِ بِما فِيهِ وإنْ كانَ مُشاهَدًا مَنزِلَةُ المُجْمَلِ الغَيْرِ المَعْلُومِ فَلا يَخْفى حالُهُ فَتَأمَّلْ. ثُمَّ إنَّ في كَلامِ الآمِدِيِّ مِن حَيْثُ رِوايَةُ الخَبَرِ ما فِيهِ فَلا تَغْفُلْ. والتَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ المُنْبِئَةِ عَنِ التَّرْبِيَةِ والتَّبْلِيغِ إلى الكَمالِ اللّائِقِ شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ الإضافَةِ إلى ضَمِيرِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِلْإشْعارِ بِتَبْلِيغِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الغايَةِ القاصِيَةِ مِنَ الكَمالاتِ البَشَرِيَّةِ بِإنْزالِ الوَحْيِ المُتَواتِرِ. ووَصْفُ الرَّبِّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ لِتَذْكِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلَ النَّعْماءِ الفائِضَةِ عَلَيْهِ صَلّى اللَّهُ (p-180)عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنهُ سُبْحانَهُ مَعَ ما في ذَلِكَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلى قُدْرَتِهِ تَعالى عَلى تَعْلِيمِ القِراءَةِ بِألْطَفِ وجْهٍ، وقِيلَ: لِتَأْكِيدِ عَدَمِ إرادَةِ غَيْرِهِ تَعالى مِنَ الرَّبِّ؛ فَإنَّ العَرَبَ كانَتْ تُسَمِّي الأصْنامَ أرْبابًا لَكِنَّهم لا يَنْسُبُونَ الخَلْقَ إلَيْها، والفِعْلُ إمّا مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ أيِ الَّذِي لَهُ الخَلْقُ، أوْ مُقَدَّرٌ مَفْعُولُهُ عامًّا أيِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ. والأوَّلُ يُفِيدُ العُمُومَ أيْضًا؛ فَعَلى الوَجْهَيْنِ يَكُونُ وجْهُ تَخْصِيصِ الإنْسانِ بِالذِّكْرِ في قَوْلِهِ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب