الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى﴾ تَعْدِيلٌ لِما أفاضَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن أوَّلِ أمْرِهِ إلى وقْتِ النُّزُولِ مِن فُنُونِ النَّعْماءِ العِظامِ لِيَسْتَشْهِدَ بِالخاصِّ المَوْجُودِ عَلى المُتَرَقَّبِ المَوْعُودِ فَيَزْدادُ قَلْبُهُ الشَّرِيفُ وصَدْرُهُ الرَّحِيبُ طُمَأْنِينَةً وسُرُورًا وانْشِراحًا وحُبُورًا؛ ولِذا فُصِلَتِ الجُمْلَةُ، والهَمْزَةُ لِإنْكارِ النَّفْيِ وتَقْرِيرِ النَّفْيِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ كَأنَّهُ قِيلَ: قَدْ وجَدَكَ... إلَخْ. ووَجَدْتُهُ عَلى ما قالَ الرَّضِيُّ بِمَعْنى أصَبْتُهُ عَلى صِفَةٍ ويُرادُ بِالوُجُودِ فِيهِ العِلْمُ مَجازًا بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ. وفِي مُفْرَداتِ الرّاغِبِ: لِوُجُودِ اضْرِبْ وُجُودٌ بِالحَواسِّ الظّاهِرَةِ، ووُجُودٌ بِالقُوى الباطِنَةِ، ووُجُودٌ بِالعَقْلِ، وما نُسِبَ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ الوُجُودِ فَبِمَعْنى العِلْمِ المُجَرَّدِ؛ إذْ كانَ اللَّهُ تَعالى مُنَزَّهًا عَنِ الوَصْفِ بِالجَوارِحِ والآلاتِ، وقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُهم هُنا بِالعِلْمِ وجَعَلَ مَفْعُولَهُ الأوَّلَ الضَّمِيرَ ومَفْعُولَهُ الثّانِيَ: ﴿يَتِيمًا﴾ وبَعْضُهم بِالمُصادَفَةِ وجَعَلَهُ مُتَعَدِّيًا لِواحِدٍ فَ ﴿يَتِيمًا﴾ حالًا وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ المُصادَفَةَ لا تَصِحُّ في حَقِّهِ تَعالى؛ لِأنَّها مُلاقاةٌ ما لَمْ يَكُنْ في عِلْمِهِ سُبْحانَهُ وتَقْدِيرِهِ جَلَّ شَأْنُهُ، فَلا بُدَّ مِنَ التَّجَوُّزِ بِها عَنْ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ عَزَّ وجَلَّ بِذَلِكَ. والَيْتُمُ انْقِطاعُ الصَّبِيِّ عَنْ أبِيهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، والإيواءُ ضَمُّ الشَّيْءِ إلى آخَرَ. يُقالُ: آوى إلَيْهِ فُلانًا؛ أيْ: ضَمَّهُ إلى نَفْسِهِ؛ أيْ: ألَمْ يُعَلِّمْكَ طِفْلًا لا أبا لَكَ فَضَمَّكَ إلى مَن قامَ بِأمْرِكَ. رُوِيَ أنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أبا رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَمْتارُ تَمْرًا مِن يَثْرِبَ فَتُوُفِّيَ ورَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ جَنِينٌ قَدْ أتَتْ عَلَيْهِ سِتَّةُ أشْهُرٍ فَلَمّا وضَعَتْهُ كانَ في حِجْرِ جَدِّهِ مَعَ أُمِّهِ فَماتَتْ وهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، ولَمّا بَلَغَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ثَمانِيَ سِنِينَ ماتَ جَدُّهُ فَكَفَلَهُ عَمُّهُ الشَّفِيقُ الشَّقِيقُ أبُو طالِبٍ بِوَصِيَّةٍ مِن أبِيهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ وأحْسَنَ تَرْبِيَتَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وفي الكَشّافِ: ماتَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو ابْنُ ثَمانِي سِنِينَ فَكَفَلَهُ عَمُّهُ وكانَ شَدِيدَ الِاعْتِناءِ بِأمْرِهِ إلى أنَّ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعالى وكانَ يَرى مِنهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في صِغَرِهِ ما لَمْ يَرَ مِن صَغِيرٍ. رُوِيَ أنَّهُ قالَ يَوْمًا لِأخِيهِ العَبّاسِ: ألا أُخْبِرُكَ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِما رَأيْتُ مِنهُ. فَقالَ: بَلى. قالَ: إنِّي ضَمَمْتُهُ إلَيَّ فَكُنْتُ لا أُفارِقُهُ ساعَةً مِن لَيْلٍ ولا نَهارٍ ولَمْ أئْتَمِن عَلَيْهِ أحَدًا حَتّى أنِّي كُنْتُ أُنَوِّمُهُ في فِراشِي، فَأمَرْتُهُ لَيْلَةً أنْ يَخْلَعَ ثِيابَهُ ويَنامَ مَعِي فَرَأيْتُ الكَراهِيَةَ في وجْهِهِ وكَرِهَ أنْ يُخالِفَنِي فَقالَ: يا عَمّاهُ، اصْرِفْ وجْهَكَ عَنِّي حَتّى أخْلَعَ ثِيابِي؛ إنِّي لا أُحِبُّ أنْ تَنْظُرَ إلى جَسَدِي، فَتَعَجَّبْتُ مِن قَوْلِهِ وصَرَفْتُ بَصَرِي حَتّى دَخَلَ الفِراشَ، فَلَمّا دَخَلْتُ مَعَهُ الفِراشَ إذا بَيْنِي وبَيْنَهُ ثَوْبٌ، واللَّهِ ما أدْخَلْتُهُ في فِراشِي، فَإذا هو في غايَةِ اللِّينِ وطِيبِ الرّاحَةِ، كَأنَّهُ غُمِسَ في المِسْكِ، فَجَهَدْتُ لِأنْظُرَ إلى جَسَدِهِ فَما كُنْتُ أرى شَيْئًا وكَثِيرًا ما كُنْتُ أفْقِدُهُ مِن فِراشِي فَإذا قُمْتُ لِأطْلُبَهُ نادانِي: ها أنا يا عَمُّ فارْجِعْ، وكُنْتُ كَثِيرًا ما أسْمَعُ مِنهُ كَلامًا يُعْجِبُنِي وذَلِكَ عِنْدَ ما مَضى بَعْضُ اللَّيْلِ وكُنّا لا نُسَمِّي عَلى الطَّعامِ والشَّرابِ ولا نَحْمَدُ وكانَ يَقُولُ في أوَّلِ الطَّعامِ: بِسْمِ اللَّهِ الأحَدِ، فَإذا فَرَغَ مِن طَعامِهِ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، فَكُنْتُ أعْجَبُ مِنهُ ولَمْ أرَ مِنهُ كِذْبَةً ولا ضَحِكًا ولا جاهِلِيَّةً ولا وقَفَ مَعَ الصِّبْيانِ وهم يَلْعَبُونَ وهَذا لَعَمْرِي غَيْضٌ مِن فَيْضٍ: ؎فِي المَهْدِ يُعْرِبُ عَنْ سَعادَةِ جَدِّهِ أثَرُ النَّجابَةِ ساطِعُ البُرْهانِ (p-162)وقِيلَ: المَعْنى: ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا أبَتْكَ المَراضِعُ فَآواكَ مِن مُرْضِعَةٍ تَحْنُو عَلَيْكَ بِأنْ رَزَقَها بِصُحْبَتِكَ الخَيْرَ والبَرَكَةَ حَتّى أحَبَّتْكَ وتَكَفَّلَتْكَ، والأوَّلُ هو الظّاهِرُ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمّا سَتَعْلَمُهُ بَعْدُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ومِن بِدَعِ التَّفاسِيرِ عَلى ما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ يَتِيمًا مِن قَوْلِهِمْ: دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، والمَعْنى: ألَمْ يَجِدْكَ واحِدًا في قُرَيْشٍ عَدِيمَ النَّظِيرِ فَآواكَ، والأوْلى عَلَيْهِ أنْ يُقالَ: ألَمْ يَجِدْكَ واحِدًا عَدِيمَ النَّظِيرِ في الخَلِيقَةِ لَمْ يَحْوِ مِثْلَكَ صَدَفُ الإمْكانِ فَآواكَ إلَيْهِ وجَعَلَكَ في حَقِّ اصْطِفائِهِ. وقَرَأ أبُو الأشْعَثِ: «فَأوى» ثُلاثِيًّا فَجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مِن أواهُ بِمَعْنى آواهُ، وأنْ يَكُونَ مِن أوى لَهُ؛ أيْ: رَحِمَهُ ومَصْدَرُهُ أياوايَةٌ وماوِيَّةٌ وماوِيَةٌ، وتَحْقِيقُهُ عَلى ما قالَ الرّاغِبُ؛ أيْ: رَجَعَ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ ومِنهُ قَوْلُهُ: أوْ أنِّي ولا كُفْرانَ لِلَّهِ أيَّةً
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب