الباحث القرآني

وحَيْثُ تَضَمَّنَ ما سَبَقَ مِن نَفْيِ التَّوْدِيعِ والقِلى أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ لا يَزالُ يُواصِلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالوَحْيِ والكَرامَةِ في الدُّنْيا بُشِّرَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأنْ ما سَيُؤْتاهُ في الآخِرَةِ أجَلُّ وأعْظَمُ مِن ذَلِكَ فَقِيلَ: ﴿ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ لِما أنَّها باقِيَةٌ صافِيَةٌ عَنِ الشَّوائِبِ عَلى الإطْلاقِ وهَذِهِ فانِيَةٌ مَشُوبَةٌ بِالمَضارِّ، وما أُوتِيَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن شَرَفِ النُّبُوَّةِ وإنْ كانَ مِمّا لا يُعادِلُهُ شَرَفٌ ولا يُدانِيهِ فَضْلٌ لَكِنَّهُ لا يَخْلُو في الدُّنْيا عَنْ بَعْضِ العَوارِضِ القادِحَةِ في تَمْشِيَةِ الأحْكامِ مَعَ أنَّهُ عِنْدَ ما أُعِدَّ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الآخِرَةِ مِنَ السَّبْقِ والتَّقَدُّمِ عَلى كافَّةِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَوْمَ الجَمْعِ يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ، وكَوْنِ أُمَّتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ شُهَداءَ عَلى سائِرِ الأُمَمِ، ورَفْعِ دَرَجاتِ المُؤْمِنِينَ وإعْلاءِ مَراتِبِهِمْ بِشَفاعَتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الكَراماتِ السَّنِيَّةِ الَّتِي لا تُحِيطُ بِها العَبّاراتُ وتَقْصُرُ دُونَها الإشاراتُ بِمَنزِلَةِ بَعْضِ المَبادِئِ بِالنِّسْبَةِ إلى المَطالِبِ كَذا في الإرْشادِ والِاخْتِصاصِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ اللّامُ قِيلَ: إضافِيٌّ عَلى مَعْنى اخْتِصاصِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِخَيْرِيَّةِ الآخِرَةِ دُونَ مَن آذاهُ وشَمَتَ بِتَأْخِيرِ الوَحْيِ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولا مانِعَ مِن عُمُومِهِ لِجَمِيعِ الفائِزِينَ كَيْفَ وقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أنَّ الخَيْرَ المُعَدَّ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خَيْرٌ مِن المُعَدِّ لِغَيْرِهِ عَلى الإطْلاقِ، ويَكْفِي في ذَلِكَ اخْتِصاصُ المَقامِ المَحْمُودِ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى أنَّ اخْتِصاصَ اللّامِ لَيْسَ قَصْرِيًّا كَما قُرِّرَ في مَوْضِعِهِ، وحَمْلُ الآخِرَةِ عَلى الدّارِ الآخِرَةِ المُقابِلَةِ لِلدُّنْيا والأوْلى عَلى الدّارِ الأُولى وهي الدُّنْيا هو الظّاهِرُ المَرْوِيُّ عَنْ أبِي إسْحاقَ وغَيْرِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وجَماعَةٌ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِما نِهايَةَ أمْرِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وبِدايَتَهُ فاللّامُ فِيهِما لِلْعَهْدِ أوْ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ؛ أيْ: لَنِهايَةُ أمْرِكَ خَيْرٌ مِن بِدايَتِهِ لا تَزالُ تَتَزايَدُ قُوَّةً وتَتَصاعَدُ رِفْعَةً. وفي بَعْضِ الأخْبارِ المَرْفُوعَةِ ما هو أظْهَرُ في الأوَّلِ. أخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««عُرِضَ عَلَيَّ ما هو مَفْتُوحٌ لِأُمَّتِي بَعْدِي فَسَرَّنِي» . فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾» . ثُمَّ إنَّ رَبْطَ الآيَةِ بِما قَبْلَها عَلى الوَجْهِ الَّذِي سَمِعْتَ هو ما اخْتارَهُ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الأجِلَّةِ، وجُوِّزَ أنْ يُقالَ فِيهِ: إنَّهُ لَمّا نَزَلَ: ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾ حَصَلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ فَكَأنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ فَقِيلَ: لَهُ ﴿ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ عَلى مَعْنى أنَّ هَذا التَّشْرِيفَ وإنْ كانَ عَظِيمًا إلّا أنَّ ما لَكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى في الآخِرَةِ خَيْرٌ وأعْظَمُ، (p-159)وجُوِّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّ انْقِطاعَ الوَحْيِ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِما يَتَوَهَّمُونَ لِأنَّهُ عَزْلٌ عَنِ النُّبُوَّةِ وهو مُسْتَحِيلٌ في الحِكْمَةِ بَلْ أقْصى ما في البابِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأنَّهُ حَصَلَ الِاسْتِغْناءُ عَنِ الرِّسالَةِ وذَلِكَ أمارَةُ المَوْتِ فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: انْقِطاعُ الوَحْيِ مَتى حَصَلَ دَلَّ عَلى المَوْتِ لَكِنَّ المَوْتَ خَيْرٌ لَكَ؛ فَإنَّ ما لَكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى في الآخِرَةِ أفْضَلُ مِمّا لَكَ في الدُّنْيا، وهَذا كَما تَرى دُونَ ما قَبْلَهُ بِكَثِيرٍ، والمُتَبادِرُ مِمّا قَرَّرُوهُ أنَّ الجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ واللّامَ فِيها ابْتِدائِيَّةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب