الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ﴾ إلَخْ. جَوابُ القَسَمِ، ووَدَّعَ مِنَ التَّوْدِيعِ، وهو في الأصْلِ مِنَ الدَّعَةِ وهو أنْ تَدْعُوَ لِلْمُسافِرِ بِأنْ يَدْفَعَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ كَآبَةَ السَّفَرِ، وأنْ يُبَلِّغَهُ الدَّعَةَ وخَفْضَ العَيْشِ كَما أنَّ التَّسْلِيمَ دُعاءٌ لَهُ بِالسَّلامَةِ، ثُمَّ صارَ مُتَعارَفًا في تَشْيِيعِ المُسافِرِ وتَرْكِهِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في التَّرْكِ مُطْلَقًا وفُسِّرَ بِهِ هُنا؛ أيْ: ما تَرَكَكَ رَبُّكَ. وفي البَحْرِ والكَشّافِ: التَّوْدِيعُ مُبالَغَةٌ في الوَدْعِ أيِ التَّرْكِ لِأنَّ مَن ودَّعَكَ مُفارِقًا فَقَدْ بالَغَ في تَرْكِكَ، قِيلَ: وعَلَيْهِ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ المَنفِيُّ التَّرْكَ المُبالَغَ فِيهِ دُونَ أصْلِ التَّرْكِ مَعَ أنَّ الظّاهِرَ نَفْيُ ذَلِكَ فَلا بُدَّ مِن أنْ يُقالَ: إنَّهُ إنَّما نَفى ذَلِكَ لِأنَّهُ الواقِعُ في كَلامِ المُشْرِكِينَ الَّذِي نَزَلَتْ لَهُ الآيَةُ، أوْ أنَّ المُبالَغَةَ تَعُودُ عَلى النَّفْيِ فَيَكُونُ المُرادُ المُبالَغَةَ في النَّفْيِ لا نَفْيَ المُبالَغَةِ، وقَدْ ذَكَرُوا نَظِيرَ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فَتَدَبَّرْ. وقِيلَ: إنَّ المَعْنى ما قَطَعَكَ قَطْعَ المُوَدِّعِ عَلى أنَّ التَّوْدِيعَ مُسْتَعارٌ اسْتِعارَةً تَبَعِيَّةً لِلتَّرْكِ وفِيهِ مِنَ اللُّطْفِ والتَّعْظِيمِ ما لا يَخْفى؛ فَإنَّ الوَداعَ إنَّما يَكُونُ بَيْنَ الأحْبابِ ومَن تَعِزُّ مُفارَقَتُهُ كَما قالَ المُتَنَبِّي: ؎حَشاشَةُ نَفْسٍ ودَّعَتْ يَوْمَ ودَّعَوْا فَلَمْ أدْرِ أيَّ الظّاعِنِينَ أُشَيِّعُ وحَقِيقَةُ التَّوْدِيعِ المُتَعارَفِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ هاهُنا، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ عَلى هَذا لا يَكُونُ رَدًّا لِما قالَهُ المُشْرِكُونَ لِأنَّهم لَمْ يَقُولُوا: ودَّعَهُ رَبُّهُ عَلى هَذا المَعْنى؛ كَيْفَ وهم بِمَعْزِلٍ عَنِ اعْتِقادِ كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالمَحَلِّ الَّذِي هو صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِيهِ مِن رَبِّهِ سُبْحانَهُ؟ وقِيلَ في الجَوابِ: إنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَدُلَّ ودَّعَهُ رَبُّهُ عَلى ذَلِكَ إلّا أنَّهم -قاتَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى- قالُوهُ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ والسُّخْرِيَةِ، وحِينَ رَدَّ عَلَيْهِمْ قَصَدَ ما يُشْعِرُ بِهِ اللَّفْظُ عَلى التَّحْقِيقِ. وقِيلَ: إنَّ التَّرْكَ مُطْلَقٌ في كَلامِهِمْ، والظّاهِرُ مِن حالِهِمْ أنَّهم لَمْ يُرِيدُوا الماهِيَّةَ مِن حَيْثُ هي ولا مِن حَيْثُ تَحَقُّقُها في ضِمْنِ ما لا يُخِلُّ بِشَرِيفِ مَقامِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَلِ الماهِيَّةُ مِن حَيْثُ تَحَقُّقُها في ضِمْنِ ما يُخِلُّ بِذَلِكَ، ولَمّا كانَ المَقْصُودُ إيناسَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وإزالَةَ وحْشَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جِيءَ بِما يَتَضَمَّنُ نَفْيَ ما زَعَمُوهُ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ هَذا (p-156)النَّوْعَ الغَيْرَ المُخِلِّ بِمَقامِكَ مِنَ التَّرْكِ لَمْ يَكُنْ فَضْلًا عَمّا زَعَمُوهُ مِنَ التَّرْكِ المُخِلِّ بِعَزِيزِ مَقامِكَ، وعِنْدِي أنَّ الظّاهِرَ أنَّ ذَلِكَ القَوْلَ بِأيِّ مَعْنًى كانَ صادِرٌ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ إذا كانَ المُرادُ بِالرَّبِّ هو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وكانَ القائِلُ مِنَ المُشْرِكِينَ كَما لا يَخْفى عَلى المُتَأمِّلِ. وقَرَأ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وابْنُهُ هِشامٌ وأبُو حَيْوَةَ وأبُو بَحْرِيَّةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: «ما ودَعَكَ» بِالتَّخْفِيفِ وهي عَلى ما قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ قِراءَةُ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وخَرَجَتْ عَلى أنْ ودَعَ مُخَفَّفُ ودَّعَ ومَعْناهُ مَعْناهُ. قالَ في القامُوسِ: ودَعَهُ كَوَضَعَهُ ووَدَّعَ بِمَعْنًى، وقِيلَ: لَيْسَ بِمُخَفَّفَةٍ، بَلْ هو فِعْلٌ بِرَأْسِهِ بِمَعْنى تَرَكَ، وأنَّهُ يُعَكِّرُ عَلى قَوْلِ النُّحاةِ أماتَتِ العَرَبُ ماضِيَ يَدَعُ ويَذَرُ ومَصْدَرَهُما واسْمَ فاعِلِهِما واسْمَ مَفْعُولِهِما واسْتَغْنَوْا بِما لِيَتْرُكَ مِن ذَلِكَ. وفي المُغْرِبِ أنَّ النُّحاةَ زَعَمُوا أنَّ العَرَبَ أماتَتْ ذَلِكَ والنَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أفْصَحُهُمْ، وقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««لِيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عَنْ ودْعِهُمُ الجَماعاتِ»». وقَرَأ: «ما ودَعَكَ». وقالَ أبُو الأُسُودِ: ؎لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلِي ما الَّذِي ∗∗∗ غالَهُ في الحُبِّ حَتّى ودَعَهْ ومِثْلُهُ قَوْلُ آخَرَ: ؎وثُمَّ ودَعْنا آلَ عَمْرٍو وعامِرٍ ∗∗∗ فَرائِسَ أطْرافِ المُثَقَّفَةِ السُّمْرِ وهُوَ دَلِيلٌ أيْضًا عَلى اسْتِعْمالِ ودَعَ وهو بِمَعْنى تَرَكَ المُتَعَلِّقِ بِمَفْعُولَيْنِ فَلا تَغْفُلْ. وفِي الحَدِيثِ: ««اتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُمْ، ودَعَوُا الحَبَشَةَ ما ودَعُوكُمْ»». وفِي المُسْتَوْفى أنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَدْ ورَدَ في كَلامِ العَرَبِ ولا عِبْرَةَ بِكَلامِ النُّحاةِ. وإذا جاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ. نَعَمْ وُرُودُهُ نادِرٌ وقالَ الطِّيبِيُّ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ وُرُودَهُ نَظْمًا ونَثْرًا: إنَّما حَسَّنَ هَذِهِ القِراءَةَ المُوافَقَةُ بَيْنَ الكَلِمَتَيْنِ؛ يَعْنِي هَذِهِ وما بَعْدَها كَما في حَدِيثِ التُّرْكِ والحَبَشَةِ؛ لِأنَّ رَدَّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ وصَنْعَةَ التَّرْصِيعِ قَدْ جَبَرا مِنهُ. وقِيلَ: إنَّ القائِلِينَ إنَّما قالُوا: «ودَعَهُ رَبُّهُ» بِالتَّخْفِيفِ فَنَزَلَتْ فَيَكُونُ المُحْسِنُ لَهُ قَصْدُ المُشاكَلَةِ لِما قالُوهُ وهم تَكَلَّمُوا بِغَيْرِ المَعْرُوفِ طِيرَةً مِنهم كانَ غَيْرُ المَعْرُوفِ مِنَ اللَّفْظِ مِمّا يُتَشاءَمُ بِهِ مِنَ الفَأْلِ الرَّدِيءِ أوْ أنَّهم لَمّا قَصَدُوا السُّخْرِيَةَ حَسُنَ اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ، وقَدْ قالُوا: يَحْسُنُ اسْتِعْمالُ الألْفاظِ الغَرِيبَةِ ونَحْوَها في الهِجاءِ فَلا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ في السُّخْرِيَةِ كَذَلِكَ. والحَقُّ أنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ وُرُودِهِ لا يَحْتاجُ إلى تَكْلِيفٍ مُحَسِّنٍ لَهُ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالرَّبِّ هو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وفي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ وإضافَتِهِ إلى ضَمِيرِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ اللُّطْفِ ما لا يَخْفى فَكَأنَّهُ قِيلَ: ما تَرَكَكَ المُتَكَفِّلُ بِمَصْلَحَتِكَ والمُبَلِّغُ لَكَ عَلى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ كَمالَكَ اللّائِقَ بِكَ. ﴿وما قَلى﴾ أيْ: وما أبْغَضَكَ، وحُذِفَ المَفْعُولُ لِئَلّا يُواجَهَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِنِسْبَةِ القِلى وإنْ كانَتْ في كَلامٍ مَنفِيٍّ لُطْفًا بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وشَفَقَةً عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أوْ لِنَفْيِ صُدُورِهِ عَنْهُ عَزَّ وجَلَّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولِأحَدٍ مِن أصْحابِهِ ومَن أحَبَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، أوْ لِلِاسْتِغْناءِ عَنْهُ بِذِكْرِهِ مِن قَبْلُ مَعَ أنَّ فِيهِ مُراعاةً لِلْفَواصِلِ. واللُّغَةُ المَشْهُورَةُ في مُضارِعِ قَلى يَقْلِي كَيَرْمِي، وطَيِّئٌ تَقُولُ: يَقْلَ بِفَتْحِ العَيْنِ كَيَرْضى، وتَفْسِيرُ القِلى بِالبُغْضِ شائِعٌ. وفي القامُوسِ مِنَ الواوِيِّ قَلا زَيْدًا قِلًا وقَلاهُ أبْغَضَهُ ومِنَ اليائِيِّ قَلاهُ كَرَماهُ ورَضِيَهُ قِلًى وقَلاهُ مَقْيِلَةً أبْغَضَهُ وكَرِهَهُ غايَةَ الكَراهَةِ فَتَرَكَهُ أوْ قَلاهُ في الهَجْرِ وقَلِيَهُ في البُغْضِ. وفي مُفْرَداتِ الرّاغِبِ القِلى شِدَّةُ البُغْضِ؛ يُقالُ: قَلاهُ يَقْلُوهُ ويَقْلِيهِ فَمَن جَعَلَهُ مِنَ الواوِيِّ فَهو مِنَ القُلُوِّ؛ أيِ الرَّمْيِ مِن قَوْلِهِمْ: قَلَتِ النّاقَةُ بِراكِبِها قَلْوًا، وقَلَوْتُ بِالقُلَةِ فَكَأنَّ المَقْلُوَّ هو الَّذِي يَقْذِفُهُ القَلْبُ مِن بُغْضِهِ فَلا يَقْبَلُهُ، ومَن جَعَلَهُ مِنَ اليائِيِّ فَمِن قَلَيْتُ البُسْرَ والسَّوِيقَ عَلى المِقْلاةِ انْتَهى. وبَيْنَهُما مُخالَفَةٌ لا تَخْفى. وعَلى اعْتِبارِ شِدَّةِ البُغْضِ فالظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ في الآيَةِ لَيْسَ إلّا لِأنَّهُ الواقِعُ في كَلامِهِمْ، قالَ المُفَسِّرُونَ: أبْطَأجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقالَ المُشْرِكُونَ: قَدْ قَلاهُ رَبُّهُ ووَدَّعَهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ. وأخْرَجَ الحاكِمُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ إلَخْ قِيلَ لِامْرَأةِ أبِي لَهَبٍ أُمِّ جَمِيلٍ: إنَّ مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ (p-157)وسَلَّمَ قَدْ هَجاكِ. فَأتَتْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ جالِسٌ في المَلَأِ فَقالَتْ: يا مُحَمَّدُ، عَلامَ تَهْجُونِي؟ قالَ: «إنِّي واللَّهِ ما هَجَوْتُكِ ما هَجاكِ إلّا اللَّهُ تَعالى». فَقالَتْ: هَلْ رَأيْتَنِي أحْمِلُ حَطَبًا أوْ في جِيدِي حَبْلًا مِن مَسَدٍ؟ ثُمَّ انْطَلَقَتْ فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يَنْزِلُ عَلَيْهِ فَأتَتْهُ فَقالَتْ: ما أرى صاحِبَكَ إلّا قَدْ ودَّعَكَ وقَلاكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ». وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ وابْنُ أبِي حاتِمٍ واللَّفْظُ لَهُ عَنْ جُنْدُبٍ البَجَلِيِّ قالَ: «رُمِيَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِحَجَرٍ في أُصْبُعِهِ فَقالَ: ما أنْتِ إلّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وفي سَبِيلِ اللَّهِ ما لَقِيتِ. فَمَكَثَ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثًا لا يَقُومُ فَقالَتْ لَهُ امْرَأةٌ: ما أرى شَيْطانَكَ إلّا قَدْ تَرَكَكَ». وفِي رِوايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ أيْضًا والإمامِ أحْمَدَ والبُخارِيِّ ومُسْلِمٍ والنَّسائِيِّ وجَماعَةٍ بِلَفْظِ: «اشْتَكى النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثًا فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والضُّحى﴾ ﴿واللَّيْلِ إذا سَجى﴾ ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾» . ولَيْسَ فِيهِ حَدِيثُ المَرْأةِ ولا الحَجَرِ والرِّجْزِ وذَلِكَ لا يَطْعَنُ في صِحَّتِهِ. وقالَ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: «إنَّ اليَهُودَ سَألُوهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنْ أصْحابِ الكَهْفِ، وعَنِ الرُّوحِ، وعَنْ قِصَّةِ ذِي القَرْنَيْنِ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «سَأُخْبِرُكم غَدًا» ولَمْ يَسْتَثْنِ. فاحْتَبَسَ عَنْهُ الوَحْيُ فَقالَ المُشْرِكُونَ ما قالُوا فَنَزَلَتْ.» وقِيلَ: «إنَّ عُثْمانَ أهْدى إلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عُنْقُودَ عِنَبٍ وقِيلَ: عَذْقَ تَمْرٍ فَجاءَ سائِلٌ فَأعْطاهُ ثُمَّ اشْتَراهُ عُثْمانُ بِدِرْهَمٍ فَقَدَّمَهُ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ثانِيًا، ثُمَّ عادَ السّائِلُ فَأُعْطِيَهُ وهَكَذا ثَلاثَ مَرّاتٍ. فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُلاطِفًا لا غَضْبانَ: «أسائِلٌ أنْتَ يا فُلانُ أمْ تاجِرٌ؟» فَتَأخَّرَ الوَحْيُ أيّامًا فاسْتَوْحَشَ فَنَزَلَتْ،» ولَعَلَّهم أيْضًا قالُوا ما قالُوا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في مُسْنَدِهِ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن «حَدِيثِ خَوْلَةَ وكانَتْ تَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: إنَّ جَرْوًا دَخَلَ تَحْتَ سَرِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَماتَ ولَمْ نَشْعُرْ بِهِ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أرْبَعَةَ أيّامٍ لا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ فَقالَ: «يا خَوْلَةُ، ما حَدَثَ في بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جِبْرِيلُ لا يَأْتِينِي؟». فَقُلْتُ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، ما أتى عَلَيْنا يَوْمٌ خَيْرٌ مِنّا اليَوْمَ، فَأخَذَ بُرْدَهُ فَلَبِسَهُ وخَرَجَ فَقُلْتُ في نَفْسِي: لَوْ هَيَّأْتُ البَيْتَ وكَنَسْتُهُ فَأهْوَيْتُ بِالمِكْنَسَةِ تَحْتَ السَّرِيرِ فَإذا بِشَيْءٍ ثَقِيلٍ فَلَمْ أزَلْ بِهِ حَتّى بَدا لِي الجَرْوُ مَيِّتًا فَأخَذْتُهُ بِيَدِي فَألْقَيْتُهُ خَلْفَ الدّارِ، فَجاءَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَرْعِدُ لِحْيَتُهُ وكانَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ أخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ. فَقالَ: يا خَوْلَةُ، دَثِّرِينِي، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والضُّحى﴾ ﴿واللَّيْلِ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَتَرْضى﴾» . وهَذِهِ الرِّوايَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الِانْقِطاعَ كانَ أرْبَعَةَ أيّامٍ. وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّهُ كانَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وعَنِ الكَلْبِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وقِيلَ: بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ خَمْسَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا، وعَنِ السُّدِّيِّ ومُقاتِلٍ أرْبَعِينَ يَوْمًا، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِمّا يَتَفاوَتُ العِلْمُ بِمَبْدَئِهِ ولا يَكادُ يُعْلَمُ عَلى التَّحْقِيقِ إلّا مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وفي بَعْضِ الرِّواياتِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ قائِلَ ذَلِكَ هو النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. فَعَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: «أبْطَأ الوَحْيُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالَ لِخَدِيجَةَ: «إنَّ رَبِّي ودَّعَنِي وقَلانِي». يَشْكُو إلَيْها، فَقالَتْ: كَلّا والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما ابْتَدَأكَ اللَّهُ تَعالى بِهَذِهِ الكَرامَةِ إلّا وهو سُبْحانُهُ يُرِيدُ أنْ يُتِمَّها لَكَ فَنَزَلَتْ». واسْتُشْكِلَ هَذا بِأنَّهُ لا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَظُنَّ أنَّ اللَّهَ تَعالى شَأْنُهُ ودَّعَهُ وقَلاهُ، وهَلْ إلّا نَحْوٌ مَنِ العَزْلِ، وعَزْلُ النَّبِيِّ عَنِ النُّبُوَّةِ غَيْرُ جائِزٍ في حِكْمَتِهِ عَزَّ وجَلَّ، والنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أعْلَمُ بِذَلِكَ ويَعْلَمُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أيْضًا أنَّ إبْطاءَ الوَحْيِ وعَكْسَهُ لا يَخْلُو كُلٌّ مِنهُما عَنْ مَصْلَحَةٍ وحِكْمَةٍ. وأُجِيبَ بِأنَّ مُرادَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنْ صَحَّ أنْ يُجَرِّبَها لِيَعْرِفَ قَدْرَ عِلْمِها أوْ لِيَعْرِفَ النّاسُ ذَلِكَ. فَقالَ ما قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ كَأنْ يَكُونَ قَدْ قَصَدَ إنَّ رَبِّي ودَّعَنِي وقَلانِي بِزَعْمِ المُشْرِكِينَ، أوْ أنَّ مُعامَلَتَهُ سُبْحانَهُ إيّايَ بِإبْطاءِ الوَحْيِ تُشْبِهُ صُورَةَ مُعامَلَةِ المُوَدِّعِ والقالِي. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذِهِ الرِّوايَةَ شاذَّةٌ لا يُعَوَّلُ عَلَيْها ولا يُلْتَفَتُ إلَيْها فَلا يَنْبَغِي إتْعابُ الذِّهْنِ بِتَأْوِيلِها. (p-158)ونَحْوَها ما دَلَّ عَلى أنَّ قائِلَ ذاكَ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها. أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عُرْوَةَ قالَ: أبْطَأ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَجَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا فَقالَتْ خَدِيجَةُ: أرى رَبَّكَ قَدْ قَلاكَ مِمّا أرى مِن جَزَعِكَ؛ فَنَزَلَتْ: ﴿والضُّحى﴾ ﴿واللَّيْلِ﴾ . إلى آخِرِها، والقَوْلُ بِأنَّها رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها أرادَتْ أنَّ هَذا الجَزَعَ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ إلّا مِن قِلى رَبِّكَ إيّاكَ، وحاشى أنْ يَقْلاكَ، فَما هَذا الجَزَعُ بَعِيدٌ غايَةَ البُعْدِ، والمُعَوَّلُ ما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ وصَحَّتْ بِهِ الأخْبارُ أنَّ القائِلَ هُمُ المُشْرِكُونَ وأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما أحْزَنَهُ بِمُقْتَضى الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ تَعْبِيرُهم وعَدَمُ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ مَزِيدِ حُبِّهِ إيّاهُ. وفِي بَعْضِ الآثارِ «أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ما جِئْتَنِي حَتّى اشْتَقْتُ إلَيْكَ». فَقالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: كُنْتُ أنا إلَيْكَ أشْوَقَ، ولَكِنِّي عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وتَلا: ﴿وما نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ﴾» . وفِي رِوايَةٍ أنَّهُ عاتَبَهُ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ فَقالَ: أما عَلِمْتَ أنّا لا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ولا صُورَةٌ. وراوِي هَذا يَرْوِي أنَّ السَّبَبَ في إبْطاءِ الوَحْيِ وُجُودُ جَرْوٍ في بَيْتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والرِّواياتُ في ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ، وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ الإبْطاءُ لِتَجَمُّعِ الأسْبابِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ زَعَمَ بَعْضٌ بِناءً عَلى بَعْضِ الرِّواياتِ السّابِقَةِ جَوازَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِرَبِّكَ فِي: ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ﴾ دُونَ ما بَعْدَ صاحِبِكَ والمُرادُ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو كَما تَرى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب