الباحث القرآني
سُورَةُ البَلَدِ
مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الجُمْهُورِ بِتَمامِها، وقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ بِتَمامِها، وقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ إلّا أرْبَعَ آياتٍ مِن أوَّلِها. واعْتُرِضَ كِلا القَوْلَيْنِ بِأنَّهُ يَأْباهُما قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِهَذا البَلَدِ﴾ قِيلَ: ولِقُوَّةِ الِاعْتِراضِ ادَّعى الزَّمَخْشَرِيُّ الإجْماعَ عَلى مَكِّيَّتِها وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى أنَّ في بَعْضِ الأخْبارِ ما هو ظاهِرٌ في نُزُولِ صَدْرِها بِمَكَّةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وهي عِشْرُونَ آيَةً بِلا خِلافٍ. ولَمّا ذَمَّ سُبْحانَهُ فِيما قَبْلَها مَن أحَبَّ المالَ وأكَلَ التُّراثَ أكْلًا لَمًّا، ولَمْ يَحُضَّ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ ذَكَرَ جَلَّ وعَلا فِيها الخِصالَ الَّتِي تُطْلَبُ مِن صاحِبِ المالِ مِن فَكِّ الرَّقَبَةِ وإطْعامٍ في يَوْمِ ذِي مَسْغَبَةٍ وكَذا لَمّا ذَكَرَ عَزَّ وجَلَّ النَّفْسَ المُطْمَئِنَّةَ هُناكَ ذَكَرَ سُبْحانَهُ هاهُنا بَعْضَ ما يَحْصُلُ بِهِ الِاطْمِئْنانُ فَقالَ عَزَّ قائِلًا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
﴿لا أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ﴾ أقْسَمَ سُبْحانَهُ بِالبَلَدِ الحَرامِ أعْنِي مَكَّةَ؛ فَإنَّهُ المُرادُ بِالمُشارِ إلَيْهِ بِالإجْماعِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ عَلى الإنْسانِ خُلِقَ مَغْمُورًا في مُكابَدَةِ المَشاقِّ ومُعاناةِ الشَّدائِدِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْتَ حِلٌّ بِهَذا البَلَدِ﴾ عَلى ما اخْتارَهُ في الكَشّافِ اعْتِراضٌ بَيْنَ القَسَمِ وجَوابِهِ وفِيهِ تَحْقِيقُ مَضْمُونِهِ بِذِكْرِ بَعْضِ المُكابَدَةِ عَلى نَهْجِ بَراعَةِ الِاسْتِهْلالِ وإدْماجٌ لِسُوءِ صَنِيعِ المُشْرِكِينَ لِيُصَرِّحَ بِذَمِّهِمْ عَلى أنَّ الحِلَّ بِمَعْنى المُسْتَحَلِّ بِزِنَةِ المَفْعُولِ الَّذِي لا يُحْتَرَمُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ومِنَ المُكابَدَةِ أنَّ مِثْلَكَ عَلى عِظَمِ حُرْمَتِهِ يُسْتَحَلُّ بِهَذا البَلَدِ الحَرامِ ولا يُحْتَرَمُ كَما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غَيْرِ الحَرَمِ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ: يُحَرِّمُونَ أنْ يَقْتُلُوا بِهِ صَيْدًا ويُعَضِّدُوا شَجَرَهُ ويَسْتَحِلُّونَ إخْراجَكَ وقَتْلَكَ، وفي تَأْكِيدِ كَوْنِ الإنْسانِ في كَيْدٍ بِالقَسَمِ تَثْبِيتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وبَعْثٌ عَلى أنْ يَطَأ مِن نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ عَلى احْتِمالِهِ فَإنَّ ذَلِكَ قَدَرٌ مَحْتُومٌ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الحِلُّ بِمَعْنى الحَلالِ ضِدَّ الحَرامِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما أخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ: وأنْتَ يا مُحَمَّدُ يَحِلُّ لَكَ أنْ تُقاتِلَ بِهِ. وأمّا غَيْرُكَ فَلا. وقالَ مُجاهِدٌ: أحَلَّهُ اللَّهُ تَعالى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ساعَةً مِن نَهارٍ، وقالَ سُبْحانَهُ لَهُ: ما صَنَعْتَ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَأنْتَ في حِلٍّ (p-134)لا تُؤاخَذُ بِهِ، ورُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أبِي صالِحٍ وقَتادَةَ وعَطِيَّةَ وابْنِ زَيْدٍ والحَسَنِ والضَّحّاكِ ولَفْظُهُ: يَقُولُ سُبْحانَهُ: أنْتَ حِلٌّ بِالحَرَمِ فاقْتُلْ إنْ شِئْتَ أوْ دَعْ وذَلِكَ يَوْمَ الفَتْحِ، وقَدْ قَتَلَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ وهو الَّذِي كانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّيهِ ذا القَلْبَيْنِ، قَدَّمَهُ أبُو بَرْزَةَ سَعِيدُ بْنُ حَرْبٍ الأسْلَمِيُّ فَضَرَبَ بِأمْرِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عُنُقَهُ وهو مُتَعَلِّقٌ بِأسْتارِ الكَعْبَةِ، وكانَ قَدْ أظْهَرَ الإسْلامَ وكَتَبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الوَحْيِ فارْتَدَّ وشَنَّعَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأنَّ ما يُمْلِيهِ مِنَ القُرْآنِ مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لا مِنَ اللَّهِ تَعالى، وقُتِلَ غَيْرُهُ أيْضًا كَما هو مَذْكُورٌ في كُتُبِ السِّيَرِ، ثُمَّ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««إنِ اللَّهَ تَعالى: حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ فَهي حَرامٌ إلى أنْ تَقُومَ السّاعَةُ لا تَحِلُّ لِأحَدٍ قَبْلِي ولَنْ تَحِلَّ لِأحَدٍ بَعْدِي، ولَمْ تَحِلَّ لِي إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ، فَلا يُعْضَدُ شَجَرُها ولا يُخْتَلى خَلاها ولا يُنَفَّرُ صَيْدُها ولا تَحِلُّ لُقَطَتُها إلّا لِمُنْشِدٍ». فَقالَ العَبّاسُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إلّا الإذْخِرَ؛ فَإنَّهُ لِقُيُونِنا وقُبُورِنا وبُيُوتِنا. فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إلّا الإذْخِرَ»».
وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى هَذا لِلِاخْتِصاصِ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ في خَبَرِ ابْنِ عَبّاسٍ. و﴿حِلٌّ﴾ عَلى مَعْنى الِاسْتِقْبالِ بِناءً عَلى أنَّ نُزُولَ السُّورَةِ قَبْلَ الهِجْرَةِ الَّتِي هي قَبْلَ الفَتْحِ بِكَثِيرٍ وفي خَبَرٍ رَواهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ ما هو ظاهِرٌ في أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أنْ ضَرَبَ أبُو بَرْزَةَ عُنُقَ ابْنِ خَطَلٍ يَوْمَ الفَتْحِ، فَإنْ صَحَّ لا يَكُونُ في مَعْنى الِاسْتِقْبالِ لَكِنَّ الجُمْهُورَ عَلى الأوَّلِ، وفي تَعْظِيمِ المُقْسَمِ بِهِ وتَوْكِيدِ المُقْسَمِ عَلَيْهِ بِالإقْسامِ تَوْكِيدٌ لِما سِيقَ لَهُ الكَلامُ وهو عَلى ما ذُكِرَ أنَّ عاقِبَةَ الِاحْتِمالِ والمُكابَدَةِ إلى الفَتْحِ والظَّفَرِ والغَرَضُ تَسْلِيَتُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ثُمَّ تَرْشِيحُها بِالتَّصْرِيحِ بِما سَيَكُونُ مِنَ الغَلَبَةِ وتَعْظِيمِ البَلَدِ يَدُلُّ عَلى تَعْظِيمِ مَن أحَلَّ لَهُ وفي الإقْسامِ بِهِ تَوْطِئَةً لِلتَّسْلِيَةِ؛ لِأنَّ تَعْظِيمَ البَلَدِ مِمّا يَقْتَرِفُهُ أهْلُهُ مِنَ المَآثِمِ مُتَحَرِّجٌ بَرِيءٌ مِنها والمَعْنى في الإقْسامِ بِالبَلَدِ تَعْظِيمُهُ، وفي الِاعْتِراضِ تَرْشِيحُ التَّعْظِيمِ والتَّشْرِيفُ بِكَوْنِ مِثْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في جَلالَةِ القَدْرِ ومَنصِبِ النُّبُوَّةِ ساكِنًا فِيهِ مُبايِنًا لِما عَلَيْهِ الغاغَةُ والهَمَجُ، والفائِدَةُ فِيهِ تَأْكِيدُ المُقْسَمِ عَلَيْهِ بِأنَّهم مِن أهْلِ الطَّبْعِ فَلا يَنْفَعُهم شَرَفُ مَكانٍ والمُتَمَكِّنِ فِيهِ كَأنَّهُ قِيلَ: أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ الطَّيِّبِ بِنَفْسِهِ وبِمَن سَكَنَ فِيهِ أنَّ أهْلَهُ لَفي مَرَضِ قَلْبٍ وشَكٍّ لا يُقادَرُ قَدْرُهُ. وقِيلَ: الحِلُّ صِفَةٌ أوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنى الحالِ يُقالُ: حَلَّ أيْ: نَزَلَ، يَحُلُّ حِلًّا وحُلُولًا. ويُقالُ أيْضًا: هو حِلٌّ بِمَوْضِعِ كَذا كَما يُقالُ: حالٌّ بِهِ والقَوْلُ بِأنَّ الصِّفَةَ مِنَ الحُلُولِ حالٌّ لا حِلٌّ، ومَصْدَرُ حَلَّ بِمَعْنى نَزَلَ الحُلُولُ، والحَلُّ بِفَتْحِ الحاءِ والحَلَلُ فَقَطْ ناشِئٌ مِن قِلَّةِ التَّتَبُّعِ. والِاعْتِراضُ لِتَشْرِيفِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِجَعْلِ حُلُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَناطًا لِإعْظامِ البَلَدِ بِالإقْسامِ بِهِ وجَعَلَ بَعْضُ الأجِلَّةِ الجُمْلَةَ عَلى هَذا الوَجْهِ حالًا مِن هَذا البَلَدِ وكَذا جَعَلَها بَعْضُهم حالِيَّةً عَلى الوَجْهَيْنِ قَبْلُ، إلّا أنَّ الحالَ عَلى ثانِيهِما مُقارِنَةٌ، وعَلى أوَّلِهِما مُقَدَّرَةٌ أوْ مُقارِنَةٌ إنْ قِيلَ: إنَّ النُّزُولَ ساعَةَ أُحِلَّتْ مَكَّةُ، وجَعَلَها ابْنُ عَطِيَّةَ حالًا عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ أيْضًا أعْنِي كَوْنَ الحِلِّ بِمَعْنى المُسْتَحِلِّ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بِكَوْنِ لا نافِيَةٌ غَيْرُ زائِدَةٍ فَتَأمَّلْ. وأيًّا ما كانَ فَفي الإشارَةِ وإقامَةِ الظّاهِرِ مَقامَ الضَّمِيرِ مِن تَعْظِيمِ البَلَدِ ما فِيهِما.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["لَاۤ أُقۡسِمُ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ","وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ"],"ayah":"وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق