الباحث القرآني

﴿لَوْ كانَ﴾ أيْ: ما دَعَوْا إلَيْهِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما تَقَدَّمَ ﴿عَرَضًا قَرِيبًا﴾ أيْ غَنَمًا سَهْلَ المَأْخَذِ قَرِيبَ المَنالِ، وأصْلُ العَرَضِ ما عَرَضَ لَكَ مِن مَنافِعِ الدُّنْيا ومَتاعِها، وفي الحَدِيثِ «الدُّنْيا عَرَضٌ حاضِرٌ يَأْكُلُ مِنهُ البَرُّ والفاجِرُ» ﴿وسَفَرًا قاصِدًا﴾ أيْ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ القُرْبِ والبُعْدِ وهو مِن بابِ تامِرٍ ولِابْنٍ ( ﴿لاتَّبَعُوكَ﴾ ) أيْ لَوافَقُوكَ في النَّفِيرِ طَمَعًا في الفَوْزِ بِالغَنِيمَةِ، وهَذا شُرُوعٌ في تَعْدِيدِ ما صَدَرَ عَنْهم مِنَ الهَناتِ قَوْلًا وفِعْلًا وبَيانُ قُصُورِ هَمِّهِمْ وما هم عَلَيْهِ مِن غَيْرِ ذَلِكَ، وقِيلَ: هو تَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِمْ مُتَثاقِلِينَ مائِلِينَ إلى الإقامَةِ بِأرْضِهِمْ، وتَعْلِيقُ الِاتِّباعِ بِكِلا الأمْرَيْنِ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ تَحَقُّقِهِ عِنْدَ تَوَسُّطِ السَّفَرِ فَقَطْ (p-107)﴿ولَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ أيِ: المَسافَةُ الَّتِي تُقْطَعُ بِمَشَقَّةٍ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ ( بَعِدَتْ ) بِكَسْرِ العَيْنِ، و( الشِّقَّةُ ) بِكَسْرِ الشِّينِ، وبَعِدَ يَبْعَدُ كَعَلِمَ يَعْلَمُ لُغَةٌ واخْتَصَّ بِبُعْدِ المَوْتِ غالِبًا، وجاءَ لا تُبْعِدُ لِلتَّفَجُّعِ والتَّحَسُّرِ في المَصائِبِ كَما قالَ: ؎لا يُبْعِدُ اللَّهُ إخْوانًا لَنا ذَهَبُوا أفْناهم حَدَثانُ الدَّهْرِ والأبَدِ ( ﴿وسَيَحْلِفُونَ﴾ ) أيِ: المُتَخَلِّفُونَ عَنِ الغَزْوِ ( ﴿بِاللَّهِ﴾ ) مُتَعَلِّقٌ بِسَيَحْلِفُونَ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مِن جُمْلَةِ كَلامِهِمْ ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ القَوْلِ في الوَجْهَيْنِ أيْ سَيَحْلِفُونَ عِنْدَ رُجُوعِكَ مِن غَزْوَةِ تَبُوكَ بِاللَّهِ قائِلِينَ ﴿لَوِ اسْتَطَعْنا﴾ أوْ سَيَحْلِفُونَ قائِلِينَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا إلَخْ، وقِيلَ: لا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ القَوْلِ لِأنَّ الحَلِفَ مِن جِنْسِ القَوْلِ وهو أحَدُ المَذْهَبَيْنِ المَشْهُورَيْنِ، والمَعْنى لَوْ كانَ لَنا اسْتِطاعَةٌ مِن جِهَةِ العُدَّةِ أوْ مِن جِهَةِ الصِّحَّةِ أوْ مِن جِهَتَيْهِما مَعًا حَسْبَما عَنَّ لَهم مِنَ التَّعَلُّلِ والكَذِبِ ﴿لَخَرَجْنا مَعَكُمْ﴾ لِما دَعَوْتُمُونا إلَيْهِ وهَذا جَوابُ القَسَمِ وجَوابُ لَوْ مَحْذُوفٌ عَلى قاعِدَةِ اجْتِماعِ القَسَمِ والشَّرْطِ إذا تَقَدَّمَ القَسَمُ وهو اخْتِيارُ ابْنِ عُصْفُورٍ، واخْتارَ ابْنُ مالِكٍ أنَّهُ جَوابُ ( لَوْ ) ولَوْ وجَوابُها جَوابُ القَسَمِ، وقِيلَ: إنَّهُ سادَ مَسَدَّ جَوابَيِ القَسَمِ والشَّرْطِ جَمِيعًا، والقَسَمُ عَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ ظاهِرٌ وأمّا عَلى الثّانِي فَلِأنَّ ﴿لَوِ اسْتَطَعْنا﴾ في قُوَّةٍ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لِأنَّهُ بَيانٌ لِسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ وتَصْدِيقٌ لَهُ كَما قِيلَ. واعْتُرِضَ القَوْلُ الأخِيرُ بِأنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أحَدٌ مِن أهْلِ العَرَبِيَّةِ، وأُجِيبُ بِأنَّ مُرادَ القائِلِ أنَّهُ لَمّا حُذِفَ جَوابُ ( لَوْ ) دَلَّ عَلَيْهِ جَوابُ القَسَمِ جُعِلَ كَأنَّهُ سادَ مَسَدَّ الجَوابَيْنِ، وقَرَأ الحَسَنُ، والأعْمَشُ ( لَوُ اسْتَطَعْنا ) بِضَمِّ الواوِ تَشْبِيهًا لَها بِواوِ الجَمْعِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَمَنَّوُا المَوْتَ﴾ و﴿اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ﴾ وقُرِئَ بِالفَتْحِ أيْضًا ﴿يُهْلِكُونَ أنْفُسَهُمْ﴾ بِإيقاعِها في العَذابِ، قِيلَ: وهو بَدَلٌ مِن ( سَيَحْلِفُونَ ) واعْتُرِضَ بِأنَّ الهَلاكَ لَيْسَ مُرادِفًا لِلْحَلِفِ ولا هو نَوْعٌ مِنهُ، ولا يَجُوزُ أنْ يُبْدَلَ فِعْلٌ مِن فِعْلٍ إلّا أنْ يَكُونَ مُرادِفًا لَهُ أوْ نَوْعًا مِنهُ. وأُجِيبُ بِأنَّ الحَلِفَ الكاذِبَ إهْلاكٌ لِلنَّفْسِ ولِذَلِكَ قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «اليَمِينُ الفاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيارَ بَلاقِعَ» وحاصِلُهُ أنَّهُما تُرادَفانِ ادِّعاءً فَيَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ، وقِيلَ إنَّهُ بَدَلُ اشْتِمالٍ إذِ الحَلِفُ سَبَبٌ لِلْهَلاكِ والمُسَبَّبُ يُبْدَلُ مِنَ السَّبَبِ لِاشْتِمالِهِ عَلَيْهِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مِن فاعِلِهِ أيْ سَيَحْلِفُونَ مُهْلِكِينَ أنْفُسَهم، وأنْ يَكُونَ حالًا مِن فاعِلِ ( ﴿لَخَرَجْنا﴾ ) جِيءَ بِهِ عَلى طَرِيقَةِ الإخْبارِ عَنْهم كَأنَّهُ قِيلَ: نُهْلِكُ أنْفُسَنا أيْ لَخَرَجْنا مُهْلِكِينَ أنْفُسَنا كَما في قَوْلِكَ: حَلَفَ لِيَفْعَلَنَّ مَكانَ لَأفْعَلَنَّ ولَكِنْ فِيهِ بُعْدٌ، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ الِاسْتِئْنافَ ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ في مَضْمُونِ الشَّرْطِيَّةِ وفِيما ادَّعَوْا ضِمْنًا مِنِ انْتِفاءِ تَحَقُّقِ المُقَدَّمِ حَيْثُ كانُوا مُسْتَطِيعِينَ لِلْخُرُوجِ ولَمْ يَخْرُجُوا. واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ القُدْرَةَ قَبْلَ الفِعْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب