الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ حالِ الأحْبارِ والرُّهْبانِ في إغْوائِهِمْ لِأراذِلِهِمْ إثْرَ بَيانِ سُوءِ حالِ الأتْباعِ في اتِّخاذِهِمْ لَهم أرْبابًا، وفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ حَتّى لا يَحُومُوا حَوْلَ ذَلِكَ الحِمى ولِذا وجَّهَ الخِطابَ إلَيْهِمْ ﴿إنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ﴾ يَأْخُذُونَها بِالِارْتِشاءِ لِتَغْيِيرِ الأحْكامِ والشَّرائِعِ والتَّخْفِيفِ والمُسامَحَةِ فِيها، والتَّعْبِيرُ عَنِ الأخْذِ بِالأكْلِ مَجازٌ مُرْسَلٌ والعَلاقَةُ العِلِّيَّةُ والمُعْلَوْلِيَةُ أوِ اللّازِمِيَّةُ والمَلْزُومِيَّةُ فَإنَّ الأكْلَ مَلْزُومٌ لِلْأخْذِ كَما قِيلَ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأمْوالِ الأطْعِمَةَ الَّتِي تُؤْكَلُ بِها مَجازًا مُرْسَلًا ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ: ؎يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكافًا فَإنَّهُ يُرِيدُ عَلَفًا يُشْتَرى بِثَمَنِ إكافٍ، واخْتارَ هَذا العَلّامَةُ الطِّيبِيُّ وهو أحَدُ وجْهَيْنِ ذَكَرَهُما الزَّمَخْشَرِيُّ، وثانِيهِما أنْ يُسْتَعارَ الأكْلُ لِلْأخْذِ وذَلِكَ عَلى ما قَرَّرَهُ العَلّامَةُ أنْ يُشَبِّهَ حالَةَ أخْذِهِمْ أمْوالَ النّاسِ مِن غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ وتَفْرِقَةٍ بَيْنَ الحَلالِ والحَرامِ لِلتَّهالُكِ عَلى جَمْعِ حُطامِها بِحالَةِ مُنْهَمِكٍ جائِعٍ لا يُمَيِّزُ بَيْنَ طَعامٍ وطَعامٍ في التَّناوُلِ، ثُمَّ ادَّعى أنَّهُ لا طائِلَ تَحْتَ هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ وأنَّ اسْتِشْهادَهُ بِأخْذِ الطَّعامِ وتَناوُلِهِ سَمِجٌ، وأُجِيبُ بِأنَّ الِاسْتِشْهادَ بِهِ عَلى أنَّ بَيْنَ الأخْذِ والتَّناوُلِ شَبَهًا وإلّا فَذاكَ عَكْسُ المَقْصُودِ، وفائِدَةُ الِاسْتِعارَةِ المُبالَغَةُ في أنَّهُ أُخِذَ بِالباطِلِ لِأنَّ الأكْلَ غايَةُ الِاسْتِيلاءِ عَلى الشَّيْءِ ويَصِيرُ قَوْلُهُ تَعالى: ( ﴿بِالباطِلِ﴾ ) عَلى هَذا زِيادَةَ مُبالَغَةٍ ولا كَذَلِكَ لَوْ قِيلَ يَأْخُذُونَ ( ﴿ويَصُدُّونَ﴾ ) النّاسَ (p-87)﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيْ: دِينِ الإسْلامِ أوْ عَنِ المَسْلَكِ المُقَرَّرِ في كُتُبِهِمْ إلى ما افْتَرَوْهُ وحَرَّفُوهُ بِأخْذِ الرِّشا. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ( يَصُدُّونَ ) مِنَ الصُّدُودِ عَلى مَعْنى أنَّهم يُعْرِضُونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَيُحَرِّفُونَ ويَفْتَرُونَ بِأكْلِهِمْ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾ أيْ يَجْمَعُونَهُما ومِنهُ: ناقَةٌ كِنازُ اللَّحْمِ أيْ مُجْتَمِعَتُهُ، ولا يُشْتَرَطُ في الكَنْزِ الدَّفْنُ بَلْ يَكْفِي مُطْلَقُ الجَمْعِ والحِفْظِ، والمُرادُ مِنَ المَوْصُولِ إمّا الكَثِيرُ مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ لِأنَّ الكَلامَ في ذَمِّهِمْ ويَكُونُ ذَلِكَ مُبالَغَةً فِيهِ حَيْثُ وُصِفُوا بِالحِرْصِ بَعْدَ وصْفِهِمْ بِما سَبَقَ مِن أخْذِ البَرَطِيلِ في الأباطِيلِ وإمّا المُسْلِمُونَ لِجَرْيِ ذِكْرِهِمْ أيْضًا وهو الأنْسَبُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لِأنَّهُ يُشْعِرُ بِأنَّهم مِمَّنْ يُنْفِقُ في سَبِيلِهِ سُبْحانَهُ لِأنَّهُ المُتَبادَرُ مِنَ النَّفْيِ عُرْفًا فَيَكُونُ نَظْمُهم في قَرْنِ المُرْتَشِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ تَغْلِيظًا ودَلالَةً عَلى كَوْنِهِمْ أُسْوَةً لَهم في اسْتِحْقاقِ البِشارَةِ بِالعَذابِ، واخْتارَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ حَمْلَهُ عَلى العُمُومِ ويَدْخُلُ فِيهِ الأحْبارُ والرُّهْبانُ دُخُولًا أوَّلِيًّا، وفَسَّرَ غَيْرُ واحِدٍ الإنْفاقَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِالزَّكاةِ لِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كَبُرَ ذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: أنا أُفَرِّجُ عَنْكم فانْطَلَقَ فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهُ كَبُرَ عَلى أصْحابِكَ هَذِهِ الآيَةُ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَفْرِضِ الزَّكاةَ إلّا لِيُطَيِّبَ ما بَقِيَ مِن أمْوالِكم» . وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ، وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: ”قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما أُدِّيَ زَكاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»“ أيْ بِكَنْزٍ أُوعَدُ عَلَيْهِ فَإنَّ الوَعِيدَ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الإنْفاقِ فِيما أمَرَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُنْفَقَ فِيهِ، ولا يُعارِضَ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «مَن تَرَكَ صَفْراءَ أوْ بَيْضاءَ كُوِيَ بِها» لِأنَّ المُرادَ بِذَلِكَ ما لَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ كَما يُرْشِدُ إلَيْهِ ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «ما مِن صاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنها حَقَّها إلّا إذا كانَ يَوْمَ القِيامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفائِحُ مِن نارٍ فَيُكْوى بِها جَنْبُهُ وجَبِينُهُ» وقِيلَ: إنَّهُ كانَ قَبْلَ أنْ تُفْرَضَ الزَّكاةُ وعَلَيْهِ حُمِلَ ما رَواهُ الطَّبَرانِيُّ عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِن أهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ في مِئْزَرِهِ دِينارٌ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ كَيَّةٌ، ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ فَوُجِدَ في مِئْزَرِهِ دِينارانِ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَيَّتانِ»، وقِيلَ: بَلْ هَذا لِأنَّ الرَّجُلَيْنِ أظْهَرا الفَقْرَ ومَزِيدَ الحاجَةِ بِانْتِظامِهِما في سَلَكِ أهْلِ الصُّفَّةِ الَّذِينَ هم بِتِلْكَ الصِّفَةِ مَعَ أنَّ عِنْدَهُما ما عِنْدَهُما فَكانَ جَزاؤُهُما الكَيَّةَ والكَيَّتَيْنِ لِذَلِكَ، وأخَذَ بِظاهِرِ الآيَةِ فَأوْجَبَ إنْفاقَ جَمِيعِ المالِ الفاضِلِ عَنِ الحاجَةِ أبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وجَرى بَيْنَهُ لِذَلِكَ وبَيْنَ مُعاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الشّامِ ما شَكاهُ لَهُ إلى عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في المَدِينَةِ فاسْتَدْعاهُ إلَيْها فَرَآهُ مُصِرًّا عَلى ذَلِكَ حَتّى إنَّ كَعْبَ الأحْبارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ لَهُ: يا أبا ذَرٍّ إنَّ المِلَّةَ الحَنِيفِيَّةَ أسْهَلُ المِلَلِ وأعْدَلُها، وحَيْثُ لَمْ يَجِبْ إنْفاقُ كُلِّ المالِ في المِلَّةِ اليَهُودِيَّةِ وهي أضْيَقُ المِلَلِ وأشَدُّها كَيْفَ يَجِبُ فِيها، فَغَضِبَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وكانَتْ فِيهِ حِدَّةٌ وهي الَّتِي دَعَتْهُ إلى تَعْيِيرِ بِلالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأُمِّهِ وشِكايَتِهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وقَوْلُهُ فِيهِ: «إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِلِيَّةٌ» فَرَفَعَ عَصاهُ لِيَضْرِبَهُ وقالَ لَهُ: يا يَهُودِيُّ ما ذاكَ مِن هَذِهِ المَسائِلِ، فَهَرَبَ كَعْبٌ فَتَبِعَهُ حَتّى اسْتَعاذَ بِظَهْرِ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَلَمْ يَرْجِعْ حَتّى ضَرَبَهُ، وفي رِوايَةٍ أنَّ الضَّرْبَةَ وقَعَتْ عَلى عُثْمانَ، وكَثُرَ المُعْتَرِضُونَ عَلى أبِي ذَرٍّ في دَعْواهُ تِلْكَ، وكانَ النّاسُ يَقْرَءُونَ لَهُ آيَةَ المَوارِيثِ ويَقُولُونَ: لَوْ وجَبَ إنْفاقُ كُلِّ المالِ لَمْ يَكُنْ لِلْآيَةِ وجْهٌ، وكانُوا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مُزْدَحِمِينَ حَيْثُ حَلَّ مُسْتَغْرِبِينَ مِنهُ ذَلِكَ فاخْتارَ العُزْلَةَ فاسْتَشارَ عُثْمانَ فِيها فَأشارَ إلَيْهِ بِالذَّهابِ إلى الرَّبَذَةِ فَسَكَنَ فِيها حَسْبَما (p-88)تُرِيدُ، وهَذا ما يُعَوَّلُ عَلَيْهِ في هَذِهِ القِصَّةِ، ورَواها الشِّيعَةُ عَلى وجْهٍ جَعَلُوهُ مِن مُطاعِنِ ذِي النُّورَيْنِ وغَرَضُهم بِذَلِكَ إطْفاءُ نُورِهِ ويَأْبى اللَّهُ إلّا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ خَبَرُ المَوْصُولِ، والفاءُ لِما مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المَوْصُولُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ( فَبَشِّرْهم ) والتَّعْبِيرُ بِالبِشارَةِ لِلتَّهَكُّمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب