الباحث القرآني

﴿وقالَتِ اليَهُودُ﴾ اسْتِئْنافٌ سِيقَ لِتَقْرِيرِ ما مَرَّ مِن عَدَمِ إيمانِ أهْلِ الكِتابَيْنِ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ وانْتِظامِهِمْ بِذَلِكَ في المُشْرِكِينَ، والقائِلُ ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ مُتَقَدِّمُو اليَهُودِ، ونِسْبَةُ الشَّيْءِ القَبِيحِ إذا صَدَرَ مِن بَعْضِ القَوْمِ إلى الكُلِّ مِمّا شاعَ، وسَبَبُ ذَلِكَ عَلى ما أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ عُزَيْرًا كانَ في أهْلِ الكِتابِ، وكانَتِ التَّوْراةُ عِنْدَهم يَعْمَلُونَ بِها ما شاءَ اللَّهُ تَعالى أنْ يَعْمَلُوا، ثُمَّ أضاعُوها، وعَمِلُوا بِغَيْرِ الحَقِّ، وكانَ التّابُوتُ عِنْدَهم، فَلَمّا رَأى اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّهم قَدْ أضاعُوا التَّوْراةَ وعَمِلُوا بِالأهْواءِ رَفَعَ عَنْهُمُ التّابُوتُ وأنْساهُمُ التَّوْراةَ ونَسَخَها مِن صُدُورِهِمْ، فَدَعا عُزَيْرٌ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ (p-81)وابْتَهَلَ أنْ يَرُدَّ إلَيْهِ ما نُسِخَ مِن صَدْرِهِ، فَبَيْنَما هو يُصَلِّي مُبْتَهِلًا إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ نَزَلَ نُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَدَخَلَ جَوْفَهُ فَعادَ الَّذِي كانَ ذَهَبَ مِن جَوْفِهِ مِنَ التَّوْراةِ، فَأذَّنَ في قَوْمِهِ فَقالَ: يا قَوْمِ قَدْ آتانِي اللَّهُ تَعالى التَّوْراةَ ورَدَّها إلَيَّ فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُمْ، فَمَكَثُوا ما شاءَ اللَّهُ تَعالى أنْ يَمْكُثُوا وهو يُعَلِّمُهم، ثُمَّ إنَّ التّابُوتَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَهابِهِ مِنهُمْ، فَعَرَضُوا ما كانَ فِيهِ عَلى الَّذِي كانَ عُزَيْرٌ يُعَلِّمُهم فَوَجَدُوهُ مِثْلَهُ فَقالُوا: واللَّهِ ما أُوتِيَ عُزَيْرٌ هَذا إلّا لِأنَّهُ ابْنُ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وقالَ الكَلْبِيُّ في سَبَبِ ذَلِكَ: إنَّ بُخْتُنَصَّرَ غَزا بَيْتَ المَقْدِسِ وظَهَرَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ وقَتَلَ مَن قَرَأ التَّوْراةَ، وكانَ عُزَيْرٌ إذْ ذاكَ صَغِيرًا فَلَمْ يَقْتُلْهُ لِصِغَرِهِ، فَلَمّا رَجَعَ بَنُو إسْرائِيلَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ ولَيْسَ فِيهِمْ مَن يَقْرَأُ التَّوْراةَ بَعَثَ اللَّهُ تَعالى عُزَيْرًا لِيُجَدِّدَ لَهُمُ التَّوْراةَ ولِيَكُونَ آيَةً لَهم بَعْدَ ما أماتَهُ اللَّهُ تَعالى مِائَةَ سَنَةٍ، فَأتاهُ مَلَكٌ بِإناءٍ فِيهِ ماءٌ فَشَرِبَ مِنهُ فَمَثُلَتْ لَهُ التَّوْراةُ في صَدْرِهِ، فَلَمّا أتاهم قالَ: أنا عُزَيْرٌ فَكَذَّبُوهُ وقالُوا: إنْ كُنْتَ كَما تَزْعُمُ فَأمْلِ عَلَيْنا التَّوْراةَ فَكَتَبَها لَهم مِن صَدْرِهِ، فَقالَ رَجُلٌ مِنهم: إنَّ أبِي حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّي أنَّهُ وُضِعَتِ التَّوْراةُ في خابِيَةٍ ودُفِنَتْ في كَرْمٍ فانْطَلَقُوا مَعَهُ حَتّى أخْرَجُوها فَعارَضُوها بِما كَتَبَ لَهم عُزَيْرٌ فَلَمْ يَجِدُوهُ غادَرَ حَرْفًا، فَقالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَقْذِفِ التَّوْراةَ في قَلْبِ عُزَيْرٍ إلّا لِأنَّهُ ابْنُهُ تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، ورُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ، ومَرْجِعُ الرِّواياتِ إلى أنَّ السَّبَبَ حِفْظُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلتَّوْراةِ، وقِيلَ: قائِلُ ذَلِكَ جَماعَةٌ مِن يَهُودِ المَدِينَةِ مِنهم سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، ونُعْمانُ بْنُ أبِي أوْفى، وشاسُ بْنُ قَيْسٍ، ومالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهم أتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالُوا: كَيْفَ نَتْبَعُكَ وقَدْ تَرَكْتَ قُبْلَتَنا وأنْتَ لا تَزْعُمُ أنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ؟ . وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّ قائِلَ ذَلِكَ فِنْحاصُ بْنُ عازُوراءَ وهو عَلى ما جاءَ في بَعْضِ الرِّواياتِ القائِلُ: ﴿إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءُ﴾ . وبِالجُمْلَةِ إنَّ هَذا القَوْلَ كانَ شائِعًا فِيهِمْ ولا عِبْرَةَ بِإنْكارِهِمْ لَهُ أصْلًا ولا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ الواقِعَ قَوْلُنا عُزَيْرُ أبانَ اللَّهُ أيْ أوْضَحَ أحْكامَهَ وبَيَّنَ دِينَهُ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ بَعْدَ أنْ أخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِما أخْبَرَ، وقَرَأ عاصِمٌ، والكِسائِيُّ، ويَعْقُوبُ، وسَهْلٌ ( عُزَيْرٌ ) بِالتَّنْوِينِ والباقُونَ بِتَرْكِهِ، أمّا التَّنْوِينُ فَعَلى أنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِابْنٍ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: إنَّهُ أعْجَمِيٌّ لَكِنَّهُ صُرِفَ لِخِفَّتِهِ بِالتَّصْغِيرِ كَنُوحٍ ولُوطٍ وإلى هَذا ذَهَبَ الصَّغانِيُّ. وهُوَ مُصَغَّرُ عَزارَ تَصْغِيرُ تَرْخِيمٍ، والقَوْلُ بِأنَّهُ أعْجَمِيٌّ جاءَ عَلى هَيْئَةِ المُصَغَّرِ ولَيْسَ بِهِ، فِيهِ نَظَرٌ، وأمّا حَذْفُ التَّنْوِينِ فَقِيلَ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ فَإنَّ نُونَ التَّنْوِينِ ساكِنَةٌ والباءُ في ابْنِ ساكِنَةٌ أيْضًا فالتَقى السّاكِنانِ فَحُذِفَتِ النُّونُ لَهُ كَما يُحْذَفُ حُرُوفُ العِلَّةِ لِذَلِكَ، وهو مَبْنِيٌّ عَلى تَشْبِيهِ النُّونِ بِحَرْفِ اللِّينِ وإلّا فَكانَ القِياسُ تَحْرِيكُها، وهو مُبْتَدَأٌ وابْنٌ خَبَرُهُ أيْضًا ولِذا رُسِمَ في جَمِيعِ المَصاحِفِ بِالألِفِ؛ وقِيلَ: لِأنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، وقِيلَ: لِأنَّ الِابْنَ وصْفٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ مِثْلَ مَعْبُودِنا، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ تَمَحَّلَ عَنْهُ مَندُوحَةٌ ورَدَّهُ الشَّيْخُ في دَلائِلِ الإعْجازِ بِأنَّ الِاسْمَ إذا وُصِفَ بِصِفَةٍ ثُمَّ أُخْبِرَ عَنْهُ فَمَن كَذَّبَهُ انْصَرَفَ تَكْذِيبُهُ إلى الخَبَرِ وصارَ ذَلِكَ الوَصْفُ مُسَلَّمًا، فَلَوْ كانَ المَقْصُودُ بِالإنْكارِ قَوْلَهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مَعْبُودِنا لَتَوَجَّهَ الإنْكارُ إلى كَوْنِهِ مَعْبُودًا لَهم وحَصَلَ تَسْلِيمُ كَوْنِهِ ابْنًا لِلَّهِ سُبْحانَهُ وذَلِكَ كُفْرٌ، واعْتَرَضَ عَلَيْهِ الإمامُ قائِلًا: إنَّ قَوْلَهُ يَتَوَجَّهُ الإنْكارُ إلى الخَبَرِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ: يَكُونُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا لِلْوَصْفِ مَمْنُوعٌ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ مُكَذِّبًا لِذَلِكَ الخَبَرِ كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِذَلِكَ (p-82)الوَصْفِ إلّا أنْ يُقالَ: ذَلِكَ بِالخَبَرُ يَدُلُّ عَلى أنَّ ما سِواهُ لا يُكَذِّبُهُ وهو مَبْنِيٌّ عَلى دَلِيلِ الخِطابِ وهو ضَعِيفٌ، وأجابَ بَعْضُهم بِأنَّ الوَصْفَ لِلْعِلِّيَّةِ، فَإنْكارُ الحُكْمِ يَتَضَمَّنُ إنْكارَ عِلَّتِهِ، وفِيهِ أنَّ إنْكارَ الحُكْمِ قَدْ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ بِواسِطَةِ عَدَمِ الإفْضاءِ لا لِأنَّ الوَصْفَ كالأبْنِيَةِ مَثَلًا مُنْتَفٍ. وفِي الإيضاحِ أنَّ القَوْلَ بِمَعْنى الوَصْفِ وأرادَ أنَّهُ يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ الخَبَرِ كَما أنَّ أحَدًا إذا قالَ مُقالَةً يُنْكِرُ مِنها البَعْضَ فَحَكَيْتَ مِنها المُنْكَرَ فَقَطْ، وهو كَما في ”الكَشْفِ“ وجْهٌ حَسَنٌ في رَفْعِ التَّمَحُّلِ لَكِنَّهُ خِلافَ الظّاهِرِ كَما يَشْهَدُ لَهُ آخِرُ الآيَةِ، وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ صاحِبُنا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مَثَلًا، والخَبَرُ إذا وُصِفَ تَوَجَّهَ الإنْكارُ إلى وصْفِهِ نَحْوَ هَذا الرَّجُلِ العاقِلِ وهَذا مُوافِقٌ لِلْبَلاغَةِ وجارٍ عَلى وفْقِ العَرَبِيَّةِ مِن غَيْرِ تَكَلُّفٍ ولا غُبارٍ، ولَمْ يَظْهَرْ لِي وجْهُ تَرْكِهِ مَعَ ظُهُورِهِ، والظّاهِرُ أنَّ التَّرْكِيبَ خَبَرٌ ولا حَذْفَ هُناكَ، واخْتُلِفَ في عُزَيْرٍ هَلْ هو نَبِيٌّ أمْ لا؟ والأكْثَرُونَ عَلى الثّانِي ﴿وقالَتِ النَّصارى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ هو أيْضًا قَوْلُ بَعْضِهِمْ، ولَعَلَّهم إنَّما قالُوهُ لِاسْتِحالَةِ أنْ يَكُونَ ولَدٌ مِن غَيْرِ أبٍ أوْ لِأنَّهم رَأوْا مِن أفْعالِهِ ما رَأوْا. ويُحْتَمَلُ وهو الظّاهِرُ عِنْدِي أنَّهم وجَدُوا إطْلاقَ الِابْنِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وكَذا إطْلاقُ الأبِ عَلى اللَّهِ تَعالى فِيما عِنْدَهم مِنَ الإنْجِيلِ فَقالُوا ما قالُوا وأخْطَأُوا في فَهْمِ المُرادِ مِن ذَلِكَ، وقَدْ قَدَّمْنا مِنَ الكَلامِ ما فِيهِ كِفايَةٌ في هَذا المَقامِ. ومِنَ الغَرِيبِ ولا يَكادُ يَصِحُّ ما قِيلَ: إنَّ السَّبَبَ في قَوْلِهِمْ هَذا أنَّهم كانُوا عَلى الدِّينِ الحَقِّ بَعْدَ رَفْعِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ إحْدى وثَمانِينَ سَنَةً يَصِلُونَ ويَصُومُونَ ويُوَحِّدُونَ حَتّى وقَعَ بَيْنَهم وبَيْنَ اليَهُودِ حَرْبٌ وكانَ في اليَهُودِ رَجُلٌ شُجاعٌ يُقالُ لَهُ بُولَصَ قَتَلَ جَماعَةً مِنهم ثُمَّ قالَ لِلْيَهُودِ: إنْ كانَ الحَقُّ مَعَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَدْ كَفَرْنا والنّارُ مَصِيرُنا ونَحْنُ مَغْبُونُونَ أنْ دَخْلَنا النّارَ ودَخَلُوا الجَنَّةَ وإنِّي سَأحْتالُ عَلَيْهِمْ وأُضِلُّهم حَتّى يَدْخُلُوا النّارَ مَعَنا، ثُمَّ إنَّهُ عَمَدَ إلى فَرَسٍ يُقاتِلُ عَلَيْهِ فَعَقَرَهُ وأظْهَرَ النَّدامَةَ والتَّوْبَةَ ووَضَعَ التُّرابَ عَلى رَأْسِهِ وأتى النَّصارى فَقالُوا لَهُ مَن أنْتَ؟ فَقالَ عَدُوُّكم بُولَصُ قَدْ نُودِيَتْ مِنَ السَّماءِ أنَّهُ لَيْسَتْ لَكَ تَوْبَةٌ حَتّى تَتَنَصَّرَ وقَدْ تُبْتُ وأتَيْتُكم فَأدْخَلُوهُ الكَنِيسَةَ ونَصَرُوهُ ودَخَلَ بَيْتًا فِيها فَلَمْ يَخْرُجْ مِنهُ سَنَةً حَتّى تَعَلَّمَ الإنْجِيلَ ثُمَّ خَرَجَ وقالَ: قَدْ نُودِيَتْ إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ قَبِلَ تَوْبَتَكَ فَصَدَقُوهُ وأحَبُّوهُ وعَلا شَأْنُهُ فِيهِمْ، ثُمَّ إنَّهُ عَمَدَ إلى ثَلاثَةِ رِجالٍ مِنهم نُسْطُورٌ، ويَعْقُوبُ، ومَلْكا فَعَلِمَ نُسْطُورٌ أنَّ الإلَهَ ثَلاثَةٌ، اللَّهُ، وعِيسى، ومَرْيَمُ تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وعَلِمَ يَعْقُوبُ أنَّ عِيسى لَيْسَ بِإنْسانٍ ولَكِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وعَلِمَ مَلْكا أنَّ عِيسى هو اللَّهُ تَعالى لَمْ يَزَلْ ولا يَزالُ فَلَمّا اسْتَمْكَنَ ذَلِكَ مِنهم دَعا كُلَّ واحِدٍ مِنهم في الخَلْوَةِ وقالَ لَهُ: أنْتَ خالِصَتِي فادْعُ النّاسَ إلى ما عَلَّمْتُكَ، وأمَرَهُ أنْ يَذْهَبَ إلى ناحِيَةٍ مِنَ البِلادِ، ثُمَّ قالَ لَهم: إنِّي رَأيْتُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ في المَنامِ، وقَدْ رَضِيَ عَنِّي وأنا ذابِحٌ نَفْسِي تَقَرُّبًا إلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ إلى المَذْبَحِ فَذَبَحَ نَفْسَهُ، وتَفَرَّقَ أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ فَذَهَبَ واحِدٌ مِنهم إلى الرُّومِ، وواحِدٌ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، والآخَرُ إلى ناحِيَةٍ أُخْرى، وأظْهَرَ كُلَّ مَقالَتِهِ ودَعا النّاسَ إلَيْها فَتَبِعَهُ مَن تَبِعَهُ وكانَ ما كانَ مِنَ الِاخْتِلالِ والضَّلالِ ( ذَلِكَ ) أيْ: ما صَدَرَ عَنْهم مِنَ العَظِيمَتَيْنِ ﴿قَوْلُهم بِأفْواهِهِمْ﴾ أيْ أنَّهُ قَوْلٌ لا يُعَضِّدُهُ بُرْهانٌ مُماثِلٌ لِلْألْفاظِ المُهْمَلَةِ الَّتِي لا وُجُودَ لَها إلّا في الأفْواهِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لَها مِصْداقٌ في الخارِجِ، وقِيلَ: هو تَأْكِيدٌ لِنِسْبَةِ القَوْلِ المَذْكُورِ إلَيْهِمْ ونَفْيِ التَّجَوُّزِ عَنْها وهو الشّائِعُ في مِثْلِ ذَلِكَ، وقِيلَ: أُرِيدَ بِالقَوْلِ الرَّأْيُ والمَذْهَبُ، وذَكَرَ الأفْواهَ إمّا لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ لا أثَرَ لَهُ في قُلُوبِهِمْ وإنَّما يَتَكَلَّمُونَ بِهِ جَهْلًا وعِنادًا وإمّا لِلْإشْعارِ بِأنَّهُ مُخْتارٌ لَهم غَيْرُ مُتَحاشِينَ عَنِ التَّصْرِيحِ (p-83)بِهِ، فَإنَّ الإنْسانَ رُبَّما يُنَبِّهُ عَلى مَذْهَبِهِ بِالكِتابَةِ أوْ بِالكِنايَةِ مَثَلًا، فَإذا صَرَّحَ بِهِ وذَكَرَهُ بِلِسانِهِ كانَ ذَلِكَ الغايَةَ في اخْتِيارِهِ، وادَّعى غَيْرُ واحِدٍ أنَّ جَعْلَ ذَلِكَ مِن بابِ التَّأْكِيدِ كَما في قَوْلِكَ: رَأيْتُهُ بِعَيْنِي وسَمِعْتُهُ بِأُذُنِي مَثَلًا مِمّا يَأْباهُ المَقامُ، ولَوْ كانَ المُرادُ بِهِ التَّأْكِيدَ مَعَ التَّعْجِيبِ مِن تَصْرِيحِهِمْ بِتِلْكَ المَقالَةِ الفاسِدَةِ لا يُنافِيهِ المَقامُ ولا تَزاحُمَ في النِّكاتِ ( ﴿يُضاهِئُونَ﴾ ) أيْ يُضاهِي قَوْلَهم في الكُفْرِ والشَّناعَةِ ﴿قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ وصُيِّرَ مَرْفُوعًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ التَّجَوُّزِ كَما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ لا يَهْدِيهِمْ في كَيْدِهِمْ، فالمُرادُ يُضاهِئُونَ في قَوْلِهِمْ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( مِن قَبْلُ ) أيْ: مِن قَبْلِهِمْ وهم كَما رُوِيَ عَنِابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وقَتادَةَ واخْتارَهُ الفَرّاءُ المُشْرِكُونَ الَّذِينَ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَقُولُونَ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِمْ قُدَماؤُهُمْ، فالمُضاهى مَن كانَ في زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنهم لِقُدَمائِهِمْ وأسْلافِهِمْ، والمُرادُ الإخْبارُ بِعَراقَتِهِمْ في الكُفْرِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا تَعَدُّدَ في القَوْلِ حَتّى يَتَأتّى التَّشْبِيهُ، وجَعَلَهُ بَيْنَ قَوْلَيِ الفَرِيقَيْنِ لَيْسَ فِيهِ مَزِيدُ مَزِيَّةٍ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِمُ اليَهُودُ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّصارى، ولا يَخْفى أنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ وإنْ أخْرَجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ، وغَيْرُهُ عَنْ قَتادَةَ مَعَ أنَّ مُضاهاتَهم قَدْ عُلِمَتْ مِن صَدْرِ الآيَةِ، ويَسْتَدْعِي أيْضًا اخْتِصاصَ الرَّدِّ والإبْطالِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ قَوْلُهم بِأفْواهِهِمْ﴾ بِقَوْلِ النَّصارى، وقَرَأ الأكْثَرُ ( يُضاهُونَ ) بِهاءٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَها واوٌ، وقَدْ جاءَ ضاهَيْتُ وضاهَأْتُ بِمَعْنى مِنَ المُضاهاةِ وهي المُشابَهَةُ وبِذَلِكَ فَسَّرَها ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وعَنِ الحَسَنِ تَفْسِيرُها بِالمُوافَقَةِ وهُما لُغَتانِ، وقِيلَ: الياءُ فَرْعٌ عَنِ الهَمْزَةِ كَما قالُوا فَرَيْتٌ وتَوَضَّيْتُ، وقِيلَ: الهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنَ الياءِ لِضَمِّها، ورُدَّ بِأنَّ الياءَ لا تَثْبُتُ في مِثْلِهِ حَتّى تُقْلَبَ بَلْ تُحْذَفُ كَرامُونَ مِنَ الرَّمْيِ، وقِيلَ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ: امْرَأةٌ ضَهْيا بِالقَصْرِ وهي الَّتِي لا ثَدْيَ لَها أوْ لا تَحِيضُ أوْ لا تَحْمِلُ لِمُشابَهَتِها الرِّجالَ، ويُقالُ: ضَهْياءُ بِالمَدِّ كَحَمْراءَ وضَهْياءَةُ بِالمَدِّ وتاءِ التَّأْنِيثِ، وشَذَّ فِيهِ الجَمْعُ بَيْنَ عَلامَتَيِ التَّأْنِيثِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ خَطَأٌ لِاخْتِلافِ المادَّتَيْنِ فَإنَّ الهَمْزَةَ في ضَهْياءَ عَلى لُغَتِها الثَّلاثِ زائِدَةٌ وفي المُضاهاةِ أصْلِيَّةٌ ولَمْ يَقُولُوا: إنَّ هَمْزَةَ ضَهْياءَ أصْلِيَّةٌ وياءَها زائِدَةٌ لِأنَّ فَعْيَلاءَ لَمْ يَثْبُتْ في أبْنِيَتِهِمْ، ولَمْ يَقُولُوا وزْنُها فَعْلَلَ كَجَعْفَرٍ لِأنَّهُ ثَبَتَ زِيادَةُ الهَمْزَةِ في ضَهْياءَ بِالمَدِّ فَتَتَعَيَّنُ في اللُّغَةِ الأُخْرى، وفي هَذا المَقامِ كَلامٌ مُفَصَّلٌ في مَحَلِّهِ، ومِنَ النّاسِ مَن جَوَّزَ الوَقْفَ عَلى ( ﴿قَوْلُهُمْ﴾ ) وجَعَلَ ( ﴿بِأفْواهِهِمْ﴾ ) مُتَعَلِّقًا بِيُضاهِئُونَ ولا تُوقَفُ في أنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وفي الجُمْلَةِ ذَمٌّ لِلَّذِينِ كَفَرُوا عَلى أبْلَغِ وجْهٍ وإنْ لَمْ تُسَقْ لِذَمِّهِمْ ﴿قاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ دُعاءٌ عَلَيْهِمْ بِالإهْلاكِ فَإنَّ مَن قاتَلَ اللَّهَ تَعالى فَمَقْتُولٌ ومَن غالَبَهُ فَمَغْلُوبٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المَعْنى لَعَنَهُمُ اللَّهُ وهو مَعْنًى مَجازِيٌّ لِقاتَلَهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذِهِ الكَلِمَةِ التَّعَجُّبَ مِن شَناعَةِ قَوْلِهِمْ فَقَدْ شاعَتْ في ذَلِكَ حَتّى صارَتْ تُسْتَعْمَلُ في المَدْحِ فَيُقالُ: قاتَلَهُ اللَّهُ تَعالى ما أفْصَحَهُ. وقِيلَ: هي لِلدُّعاءِ والتَّعَجُّبِ يُفْهَمُ مِنَ السِّياقِ لِأنَّها كَلِمَةٌ لا تُقالُ إلّا في مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ مِن شَناعَةِ فِعْلِ قَوْمٍ أوْ قَوْلِهِمْ ولا يَخْفى ما فِيهِ مَعَ أنَّ تَخْصِيصَها بِالشَّناعَةِ شَناعَةٌ أيْضًا ﴿أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ أيْ: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ إلى الباطِلِ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ وسُطُوعِ البُرْهانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب