الباحث القرآني

﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ﴾ أيْ سِيرُوا فِيها حَيْثُ شِئْتُمْ، وأصْلُ السِّياحَةِ جَرَيانُ الماءِ وانْبِساطُهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ في السَّيْرِ عَلى مُقْتَضى المَشِيئَةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎لَوْ خِفْتُ هَذا مِنكَ ما نِلْتَنِي حَتّى تَرى خَيْلًا أمامِي تَسِيحُ فَفِي هَذا الأمْرِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ التَّوْسِعَةِ والتَّرْفِيَةِ ما لَيْسَ في سِيرُوا ونَظائِرِهِ وزِيادَةُ ( ﴿فِي الأرْضِ﴾ ) زِيادَةٌ في التَّعْمِيمِ، والكَلامُ بِتَقْدِيرِ القَوْلِ أيْ: فَقُولُوا لَهم سِيحُوا، أوْ بِدُونِهِ وهو الِالتِفاتُ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، والمَقْصُودُ الإباحَةُ والإعْلامُ بِحُصُولِ الأمانِ مِنَ القَتْلِ والقِتالِ في المُدَّةِ المَضْرُوبَةِ، وذَلِكَ لِيَتَفَكَّرُوا ويَحْتاطُوا ويَسْتَعِدُّوا بِما شاءُوا، ويَعْلَمُوا أنْ لَيْسَ لَهم بَعْدُ إلّا الإسْلامُ أوِ السَّيْفُ، ولَعَلَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهم عَلى الإسْلامِ، ولِأنَّ المُسْلِمِينَ لَوْ قاتَلُوهم عُقَيْبَ إظْهارِ النَّقْضِ فَرُبَّما نُسِبُوا إلى الخِيانَةِ فَأُمْهِلُوا سَدًّا لِبابِ الظَّنِّ وإظْهارًا لِقُوَّةِ شَوْكَتِهِمْ وعَدَمِ اكْتِراثِهِمْ بِهِمْ وبِاسْتِعْدادِهِمْ، ولِلْمُبالَغَةِ في ذَلِكَ اخْتِيرَتْ صِيغَةُ الأمْرِ دُونَ فَلَكم أنْ تَسِيحُوا، والفاءُ لِتَرْتِيبِ الأمْرِ بِالسِّياحَةِ وما يَعْقُبُهُ عَلى ما يُؤْذَنُ بِهِ البَراءَةُ المَذْكُورَةُ مِنَ الحَرْبِ عَلى أنَّ الأوَّلَ مُتَرَتِّبٌ عَلى نَفْسِهِ لِلثّانِي بِكِلا مُتَعَلِّقَيْهِ عَلى عُنْوانِ كَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ جَلَّ شَأْنُهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: هَذِهِ بَراءَةٌ مُوجِبَةٌ لِقِتالِكم فاسْعَوْا في تَحْصِيلِ ما يُنْجِيكم وإعْدادِ ما يُجْدِيكم ( ﴿أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ ) وهي شَوّالُ وذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ لِأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في الشَّهْرِ الأوَّلِ، وقِيلَ: إنَّها وإنْ نَزَلَتْ فِيهِ إلّا أنَّ قِراءَتَها عَلى الكُفّارِ وتَبْلِيغَها إلَيْهِمْ كانَ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ فابْتِداءُ المُدَّةِ عاشِرُ ذِي الحِجَّةِ إلى انْقِضاءِ عَشْرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ (p-44)أبِي عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ومُجاهِدٍ، ومُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ. وقِيلَ: ابْتِداءُ تِلْكَ المُدَّةِ يَوْمُ النَّحْرِ لِعَشْرٍ مِن ذِي القِعْدَةِ إلى انْقِضاءِ عَشْرٍ مِن شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلٍ، لِأنَّ الحَجَّ في تِلْكَ السَّنَةِ كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ بِسَبَبِ النَّسِيءِ الَّذِي كانَ فِيهِمْ ثُمَّ صارَ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ في ذِي الحِجَّةِ وهي حِجَّةُ الوَداعِ الَّتِي قالَ فِيها صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «ألا إنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ» وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الجُبّائِيُّ، واسْتَصْوَبَ بَعْضُ الأفاضِلِ الثّانِيَ وادُّعِيَ أنَّ الأكْثَرَ عَلَيْهِ، رُوِيَ مِن عِدَّةِ أخْبارٍ مُتَداخِلَةٍ بَعْضُها في الصَّحِيحَيْنِ«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عاهَدَ قُرَيْشًا عامَ الحُدَيْبِيَةِ عَلى أنْ يَضَعُوا الحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيها النّاسُ، ودَخَلَتْ خُزاعَةُ في عَهْدِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ في عَهْدِ قُرَيْشٍ ثُمَّ عَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلى خُزاعَةَ فَنالَتْ مِنها وأعانَتْهم قُرَيْشٌ بِالسِّلاحِ، فَلَمّا تَظاهَرَ بَنُو بَكْرٍ وقُرَيْشٌ عَلى خُزاعَةَ ونَقَضُوا عَهْدَهم خَرَجَ عَمْرٌو الخُزاعِيُّ حَتّى وقَفَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأنْشَدَ: ؎لاهُمَّ إنِّي ناشِدٌ مُحَمَّدا ∗∗∗ حِلْفَ أبِينا وأبِيهِ الأتْلَدا ؎قَدْ كُنْتُمْ ولَدًا وكُنّا والِدا ∗∗∗ ثَمَّتَ أسْلَمْنا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدا ؎فانْصُرْ رَسُولَ اللهِ نَصْرًا أعْتَدا ∗∗∗ وادْعُ عِبادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدا ؎فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدا ∗∗∗ إنْ سِيمَ خَسْفًا وجْهُهُ تَرَبَّدا ؎فِي فَيْلَقٍ كالبَحْرِ يَأْتِي مُزْبِدا ∗∗∗ إنَّ قُرَيْشًا أخْلَفُوكَ المَوْعِدا ؎ونَقَضُوا مِيثاقَكَ المُؤَكَّدا ∗∗∗ وجَعَلُوا لِي في كَداءَ رُصَّدا ؎وزَعَمُوا أنْ لَسْتُ أدْعُو أحَدًا ∗∗∗ وهم أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدا ؎هم بَيَّتُونا بِالحَطِيمِ جُهَّدا ∗∗∗ وقَتَلُونا رُكَّعًا وسُجَّدا فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”لا نُصِرْتُ إنْ لَمْ أنْصُرْكِ“ ثُمَّ تَجَهَّزَ إلى مَكَّةَ فَفَتَحَها سَنَةَ ثَمانٍ مِنَ الهِجْرَةِ فَلَمّا كانَتْ سَنَةُ تِسْعٍ أرادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَحُجَّ فَقالَ: إنَّهُ يَحْضُرُ المُشْرِكُونَ فَيَطُوفُونَ عُراةً فَبَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تِلْكَ السَّنَةَ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أمِيرًا عَلى النّاسِ لِيُقِيمَ لَهُمُ الحَجَّ وكَتَبَ لَهُ سُنَنَهُ ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ عَلى ناقَتِهِ العَضْباءِ لِيَقْرَأ عَلى أهْلِ المَوْسِمِ صَدْرَ بَراءَةَ، فَلَمّا دَناهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ سَمِعَ أبُو بَكْرٍ الرُّغاءَ فَوَقَفَ وقالَ: هَذا رُغاءُ ناقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَلَمّا لَحِقَهُ قالَ: أمِيرٌ أوْ مَأْمُورٌ؟ قالَ: مَأْمُورٌ، فَلَمّا كانَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ خَطَبَ أبُو بَكْرٍ وحَدَّثَهم عَنْ مَناسِكِهِمْ وقامَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ جَمْرَةِ العُقْبَةِ فَقالَ: أيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ تَعالى إلَيْكُمْ، فَقالُوا: بِماذا؟ فَقَرَأ عَلَيْهِمْ ثَلاثِينَ أوْ أرْبَعِينَ آيَةً مِنَ السُّورَةِ ثُمَّ قالَ: أُمِرْتُ بِأرْبَعٍ؛ أنْ لا يَقْرَبَ البَيْتَ بَعْدَ هَذا العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ، ولا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلّا كُلُّ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وأنْ يُتِمَّ إلى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ،» واخْتَلَفَتِ الرِّواياتُ في أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ هَلْ كانَ مَأْمُورًا أوْ لا بِالقِراءَةِ أمْ لا، والأكْثَرُ عَلى أنَّهُ كانَ مَأْمُورًا وأنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ لَمّا لَحِقَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أخَذَ مِنهُ ما أُمِرَ بِقِراءَتِهِ، وجاءَ في رِوايَةِ ابْنِ حِبّانَ، وابْنِ مَرْدُوَيْهِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ «أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ حِينَ أُخِذَ مِنهُ ذَلِكَ أتى النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وقَدْ دَخَلَهُ مِن ذَلِكَ مَخافَةَ أنْ يَكُونَ قَدْ أنْزِلُ فِيهِ شَيْءٌ فَلَمّا أتاهُ قالَ: ما لِي يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: خَيْرٌ أنْتَ أخِي وصاحِبِي في الغارِ وأنْتَ مَعِي عَلى الحَوْضِ غَيْرَ أنَّهُ لا يُبَلِّغُ عَنِّي غَيْرِي أوْ رَجُلٌ مِنِّي» . (p-45)وجاءَ مِن رِوايَةِ أحْمَدَ، والتِّرْمِذِيِّ وحَسَّنَهُ، وأبُو الشَّيْخِ، وغَيْرُهم عَنْ أنَسٍ قالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِبَراءَةَ مَعَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ثُمَّ دَعاهُ فَقالَ: لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يُبَلِّغَ هَذا إلّا رَجُلٌ مِن أهْلِي، فَدَعا عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ فَأعْطاهُ إيّاهُ» . وهَذا ظاهِرٌ في أنَّ عَلِيًّا لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ مِن أبِي بَكْرٍ في الطَّرِيقِ، وأكْثَرُ الرِّواياتِ عَلى خِلافِهِ، وجاءَ في بَعْضِها ما هو ظاهِرٌ في عَدَمِ عَزْلِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَنِ الأمْرِ بَلْ ضُمَّ إلَيْهِ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، فَقَدْ أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعَثَ أبا بَكْرٍ وأمَرَهُ أنْ يُنادِيَ بِهَؤُلاءِ الكَلِماتِ ثُمَّ أتْبَعَهُ عَلِيًّا وأمَرَهُ أنْ يُنادِيَ بِهَؤُلاءِ الكَلِماتِ فَحَجّا فَقامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في أيّامِ التَّشْرِيقِ فَنادى أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ ولا يَحُجَّنَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ ولا يَطُوفَنَّ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ ولا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلّا مُؤْمِنٌ، فَكانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ يُنادِي فَإذا أعْيا قامَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَنادى بِها» وأيًّا ما كانَ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنَ الرِّواياتِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ الخَلِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ دُونَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وقَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «لا يُبَلِّغُ عَنِّي غَيْرِي أوْ رَجُلٌ مِنِّي سَواءٌ كانَ بِوَحْيٍ أمْ لا» جارٍ عَلى عادَةِ العَرَبِ أنْ لا يَتَوَلّى تَقْرِيرَ العَهْدِ ونَقْضَهُ إلّا رَجُلٌ مِنَ الأقارِبِ لِتَنْقَطِعَ الحُجَّةُ بِالكُلِّيَّةِ، فالتَّبْلِيغُ المَنفِيُّ لَيْسَ عامًّا كَما يُرْشِدُ إلى ذَلِكَ حَدِيثُ أحْمَدَ، والتِّرْمِذِيِّ. وكَيْفَ يُمْكِنُ إرادَةُ العُمُومِ وقَدْ بَلَّغَ عَنْهُ ﷺ كَثِيرًا مِنَ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ في حَياتِهِ وبَعْدَ وفاتِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِن أقارِبِهِ ﷺ كَعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، ومِنهم أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَإنَّهُ في تِلْكَ السَّنَةِ حَجَّ بِالنّاسِ وعَلَّمَهم بِأمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سُنَنَ الحَجِّ وما يَلْزَمُ فِيهِ وهو أحَدُ الأُمُورِ الخَمْسَةِ الَّتِي بُنِيَ الإسْلامُ عَلَيْها، عَلى أنَّ مَن أنْصَفَ مِن نَفْسِهِ عَلِمَ أنَّ في نَصْبِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لِإقامَةِ مِثْلِ هَذا الرَّكْنِ العَظِيمِ مِنَ الدِّينِ عَلى ما يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ( ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ ) الآيَةَ إشارَةً إلى أنَّهُ الخَلِيفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في إقامَةِ شَعائِرِ دِينِهِ لا سِيَّما وقَدْ أُيِّدَ ذَلِكَ بِإقامَتِهِ مَقامَهَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الصَّلاةِ بِالنّاسِ في آخِرِ أمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهي العِمادُ الأعْظَمُ والرُّكْنُ الأقْوَمُ لِدِينِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الصَّلاةِ بِالنّاسِ، والقَوْلِ بِأنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عُزِلَ في المَسْألَتَيْنِ كَما يَزْعُمُهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ لا أصْلَ لَهُ وعَلى المُدَّعِي البَيانُ ودُونَهُ الشُّمُّ الرّاسِياتُ. وبِالجُمْلَةِ دَلالَةُ ”لا يَنْبَغِي“ إلَخْ عَلى الخِلافَةِ مِمّا لا يَنْبَغِي القَوْلُ بِها، وقُصارى ما في الخَبَرِ الدَّلالَةُ عَلى فَضْلِ الأمِيرِ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وقُرْبِهِ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والمُؤْمِنُ لا يُنْكِرُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ اقْتِضائِهِ التَّقَدُّمَ بِالخِلافَةِ عَلى الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أهْلِ السُّنَّةِ نُكْتَةً في نَصْبِ أبِي بَكْرٍ أمِيرًا لِلنّاسِ في حَجِّهِمْ ونَصْبِ الأمِيرِ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ مُبَلِّغًا نَقْضَ العَهْدِ في ذَلِكَ المَحْفِلِ وهي أنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لَمّا كانَ مَظْهَرًا لِصِفَةِ الرَّحْمَةِ والجَمالِ كَما يُرْشِدُ إلَيْهِ ما تَقَدَّمَ في حَدِيثِ الإسْراءِ وما جاءَ مِن قَوْلِهِ ﷺ: «أرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أبُو بَكْرٍ» . أحالَ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أمْرَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ هم مَوْرِدُ الرَّحْمَةِ، ولَمّا كانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ الَّذِي هو أسَدُ اللَّهِ مَظْهَرَ جَلالِهِ فَوَّضَ إلَيْهِ نَقْضَ عَهْدِ الكافِرِينَ الَّذِي هو مِن آثارِ الجَلالِ وصِفاتِ القَهْرِ، فَكانا كَعَيْنَيْنِ فَوّارَتَيْنِ يَفُورُ مِن إحْداهُما صِفَةُ الجَمالِ ومِنَ الأُخْرى صِفَةُ الجَلالِ في ذَلِكَ المَجْمَعِ العَظِيمِ الَّذِي كانَ أُنْمُوذَجًا لِلْحَشْرِ ومَوْرِدًا لِلْمُسْلِمِ والكافِرِ انْتَهى، ولا يَخْفى حُسْنُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ في البَيْنِ تَعْلِيلُ النَّبِيِّ ﷺ . (p-46)وجَعَلَ المُدَّةَ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قِيلَ لِأنَّها ثُلُثُ السَّنَةِ والثُّلُثُ كَثِيرٌ، ونُصِبَ العَدَدُ عَلى الظَّرْفِيَّةِ لِسِيحُوا أيْ فَسِيحُوا في أقْطارِ الأرْضِ في أرْبَعَةِ أشْهُرٍ ( ﴿واعْلَمُوا أنَّكُمْ﴾ ) لِسِياحَتِكم تِلْكَ ( ﴿غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ ) لا تُفَوِّتُونَهُ سُبْحانَهُ بِالهَرَبِ والتَّحَصُّنِ ( ﴿وأنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكافِرِينَ﴾ ) في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والأسْرِ وفي الآخِرَةِ بِالعَذابِ المُهِينِ، وأظْهَرَ الِاسْمَ الجَلِيلَ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وتَهْوِيلِ أمْرِ الإخْزاءِ وهو الإذْلالِ بِما فِيهِ فَضِيحَةٌ وعارٌ، والمُرادُ مِنَ الكافِرِينَ إمّا المُشْرِكُونَ المُخاطَبُونَ فِيما تَقَدَّمَ والعُدُولُ عَنْ مُخْزِيكم إلى ذَلِكَ لِذَمِّهِمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ وصْفِهِمْ بِالإشْراكِ ولِلْإشْعارِ بِأنَّ عِلَّةَ الإخْزاءِ هي كُفْرُهُمْ، وإمّا الجِنْسُ الشّامِلُ لَهم ولِغَيْرِهِمْ ويَدْخُلُ فِيهِ المُخاطَبُونَ دُخُولًا أوَّلِيًّا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب