الباحث القرآني

﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ﴾ قالَ أصْحابُ المَعانِي المُرادُ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَلى المُهاجِرِينَ والأنْصارِ إلّا أنَّهُ جِيءَ في ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَشْرِيفًا لَهم وتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِمْ وهَذا كَما قالُوا في ذِكْرِهِ تَعالى في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ﴾ إلَخْ أيْ عَفا سُبْحانَهُ عَنْ زَلّاتٍ سَبَقَتْ مِنهم يَوْمَ أُحُدٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ وقِيلَ: المُرادُ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وعَلَيْهِمْ والذَّنَبُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن بابِ خِلافِ الأوْلى نَظَرًا إلى مَقامِهِ الجَلِيلِ وفُسِّرَ هُنا عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ بِالإذْنِ لِلْمُنافِقِينَ في التَّخَلُّفِ وبِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم لا مانِعَ مِن أنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا إذْ لا عِصْمَةَ عِنْدَنا لِغَيْرِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ ويُفَسَّرُ بِما فُسِّرَ أوَّلًا وجُوِّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ مِن بابِ خِلافِ الأوْلى بِناءً عَلى ما قِيلَ: إنَّ ذَنْبَهم كانَ المَيْلَ إلى القُعُودِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حَيْثُ وقَعَتْ في وقْتٍ شَدِيدٍ وقَدْ تُفَسَّرُ التَّوْبَةُ بِالبَراءَةِ عَنِ الذَّنْبِ والصَّوْنِ عَنْهُ مَجازًا حَيْثُ إنَّهُ لا مُؤاخَذَةَ (p-40)فِي كُلٍّ، وظاهِرُ الإطْلاقِ الحَقِيقَةُ، وفي الآيَةِ ما لا يَخْفى مِنَ التَّحْرِيضِ والبَعْثِ عَلى التَّوْبَةِ لِلنّاسِ كُلِّهِمُ ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ ولَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ﴿فِي ساعَةِ العُسْرَةِ﴾ أيْ في وقْتِ الشِّدَّةِ والضِّيقِ والتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالسّاعَةِ لِزِيادَةِ تَعْيِينِهِ وكانَتْ تِلْكَ الشِّدَّةُ حالَهم في غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإنَّهم كانُوا في شِدَّةٍ مِنَ الظَّهْرِ يَعْتَقِبُ العَشَرَةُ عَلى بَعِيرٍ واحِدٍ وفي شِدَّةٍ مِنَ الزّادِ تَزَوَّدُوا التَّمْرَ المُدَوَّدَ والشَّعِيرَ المُسَوَّسَ والإهالَةَ الزَّنِخَةَ وبَلَغَتْ بِهِمُ الشِّدَّةُ أنْ قَسَمَ التَّمْرَةَ اثْنانِ ورُبَّما مَصَّها الجَماعَةُ لِيَشْرَبُوا عَلَيْها الماءَ كَما رُوِيَ عَنْ قَتادَةُ وفي شِدَّةٍ مِنَ الماءِ حَتّى نَحَرُوا الإبِلَ واعْتَصَرُوا فُرُوثَها كَما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وفي شِدَّةِ زَمانٍ مِن حِمارَةِ القَيْظِ ومِنَ الجَدْبِ والقَحْطِ ومِن هُنا قِيلَ لِتِلْكَ الغَزْوَةِ: غَزْوَةُ العُسْرَةِ ولِجَيْشِها جَيْشُ العُسْرَةِ ووَصْفُ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ بِالِاتِّباعِ في هَذِهِ السّاعَةِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهم حَرِيُّونَ بِأنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ وفِيهِ أيْضًا تَأْكِيدٌ لِأمْرِ التَّحْرِيضِ السّابِقِ ﴿مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهُمْ﴾ بَيانٌ لِتَناهِي الشِّدَّةِ وبُلُوغِها الغايَةَ القُصْوى وهو إشْرافُ بَعْضِهِمْ إلى أنْ يَمِيلُوا إلى التَّخَلُّفِ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وقِيلَ: هو إشْرافُ بَعْضِهِمْ إلى أنْ يَمِيلُوا عَنِ الثَّباتِ عَلى الإيمانِ وحُمِلَ ذَلِكَ عَلى مُجَرَّدِ الهَمِّ والوَسْوَسَةِ وقِيلَ: كانَ مَيْلًا مِن ضُعَفائِهِمْ وحَدِيثِي عَهْدِهِمْ بِالإسْلامِ وفي كادَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ و﴿قُلُوبُ﴾ فاعِلُ ﴿يَزِيغُ﴾ والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الخَبَرِ لَكادَ ولا تَحْتاجُ إلى رابِطٍ لِكَوْنِها خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وهو المَنقُولُ عَنْ سِيبَوَيْهِ وإضْمارُ الشَّأْنِ عَلى ما نُقِلَ عَنِ الرَّضِيِّ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ في أفْعالِ المُقارَبَةِ إلّا في كادَ وفي النّاقِصَةِ إلّا في كانَ ولَيْسَ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ اسْمُ كادَ ضَمِيرَ القَوْمِ والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الخَبَرِ أيْضًا، والرّابِطُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ في ﴿مِنهُمْ﴾ وهَذا عَلى قِراءَةِ ﴿يَزِيغُ﴾ بِالياءِ التَّحْتانِيَّةِ وهي قِراءَةُ حَمْزَةَ وحَفْصٍ والأعْمَشِ وأمّا عَلى قِراءَةِ (تَزِيغُ) التّاءِ الفَوْقانِيَّةِ وهي قِراءَةُ الباقِينَ فَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ﴿قُلُوبُ﴾ اسْمَ كادَ و(تَزِيغُ) خَبَرَها وفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اسْمِها ولا يَصِحُّ هَذا عَلى القِراءَةِ الأُولى لِتَذْكِيرِ ضَمِيرِ ﴿يَزِيغُ﴾ وتَأْنِيثِ ما يَعُودُ إلَيْهِ وقَدْ ذَكَرَ هَذا الوَجْهَ مُنْتَخَبُ الدِّينِ الهَمْدانِيُّ وأبُو طالِبٍ المَكِّيُّ وغَيْرُهُما وتَعَقَّبَهُ في الكَشْفِ بِأنَّ في جَعْلِ القُلُوبِ اسْمَ كادَ خِلافُ وضْعِهِ مِن وُجُوبِ تَقْدِيمِ اسْمِهِ عَلى خَبَرِهِ كَما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ الحاجِبِ في شَرْحِ المُفَصَّلِ وفي البَحْرِ أنَّ تَقْدِيمَ خَبَرِ كادَ عَلى اسْمِها مَبْنِيٌّ عَلى جَوازِ تَرْكِيبِ كانَ يَقُومُ زَيْدٌ وفِيهِ خِلافٌ والأصَحُّ المَنعُ وأجابَ بَعْضُ فُضَلاءِ الرُّومِ بِأنَّ أبا عَلِيٍّ جَوَّزَ ذَلِكَ وكَفى بِهِ حُجَّةً وبِأنَّ عَلَيْهِ كَلامُ ابْنِ مالِكٍ في التَّسْهِيلِ وكَذا كَلامُ شُرّاحِهِ ومِنهم أبُو حَيّانَ وجَرى عَلَيْهِ في ارْتِشافِهِ أيْضًا ولا يَعْبَأُ بِمُخالَفَتِهِ في البَحْرِ إذْ مَبْنى ذَلِكَ القِياسُ عَلى بابِ كانَ وهو لا يُصادِمُ النَّصَّ عَنْ أبِي عَلِيٍّ، عَلى أنَّ في كَوْنِ أبِي حَيّانَ مِن أهْلِ القِياسِ مَنعًا ظاهِرًا فالحَقُّ الجَوازُ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ اسْمُ كادَ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلى جَمْعِ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ أيْ مِن بَعْدِ ما كادَ الجَمْعُ، وقَدَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ القَوْمُ أيْ مِن بَعْدِ ما كادَ القَوْمُ وضَعُفَ بِأنَّهُ أُضْمِرَ في كادَ ضَمِيرٌ لا يَعُودُ إلّا عَلى مُتَوَهِّمٍ، وبِأنَّ خَبَرَها يَكُونُ قَدْ رُفِعَ سَبَبِيًّا، وقَدْ قالُوا: إنَّهُ لا يَرْفَعُ إلّا ضَمِيرًا عائِدًا عَلى اسْمِها وكَذا خَبَرُ سائِرِ أخَواتِها ما عَدا عَسى في رَأْيٍ، ولا يَخْفى وُرُودُ هَذا أيْضًا عَلى تَوْجِيهَيِ القِراءَةِ الأُولى لَكِنَّ الأمْرَ عَلى التَّوْجِيهِ الأوَّلِ سَهْلٌ وجَوَّزَ الرَّضِيُّ تَخْرِيجَ الآيَةِ عَلى التَّنازُعِ وهو ظاهِرٌ عَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ ويَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ إعْمالُ الأوَّلِ إذْ لَوْ أُعْمِلَ الثّانِي لَوَجَبَ أنْ يُقالَ في الأوَّلِ (كادَتْ) كَما قَرَأ بِهِ أُبَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ (p-41)ولا يَجُوزُ كادَ إلّا عِنْدَ الكِسائِيِّ فَإنَّهُ يَحْذِفُ الفاعِلَ وكَأنَّ الرَّضِيَّ لَمْ يُبالِ بِما لَزِمَ عَلى هَذا التَّخْرِيجِ مِن تَقْدِيمِ خَبَرِ كادَ عَلى اسْمِهِ لِما عَرَفْتَ مِن أنَّهُ لَيْسَ بِمَحْذُورٍ عَلى ما هو الحَقُّ وذَهَبَ أبُو حَيّانَ إلى أنْ ﴿كادَ﴾ زائِدَةٌ ومَعْناها مُرادٌ كَكانَ ولا عَمَلَ لَها في اسْمٍ ولا خَبَرٍ لِيَخْلُصَ مِنَ القِيلِ والقالِ ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ (مِن بَعْدِ ما زاغَتْ) بِإسْقاطِ كادَ وقَدْ ذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى زِيادَتِها في نَحْوِ لَمْ يَكَدْ مَعَ أنَّها عامِلَةٌ مَعْمُولَةٌ فَهَذا أوْلى وقَرَأ الأعْمَشُ (تُزِيغُ) بِضَمِّ التّاءِ وجَعَلُوا الضَّمِيرَ عَلى قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْمُتَخَلِّفِينَ سَواءٌ كانُوا مِنَ المُنافِقِينَ أمْ لا كَأبِي لُبابَةَ ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ﴾ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ بِناءً عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم والتَّأْكِيدُ يَجُوزُ عَطْفُهُ بِثُمَّ كَما صَرَّحَ بِهِ النُّحاةُ وإنْ كانَ كَلامُ أهْلِ المَعانِي يُخالِفُهُ ظاهِرًا وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ تَوْبَتَهُ سُبْحانَهُ في مُقابَلَةِ ما قاسُوهُ مِنَ الشَّدائِدِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيقُ بِالمَوْصُولِ ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْفَرِيقِ والمُرادُ أنَّهُ تابَ عَلَيْهِمْ لِكَيْدُودَتِهِمْ وقُرْبِهِمْ مِنَ الزَّيْغِ لِأنَّهُ جُرْمٌ مُحْتاجٌ إلى التَّوْبَةِ عَلَيْهِ فَلا تَكْرارَ لِما سَبَقَ وقَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ 117﴾ اسْتِئْنافٌ تَعْلِيلِيٌّ فَإنَّ صِفَةَ الرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ مِن دَواعِي التَّوْبَةِ والعَفْوِ وجُوِّزَ كَوْنُ الأوَّلِ عِبارَةً عَنِ ازالَةِ الضَّرَرِ والثّانِي عَنْ إيصالِ النَّفْعِ وأنْ يَكُونَ أحَدُهُما لِلسَّوابِقِ والآخَرُ لِلَّواحِقِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب