الباحث القرآني

﴿وما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لأبِيهِ﴾ آزَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿واغْفِرْ لأبِي﴾ أيْ بِأنْ تُوَفِّقَهُ لِلْإيمانِ وتَهْدِيَهُ إلَيْهِ كَما يَلُوحُ بِهِ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ﴾ والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ لِتَقْرِيرِ ما سَبَقَ ودَفْعُ ما يَتَراءى بِحَسَبِ الظّاهِرِ مِنَ المُخالَفَةِ وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ وابْنُ عَساكِرَ مِن طَرِيقِ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ قالَ: «لَمّا ماتَ أبُو طالِبٍ قالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: رَحِمَكَ اللَّهُ وغَفَرَ لَكَ لا أزالُ أسْتَغْفِرُ لَكَ حَتّى يَنْهانِي اللَّهُ تَعالى فَأخَذَ المُسْلِمُونَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَوْتاهُمُ الَّذِينَ ماتُوا وهم مُشْرِكُونَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآيَةَ فَقالُوا: قَدِ اسْتَغْفَرَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ فَأنْزَلَ سُبْحانَهُ: ﴿وما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لأبِيهِ إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ﴾» وقَرَأ طَلْحَةُ: (وما اسْتَغْفَرَ) وعَنْهُ (وما يَسْتَغْفِرُ) عَلى حِكايَةِ الحالِ الماضِيَةِ لا أنَّ الِاسْتِغْفارَ سَوْفَ يَقَعُ بَعْدَ يَوْمِ القِيامَةِ كَما يُتَوَهَّمُ مِمّا سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ العِلَلِ أيْ لَمْ يَكُنِ اسْتِغْفارُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأبِيهِ ناشِئًا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ إلّا عَنْ مَوْعِدَةٍ ﴿وعَدَها﴾ أيْ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿إيّاهُ﴾ أيْ أباهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿سَأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ فالوَعْدُ كانَ مِن إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وحَمّادٍ الرّاوِيَةِ وابْنِ السَّمَيْقَعِ وابْنِ نَهِيكٍ ومُعاذٍ القارِئِ أنَّهم قَرَأُوا (وعَدَها أباهُ) بِالمُوَحَّدَةِ وعَدَّ ذَلِكَ أحَدَ الأحْرُفِ الثَّلاثِ (1) الَّتِي صَحَّفَها ابْنُ المُقَفَّعِ في القُرْآنِ مِمّا (p-35)لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ بَعْدَ قِراءَةِ غَيْرِ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ بِهِ وإنْ كانَتْ شاذَّةً وحاصِلُ مَعْنى الآيَةِ ما كانَ لَكُمُ الِاسْتِغْفارُ بَعْدَ التَّبَيُّنِ واسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما كانَ عَنْ مَوْعِدَةٍ قَبْلَ التَّبَيُّنِ ومَآلُهُ أنَّ اسْتِغْفارَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قَبْلَ التَّبَيُّنِ ويُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ أيْ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿أنَّهُ﴾ أيْ أنَّ أباهُ ﴿عَدُوٌّ لِلَّهِ﴾ أيْ مُسْتَمِرٌّ عَلى عَداوَتِهِ تَعالى وعَدَمِ الإيمانِ بِهِ وذَلِكَ بِأنْ أوْحى إلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ مُصِرٌّ عَلى الكُفْرِ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وجَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ ذَلِكَ التَّبَيُّنَ كانَ بِمَوْتِهِ كافِرًا وإلَيْهِ ذَهَبَ قَتادَةُ قِيلَ: والأنْسَبُ بِوَصْفِ العَداوَةِ هو الأوَّلُ والأمْرُ فِيهِ هَيِّنٌ ﴿تَبَرَّأ مِنهُ﴾ أيْ قَطَعَ الوَصْلَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ والمُرادُ تَنَزَّهَ عَنِ الِاسْتِغْفارِ لَهُ وتَجانَبَ كُلَّ التَّجانُبِ وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ ما لَيْسَ في تَرْكِهِ ونَظائِرِهِ ﴿إنَّ إبْراهِيمَ لأوّاهٌ﴾ أيْ لَكَثِيرُ التَّأوُّهِ وهو عِنْدُ جَماعَةٍ كِنايَةٌ عَنْ كَمالِ الرَّأْفَةِ ورِقَّةِ القَلْبِ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وغَيْرُهُما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدّادٍ قالَ: «قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما الأوّاهُ؟ قالَ: الخاشِعُ المُتَضَرِّعُ الدَّعّاءِ» وأخْرُجُ أبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ أنَّهُ الدَّعّاءُ المُسْتَكِنُ إلى اللَّهِ تَعالى كَهَيْئَةِ المَرِيضِ المُتَأوِّهِ مِن مَرَضِهِ وهو قَرِيبٌ مِمّا قَبْلَهُ: وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ وعَطاءٍ والضَّحّاكِ وعِكْرِمَةَ: إنَّهُ المُوقِنُ بِلُغَةِ الحَبَشَةِ وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أنَّهُ الرَّحِيمُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ وأطْلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ تَفْسِيرَهُ بِذَلِكَ وعَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ المُسَبِّحُ وأخْرَجَ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ أنَّهُ الَّذِي قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ وغَيْرُهُ عَنْ كَعْبٍ أنَّ إبْراهِيمَ وُصِفَ بِالأوّاهِ لِأنَّهُ كانَ إذا ذَكَرَ النّارَ قالَ أوْهٍ مِنَ النّارِ أوَّهَ وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ أبِي الجَوْزاءِ مِثْلَهُ وإذا صَحَّ تَفْسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَهُ لا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنْهُ. نَعَمْ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الجَماعَةُ غَيْرُ مُنافٍ لَهُ ومُناسَبَتُهُ لِما نَحْنُ فِيهِ ظاهِرَةٌ كَما لا يَخْفى وقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّهُ فَعّالٌ لِلْمُبالَغَةِ مِنَ التَّأوُّهِ وقِياسُ فِعْلِهِ أنْ يَكُونَ ثُلاثِيًّا لِأنَّ أمْثِلَةَ المُبالَغَةِ إنَّما يَطَّرِدُ أخْذُها مِنهُ وحَكى قُطْرُبٌ لَهُ فِعْلًا ثُلاثِيًّا فَقالَ: يُقالُ آهَ يَؤُوهُ كَقامَ يَقُومُ أوْهًا وأنْكَرَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وقالَ: لا يُقالُ إلّا أوَّهَ وتَأوَّهَ قالَ المُثَقَّبُ العَبْدِيُّ: إذا ما قُمْتُ أُرَحِّلُها بِلَيْلٍ تَأوَّهَ آهَةُ الرَّجُلِ الحَزِينِ وأصْلُ التَّأوُّهِ قَوْلُهُ آهْ ونَحْوُهُ مِمّا يَقُولُهُ الحَزِينُ وفي الدُّرَّةِ لِلْحَرِيرِيِّ أنَّ الأفْصَحَ أنْ يُقالَ في التَّأوُّهِ: أوِّهِ بِكَسْرِ الهاءِ وضَمِّها وفَتْحِها والكَسْرُ أغْلَبُ وعَلَيْهِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَأوِّهِ لِذِكْراها إذا ما ذَكَرْتَها ∗∗∗ ومِن بَعْدِ أرْضٍ بَيْنَنا وسَماءٍ وقَدْ شَدَّدَ بَعْضُهُمُ الواوَ وأسْكَنَ الهاءَ فَقالَ: أوَّهْ وقَلَبَ بَعْضُهُمُ الواوَ ألِفًا فَقالَ: آهْ ومِنهم مَن حَذَفَ الهاءَ وكَسَرَ الواوَ فَقالَ: أوِ ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ تَصْرِيفَ الفِعْلِ مِن ذَلِكَ أوَّهَ وتَأوَّهَ وأنَّ المَصْدَرَ الآهَةُ والأهَّةُ وإنَّ مِن ذَلِكَ قَوْلَ المُثَقَّبِ السّابِقَ ﴿حَلِيمٌ 114﴾ أيْ صَبُورٌ عَلى الأذى صَفُوحٌ عَنِ الجِنايَةِ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: كانَ مِن حِلْمِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ إذا آذاهُ الرَّجُلُ مِن قَوْمِهِ قالَ لَهُ: هَداكَ اللَّهُ تَعالى، ولَعَلَّ تَفْسِيرَهُ بِالسَّيِّدِ عَلى ما رُوِيَ عَنِ الحَبْرِ مَجازٌ والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ لِبَيانِ ما حَمَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى المَوْعِدَةِ بِالِاسْتِغْفارِ لِأبِيهِ مَعَ شَكاسَتِهِ عَلَيْهِ وسُوءِ خُلُقِهِ مَعَهُ كَما يُؤْذَنُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (p-36)﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ وقِيلَ: اسْتِئْنافٌ لِبَيانِ ما حَمَلَهُ عَلى الِاسْتِغْفارِ وأوْرَدَ عَلَيْهِ أنَّهُ يُشْعِرُ بِظاهِرِهِ أنَّ اسْتِغْفارَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأبِيهِ عَنْ وُفُورِ الرَّحْمَةِ وزِيادَةِ الحِلْمِ وهو يُخالِفُ صَدْرَ الآيَةِ حَيْثُ دَلَّ عَلى أنَّهُ كانَ عَنْ مَوْعِدَةٍ لَيْسَ إلّا ولَعَلَّ المُرادَ أنَّ سَبَبَ الِاسْتِغْفارَ لَيْسَ إلّا المَوْعِدَةَ النّاشِئَةَ عَمّا ذَكَرَ فَلا إشْكالَ وفِيها تَأْكِيدٌ لِوُجُوبِ الِاجْتِنابِ بَعْدَ التَّبَيُّنِ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَبَرَّأ مِنهُ بَعْدَ التَّبَيُّنِ وهو في كَمالِ رِقَّةِ القَلْبِ والحِلْمِ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أكْثَرَ مِنهُ اجْتِنابًا وتَبَرُّؤًا وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ فاعِلَ وعَدَ ضَمِيرَ الأبِ (وإيّاهُ) ضَمِيرُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أيْ إلّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعَدَها إبْراهِيمَ أبُوهُ وهي الوَعْدُ بِالإيمانِ قالَ شَيْخُ مَشايِخِنا صِبْغَةُ اللَّهِ أفَنْدِيُّ الحَيْدَرِيِّ: لَعَلَّ هَذا هو الأظْهَرُ في التَّفْسِيرِ فَإنَّ ظاهِرَ السِّياقِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دَفْعٌ لِما يَرِدُ عَلى الآيَةِ الأُولى مِنَ النَّقْضِ بِاسْتِغْفارِ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ الكافِرِ ويَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ في حَياةِ أبِيهِ حَيْثُ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلى طَلَبِ المَغْفِرَةِ لَهُ بِالتَّوْفِيقِ لِلْإيمانِ كَما قَرَّرَ سابِقًا مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى حَدِيثِ المَوْعِدَةِ فَيَصِيرُ ﴿إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعَدَها إيّاهُ﴾ كالحَشْوِ عَلى التَّوْجِيهِ الأوَّلِ لِلضَّمِيرِيْنِ بِخِلافِ هَذا التَّوْجِيهِ فَإنَّ مُحَصِّلَهُ عَلَيْهِ هو أنَّهُ لا يَرِدُ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ نَقْضًا عَلى ما ذَكَرْنا إذْ هو إنَّما صَدَرَ مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِإيمانِهِ حَيْثُ سَبَقَ وعْدُهُ بِهِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَظَنَّ أنَّهُ وفّى بِالوَعْدِ وجَرى عَلى مُقْتَضى العَهْدِ فاسْتَغْفَرَ لَهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ لَنْ يَفِيَ ولَنْ يُؤْمِنَ قَطُّ أوْ لَمَ يَفِ ولَمْ يُؤَمِّنْ تَبَرَّأ مِنهُ ويُمْكِنُ أنْ يُوَجَّهَ ذِكْرُ المَوْعِدَةِ عَلى التَّوْجِيهِ الأوَّلِ أيْضًا بِأنْ يُقالَ: أرادَ سُبْحانَهُ وتَعالى تَضْمِينَ الجَوابِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الِاسْتِغْفارِ في حالِ حَياةِ المُسْتَغْفَرِ لَهُ وحَمْلُهُ عَلى الطَّلَبِ المَذْكُورِ فائِدَةٌ أُخْرى هي أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِغايَةِ تَصَلُّبِهِ في الدِّينِ وفَرْطِ تَعَصُّبِهِ عَلى اليَقِينِ ما كانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ وإنْ كانَ جائِزًا لَكِنْ تَأوَّهَ وتَحَلَّمَ فاسْتَغْفَرَ لَهُ وفاءً بِالمَوْعِدَةِ الَّتِي وعَدَها إيّاهُ فَتَفَطَّنْ. انْتَهى. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ عَلى التَّوْجِيهِ الثّانِي لا يَسْتَقِيمُ ما قالُوهُ في اسْتِئْنافِ الجُمْلَةِ مِن أنَّهُ لِبَيانِ الحامِلِ وكانَ عَلَيْهِ أنْ يَذْكُرَ وجْهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وأيْضًا قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في بَيانِ الفائِدَةِ: لَكِنَّهُ تَأوَّهَ وتَحَلَّمَ حَيْثُ نَسَبَ فِيهِ الحِلْمَ إلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِصِيغَةِ التَّفَعُّلِ مَعَ وصْفِهِ تَعالى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالحَلِيمِ عَثْرَةً لا يُقالُ لِصاحِبِها لَعا وحَمْلُ ذَلِكَ عَلى المُشاكَلَةِ مَعَ إرادَةِ فِعْلٍ مِمّا لا يُوافِقُ غَرَضَهُ وسَوْقَ كَلامِهِ فالحَقُّ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ التَّفْسِيرُ الأوَّلُ لِلْآيَةِ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ ما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وغَيْرِهِ مِن سَلَفِ الأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم وذَكَرَ حَدِيثَ المَوْعِدَةِ لِبَيانِ الواقِعِ في نَفْسِ الأمْرِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإشارَةِ إلى تَأْكِيدِ الِاجْتِنابِ وتَقْوِيَةِ الفَرْقِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَرْقٌ بَيِّنٌ بَيْنَ الِاسْتِغْفارِ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ واسْتِغْفارِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّ اسْتِغْفارَهُ كانَ قَبْلَ التَّبَيُّنِ وكانَ عَنْ مَوْعِدَةٍ دَعاهُ إلَيْها فَرْطُ رَأْفَتِهِ وحِلْمِهِ وما نُهِيتُمْ عَنْهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَقِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ يُخالِفُها ظاهِرُ ما رَواهُ البُخارِيُّ في الصَّحِيحِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «يَلْقى إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أباهُ يَوْمَ القِيامَةِ وعَلى وجْهِهِ قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ فَيَقُولُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ألَمْ أقُلْ لَكَ: لا تَعْصِنِي فَيَقُولُ أبُوهُ: اليَوْمَ لا أعْصِيكَ فَيَقُولُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: يا رَبِّ إنَّكَ وعَدْتَنِي أنْ لا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأيُّ خِزْيٍ أخْزى مِن أبِي الأبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعالى: إنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلى الكافِرِينَ ثُمَّ يُقالُ: يا إبْراهِيمُ ما تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإذا هو بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوائِمِهِ فَيُلْقى في النّارِ» . ورَواهُ غَيْرُهُ بِزِيادَةِ: فَيَتَبَرَّأُ مِنهُ. فَإنَّ الآيَةَ ظاهِرَةٌ في انْقِطاعِ رَجاءِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ اتِّصافُ أبِيهِ بِالإيمانِ وجَزْمُهُ بِأنَّهُ لا يُغْفَرُ لَهُ ولِذَلِكَ تَبَرَّأ مِنهُ وتَرَكَ الِاسْتِغْفارَ لَهُ فَإنَّ الِاسْتِغْفارَ لَهُ مَعَ الجَزْمِ بِأنَّهُ لا يُغْفَرُ لَهُ مِمّا لا يُتَصَوَّرُ (p-37)وُقُوعُهُ مِنَ العارِفِ لا سِيَّما مِثْلَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقَدْ صَرَّحُوا بِأنَّ طَلَبَ المَغْفِرَةِ لِلْمُشْرِكِ طَلَبٌ لِتَكْذِيبِ اللَّهِ سُبْحانَهُ نَفْسَهُ والحَدِيثُ ظاهِرٌ في أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَطْلُبُ ذَلِكَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يَيْأسُ مِن نَجاتِهِ إلّا بَعْدَ المَسْخِ فَإذا مُسِخَ يَئِسَ مِنهُ وتَبَرَّأ وأجابَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ المُخالَفَةِ بِجَوابَيْنِ بَحَثَ فِيهِما بَعْضُ فُضَلاءِ الرُّومِ ومِنَ الغَرِيبِ قَوْلُهُ في الجَوابِ الثّانِي: إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَوْتَ أبِيهِ عَلى الكُفْرِ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ آمَنَ في نَفْسِهِ ولَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى ذَلِكَ ويَكُونُ وقْتُ تَبَرِّيهِ مِنهُ بَعْدَ الحالَةِ الَّتِي وقَعَتْ في الحَدِيثِ فَإنَّهُ مُخالِفٌ مُخالَفَةً ظاهِرَةً لِما يُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ مِن أنَّ التَّبَيُّنَ والتَّبَرِّيَ كانَ كُلٌّ مِنهُما في الدُّنْيا وأجابَ ذَلِكَ البَعْضُ بِأنّا لا نُسَلِّمُ التَّخالُفَ بَيْنَ الآيَةِ والحَدِيثِ وإنَّما يَكُونُ بَيْنَهُما ذَلِكَ لَوْ كانَ في الحَدِيثِ دَلالَةٌ عَلى وُقُوعِ الِاسْتِغْفارِ مِن إبْراهِيمَ لِأبِيهِ وطَلَبِ الشَّفاعَةِ لَهُ ولَيْسَ فَلَيْسَ وقَوْلُهُ: يا رَبِّ إنَّكَ وعَدْتَنِي إلَخْ أرادَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَحْضَ الِاسْتِفْسارِ عَنْ حَقِيقَةِ الحالِ فَإنَّهُ اخْتَلَجَ في صَدْرِهِ الشَّرِيفِ أنَّ هَذِهِ الحالُ الواقِعَةُ عَلى أبِيهِ خِزْيٌ لَهُ وأنَّ خِزْيَ الأبِ خِزْيُ الِابْنِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى خُلْفِ الوَعْدِ المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إنَّكَ وعَدْتَنِي أنْ لا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ الخَبَرَ ظاهِرٌ في الشَّفاعَةِ وهي اسْتِغْفارٌ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلامُ المُتَكَلِّمِينَ في ذَلِكَ المَقامِ ويَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا أنَّ الحاكِمَ أخْرَجَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أيْضًا وصَحَّحَهُ وقالَ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ: أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «يَلْقى رَجُلٌ أباهُ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَقُولُ: يا أبَتِ أيُّ ابْنٍ كُنْتُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: خَيْرُ ابْنٍ. فَيَقُولُ: هَلْ أنْتَ مُطِيعِيَّ اليَوْمَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيَقُولُ: خُذْ بِإزْرَتِي. فَيَأْخُذُ بِإزْرَتِهِ ثُمَّ يَنْطَلِقُ حَتّى يَأْتِيَ اللَّهَ تَعالى وهو يَفْصِلُ بَيْنَ الخَلْقِ فَيَقُولُ: يا عَبْدِي ادْخُلْ مِن أيِّ أبْوابِ الجَنَّةِ شِئْتَ. فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ وأبِي مَعِي فَإنَّكَ وعَدْتَنِي أنْ لا تُخْزِيَنِي. قالَ: فَيَمْسَخُ أباهُ ضَبُعًا فَيَهْوِي في النّارِ فَيَأْخُذُ بِأنْفِهِ فَيَقُولُ سُبْحانَهُ: يا عَبْدِي هَذا أبُوكَ. فَيَقُولُ: لا وعِزَّتِكَ» وقالَ الحافِظُ المُنْذِرِيُّ: إنَّهُ في صَحِيحِ البُخارِيِّ إلّا أنَّهُ قالَ: يَلْقى إبْراهِيمُ أباهُ وذَكَرَ القِصَّةَ إذْ يُفْهَمُ مِن ذَلِكَ أنَّ الرَّجُلَ في حَدِيثِ الحاكِمِ هو إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وطَلَبُهُ المَغْفِرَةَ لِأبِيهِ فِيهِ وإدْخالُهُ الجَنَّةَ أظْهَرُ مِنهُما في حَدِيثِ البُخارِيِّ وما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُخالِفٌ عَلى ما قِيلَ: لِما شاعَ عَنِ المُعْتَزِلَةِ أنَّ امْتِناعَ جَوازِ الِاسْتِغْفارِ لِلْكافِرِ إنَّما عُلِمَ بِالوَحْيِ لا بِالعَقْلِ لِأنَّ العَقْلَ يُجَوِّزُ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعالى لِلْكافِرِ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِأبِي طالِبٍ: لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ لا يَنْفَعُ في هَذا الغَرَضِ إلّا إذا ضُمَّ إلَيْهِ عَدَمُ عِلْمِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ذَلِكَ بِالوَحْيِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ وهو مِمّا لا يَكادُ يُقْدِمُ عَلَيْهِ عاقِلٌ فَضْلًا عَنْ فاضِلٍ وأجابَ بَعْضُ المُعاصِرِينَ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ عالِمًا بِكُفْرِ أبِيهِ ومُتَيَقِّنًا بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ إلّا أنَّ الشَّفَقَةَ والرَّأْفَةَ الطَّبِيعِيَّةَ غَلَبَتْ عَلَيْهِ حِينَ رَأى أباهُ في عَرَصاتِ يَوْمِ القِيامَةِ وعَلى وجْهِهِ قَتَرَةٌ فَلَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ أنْ طَلَبَ ما طَلَبَ ونَظِيرُ ذَلِكَ مِن وجْهِ قَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِرَبِّهِ سُبْحانَهُ: ﴿رَبِّ إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ﴾ ولا يَخْفى أنَّهُ مِنَ الفَسادِ بِمَكانٍ ومِثْلُهُ ما قِيلَ: إنَّهُ ظَنَّ اسْتِثْناءَ أبِيهِ مِن عُمُومِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ لِأنَّ اللَّهَ وعَدَهُ أنْ لا يُخْزِيَهُ فَقَدِمَ عَلى الشَّفاعَةِ لَهُ ولَعَمْرِي لا يَقْدَمُ عَلَيْهِ إلّا جاهِلٌ بِجَهْلِهِ أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أجَلُّ قَدْرًا مِن أنْ تَغْلِبَهم أنْفُسُهم عَلى الإقْدامِ عَلى ما فِيهِ تَكْذِيبُ اللَّهِ تَعالى نَفْسَهُ، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّهُ لَوْ كانَ لِذَلِكَ الظَّنِّ أصْلٌ ما كانَ يَتَبَرَّأُ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ في الدُّنْيا بَعْدَ أنْ تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وهو الأوّاهُ الحَلِيمُ (p-38)وقِيلَ: إنَّ الأحْسَنَ في الجَوابِ التِزامُ أنَّ ما في الخَبَرَيْنِ لَيْسَ مِنَ الشَّفاعَةِ في شَيْءٍ ويُقالُ: إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ظَنَّ أنَّ خِزْيَ أبِيهِ في مَعْنى الخِزْيِ لَهُ فَطَلَبَ بِحُكْمِ وعْدِ اللَّهِ سُبْحانَهُ إيّاهُ أنْ لا يُخْزِيَهُ تَخْلِيصَهُ مِن ذَلِكَ حَسْبَما يُمْكِنُ فَخَلَّصَهُ مِنهُ بِمَسْخِهِ ذِيخًا ولَعَلَّ ذَلِكَ مِمّا يَعُدُّهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَخْلِيصًا لَهُ مِنَ الخِزْيِ لِاخْتِلافِ النَّوْعِ وعَدَمِ مَعْرِفَةِ العارِفِينَ لِأبِيهِ بَعْدُ أنَّهُ أبُوهُ فَكَأنَّ الأُبُوَّةَ انْقَطَعَتْ مِنَ البَيْنِ ويُؤْذَنُ بِذَلِكَ أنَّهُ بَعْدَ المَسْخِ يَأْخُذُ سُبْحانَهُ بِأنْفِهِ فَيَقُولُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: يا عَبْدِي هَذا أبُوكَ؟ فَيَقُولُ: لا وعِزَّتِكَ ولَعَلَّ المُرادَ مِنَ التَّبَرِّي في الرِّوايَةِ السّابِقَةِ في الخَبَرِ الأوَّلِ هو هَذا القَوْلُ وتَوْسِيطُ حَدِيثِ تَحْرِيمِ الجَنَّةِ عَلى الكافِرِينَ لَيْسَ لِأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ طالِبًا إدْخالَ أبِيهِ فِيها بَلْ لِإظْهارِ عَدَمِ إمْكانِ هَذا الوَجْهِ مِنَ التَّخْلِيصِ إقْناطًا لِأبِيهِ وإعْلامًا لَهُ بِعِظَمِ ما أتى بِهِ ويُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ في خَبَرِ الحاكِمِ حِينَ يُقالُ لَهُ: يا عَبْدِي ادْخُلْ مِن أيِّ أبْوابِ الجَنَّةِ شِئْتَ أيْ رَبِّ وأبِي مَعِي؟ عَلى مَعْنى أأدْخُلُ وأبِي واقِفٌ مَعِي والمُرادُ لا أدْخُلُ وأبِي في هَذِهِ الحالِ وإنَّما أدْخُلُ إذا تَغَيَّرَتْ ويَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: فَإنَّكَ وعَدْتَنِي أنْ لا تُخْزِيَنِي تَعْلِيلًا لِلنَّفْيِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالِاسْتِفْهامِ المُقَدَّرِ وحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الأمْرُ إلى طَلَبِ التَّخْلِيصِ عَمّا ظَنَّهُ خِزْيًا لَهُ أيْضًا فَيُمْسَخُ ضَبُعًا لِذَلِكَ ولا يَرِدُ أنَّ التَّخْلِيصَ مُمْكِنٌ بِغَيْرِ المَسْخِ المَذْكُورِ لِأنّا نَقُولُ لَعَلَّ اخْتِيارَ ذَلِكَ المَسْخِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأُمُورِ المُمْكِنَةِ ما عَدا دُخُولَ الجَنَّةِ لِحِكْمَةٍ لا يَعْلَمُها إلّا هو سُبْحانَهُ وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ حِكْمَةَ مَسْخِهِ ضَبُعًا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الحَيَواناتِ أنَّ الضَّبُعَ أحْمَقُ الحَيَواناتِ ومِن حُمْقِهِ أنَّهُ يَغْفُلُ عَمّا يَجِبُ لَهُ التَّيَقُّظُ ولِذَلِكَ قالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ: لا أكُونُ كالضَّبُعِ يَسْمَعُ الكَدْمَ فَيَخْرُجُ لَهُ حَتّى يُصادَ وآزَرَ لَمّا لَمْ يَقْبَلِ النَّصِيحَةَ مِن أشْفَقِ النّاسِ عَلَيْهِ زَمانَ إمْكانِ نَفْعِها لَهُ وأخَذَ بِإزْرَتِهِ حِينَ لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا كانَ أشْبَهَ الخَلْقِ بِالضَّبُعِ فَمُسِخَ ضَبُعًا دُونَ غَيْرِهِ لِذَلِكَ ولَمْ يَذْكُرُوا حِكْمَةَ اخْتِيارِ المَسْخِ دُونَ غَيْرِهِ وهو لا يَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ والجَهْلُ بِها لا يَضُرُّ انْتَهى ولا يَخْفى ما في هَذا الجَوابِ مِنَ التَّكَلُّفِ وأوْلى مِنهُ التِزامُ كَوْنِ فاعِلِ (وعْدُ) ضَمِيرَ الأبِ وضَمِيرَ (إيّاهُ) راجِعًا إلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكَوْنُ التَّبَيُّنِ والتَّبَرِّي واقِعَيْنِ في الآخِرَةِ حَسْبَما تَضَمَّنَهُ الخَبَرانِ السّابِقانِ فَحِينَئِذٍ لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ إبْراهِيمُ مُسْتَغْفِرًا لِأبِيهِ بَعْدَ وعْدِهِ إيّاهُ بِالإيمانِ طالِبًا لَهُ الجَنَّةَ لِظَنِّ أنَّهُ وفّى بِوَعْدِهِ حَتّى يُمْسَخَ دِيخًا لَكِنْ لا يُساعِدُ عَلَيْهِ ظاهِرُ الآيَةِ ولا المَأْثُورُ عَنْ سَلَفِ الأُمَّةِ وإنْ صَحَّ كَوْنُ الآيَةَ عَلَيْهِ دَفْعًا لِما يَرِدُ عَلى الآيَةِ الأُولى مِنَ النَّقْضِ أيْضًا بِالعِنايَةِ ولَعَلَّ أخَفَّ الأجْوِبَةِ مُؤْنَةً كَوْنُ مُرادِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن تِلْكَ المُحاوَرَةِ الَّتِي تَصْدُرُ مِنهُ في ذَلِكَ المَوْقِفِ إظْهارُ العُذْرِ فِيهِ لِأبِيهِ وغَيْرِهِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ لا طَلَبُ المَغْفِرَةِ حَقِيقَةً وهَذا كَما قالَ المُعْتَزِلَةُ في سُؤالِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعالى مَعَ العِلْمِ بِامْتِناعِها في زَعْمِهِمْ والقَوْلُ بِأنَّ أهْلَ المَوْقِفِ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ وغَيْرُهم مِن سائِرِ المُؤْمِنِينَ والكُفّارِ سَواءٌ في العِلْمِ بِامْتِناعِ المَغْفِرَةِ لِلْمُشْرِكِ مَثَلًا في حَيِّزِ المَنعِ ورُبَّما يُدَّعى عَدَمُ المُساواةِ لِظاهِرِ طَلَبِ الكُفّارِ العَفْوَ والإخْراجَ مِنَ النّارِ ونَحْوَ ذَلِكَ بَلْ في الخَبَرَيْنِ السّابِقَيْنِ ما يَدُلُّ عَلى عَدَمِ عِلْمِ الأبِ بِحَقِيقَةِ الحالِ وأنَّهُ لا يُغْفَرُ لَهُ فَتَأمَّلْ ذاكَ واللَّهُ سُبْحانَهُ يَتَوَلّى هُداكَ وبَقِيَ أيْضًا أنَّهُ اسْتَشْكَلَ القَوْلُ بِأنَّ اسْتِغْفارَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِأبِيهِ حَتّى تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ كانَ في حَياتِهِ بِما في سُورَةِ المُمْتَحَنَةِ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قَدْ كانَتْ لَكم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبْراهِيمَ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إلا قَوْلَ إبْراهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ حَيْثُ مُنِعَ مِنَ الِاقْتِداءِ بِهِ فِيهِ ولَوْ كانَ في حَياتِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنهُ لِأنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِغْفارُ بِمَعْنى طَلَبِ الإيمانِ لِأحْياءِ المُشْرِكِينَ وأُجِيبُ بِأنَّهُ إنَّما مُنِعَ مِنَ الِاقْتِداءِ بِظاهِرِهِ وظَنَّ (p-39)أنَّهُ جائِزٌ مُطْلَقًا كَما وقَعَ لِبَعْضِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم وسَيَأْتِي إنْ شاءُ اللَّهِ تَعالى تَحْقِيقُ ذَلِكَ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى الهادِي
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب