الباحث القرآني

﴿كَلا﴾ رَدْعٌ لِلْإنْسانِ عَنْ قَوْلَيْهِ المَحْكِيَّيْنِ وتَكْذِيبٌ لَهُ فِيهِما لا عَنِ الأخِيرِ فَقَطْ كَما في الوَجْهِ الأخِيرِ، وقَدْ نَصَّ الحَسَنُ عَلى ما قُلْنا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: المَعْنى: لَمْ أبْتَلِهِ بِالغِنى لِكَرامَتِهِ عَلَيَّ، (p-127)ولَمْ أبْتَلِهِ بِالفَقْرِ لِهَوانِهِ عَلَيَّ بَلْ ذَلِكَ لِمَحْضِ القَضاءِ والقَدَرِ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿بَلْ لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾ إلَخِ انْتِقالٌ وتَرَقٍّ مِن ذَمِّهِ بِالقَبِيحِ مِنَ القَوْلِ إلى الأقْبَحِ مِنَ الفِعْلِ والِالتِفاتِ إلى الخِطابِ لِتَشْدِيدِ التَّقْرِيعِ وتَأْكِيدِ التَّشْنِيعِ. وقِيلَ: هو بِتَقْدِيرِ: قُلْ؛ فَلا التِفاتَ. نَعَمْ فِيهِ مِنَ الإشارَةِ إلى تَنْقِيصِهِمْ ما فِيهِ، والجَمْعُ بِاعْتِبارِ مَعْنى الإنْسانِ إذِ المُرادُ هو الجِنْسُ؛ أيْ: بَلْ لَكم أفْعالٌ وأحْوالٌ أشَدُّ شَرًّا مِمّا ذُكِرَ وأدَلُّ عَلى تَهالُكِكم عَلى المالِ حَيْثُ يُكْرِمُكُمُ اللَّهُ تَعالى بِكَثْرَةِ المالِ فَلا تُؤَدُّونَ ما يَلْزَمُكم فِيهِ مِن إكْرامِ اليَتِيمِ بِالمَبَرَّةِ بِهِ والإحْسانِ إلَيْهِ. وفِي الحَدِيثِ: ««أحَبُّ البُيُوتِ إلى اللَّهِ تَعالى بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ مُكْرَمٌ»». وقَرَأ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ وأبُو رَجاءٍ وقَتادَةُ والجَحْدَرِيُّ وأبُو عَمْرٍو: «لا يُكْرِمُونَ» بِياءِ الغَيْبَةِ. ﴿ولا تَحاضُّونَ﴾ بِحَذْفِ إحْدى التّاءَيْنِ مِن تَتَحاضُّونَ؛ أيْ: ولا يَحُضُّ ويُحِثُّ بَعْضُكم بَعْضًا ﴿عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ أيْ: عَلى إطْعامِهِ فالطَّعامُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى الإطْعامِ كالعَطاءِ بِمَعْنى الإعْطاءِ. وزَعَمَ أبُو حَيّانَ أنَّ الأوْلى أنْ يُرادَ بِهِ الشَّيْءُ المَطْعُومُ، ويَكُونُ الكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ: عَلى بَذْلِ طَعامِ المِسْكِينِ، والمُرادُ بِالمِسْكِينِ ما يَعُمُّ الفَقِيرَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وعَلْقَمَةُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ والشِّيرَزِيُّ عَنِ الكِسائِيِّ كَقِراءَةِ الجَماعَةِ إلّا أنَّهم ضَمُّوا تاءَ «تُحاضُّونَ» مِنَ المُحاضَّةِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو ومَن سَمِعْتُ الحَسَنَ ومَن مَعَهُ: «ولا يَحُضُّونَ» بِياءِ الغَيْبَةِ ولا ألِفَ بَعْدَ الحاءِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِتاءِ الخِطابِ كَذَلِكَ وكَذا الفِعْلانِ بَعْدُ، والفِعْلُ عَلى القِراءَتَيْنِ جُوِّزَ أنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا ومَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ. فَقِيلَ: أنْفُسَهم أوْ أنْفُسَكُمْ، وقِيلَ: أهْلِيهِمْ أوْ أهْلِيكُمْ، وقِيلَ: أحَدًا. وجُوِّزَ -وهُوَ الأوْلى- أنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مَنزِلَةَ اللّازِمِ لِلتَّعْمِيمِ. ﴿وتَأْكُلُونَ التُّراثَ﴾ أيِ المِيراثَ، وأصْلُهُ وُراثٌ؛ فَأُبْدِلَتِ الواوُ تاءً كَما في تُخْمَنَةٍ وتُكْأةٍ ونَحْوِهِما. ﴿أكْلا لَمًّا﴾ أيْ: ذا «لَمٍّ» أوْ هو نَفْسُ اللَّمِّ عَلى المُبالَغَةِ، واللَّمُّ الجَمْعُ، ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ: ؎ولَسْتُ بِمُسْتَبِقٍ أخًا لا تَلُمُّهُ عَلى شَعَثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ والمُرادُ بِهِ هُنا الجَمْعُ بَيْنَ الحَلالِ والحَرامِ وما يُحْمَدُ وما لا يُحْمَدُ، ومِنهُ قَوْلُ الحَطِيئَةِ: ؎إذا كانَ لَمًّا يَتْبَعُ الذَّمُّ رَبَّهُ ∗∗∗ فَلا قَدَّسَ الرَّحْمَنُ تِلْكَ الطَّواحِنا يَعْنِي: إنَّكم تَجْمَعُونَ في أكْلِكم بَيْنَ نَصِيبِكم مِنَ المِيراثِ ونَصِيبِ غَيْرِكم. ويُرْوى أنَّهم كانُوا لا يُوَرِّثُونَ النِّساءَ ولا صِغارَ الأوْلادِ فَيَأْكُلُونَ نَصِيبَهم. ويَقُولُونَ: لا يَأْخُذُ المِيراثَ إلّا مَن يُقاتِلُ ويَحْمِي الحَوْزَةَ، هَذا وهم يَعْلَمُونَ مِن شَرِيعَةِ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهم يَرِثُونَ فانْدَفَعَ ما قِيلَ: إنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وآيَةُ المَوارِيثِ مَدَنِيَّةٌ، ولا يُعْلَمُ الحِلُّ والحُرْمَةُ إلّا مِنَ الشَّرْعِ، فَإنَّ الحُسْنَ والقُبْحَ العَقْلِيَّيْنِ لَيْسا مَذْهَبًا لَنا. وقِيلَ: يَعْنِي تَأْكُلُونَ ما جَمَعَهُ المَيِّتُ المَوْرُوثُ مِن حَلالٍ وحَرامٍ عالِمِينَ بِذَلِكَ فَتَلُمُّونَ في الأكْلِ بَيْنَ حَلالِهِ وحَرامِهِ. وفي الكَشّافِ: يَجُوزُ أنْ يُذَمَّ الوارِثُ الَّذِي ظَفِرَ بِالمالِ سَهْلًا مَهْلًا مِن غَيْرِ أنْ يَعْرَقَ فِيهِ جَبِينُهُ فَيُسْرِفَ في إنْفاقِهِ ويَأْكُلَهُ أكْلًا واسِعًا جامِعًا بَيْنَ ألْوانِ المُشْتَهِياتِ مِنَ الأطْعِمَةِ والأشْرِبَةِ والفَواكِهِ ونَحْوِها كَما يَفْعَلُهُ الوُرّاثُ الباطِلُونَ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ غَيْرُ مُناسِبٍ لِلسِّياقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب