الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ أيْ: مَحَنُوهم في دِينِهِمْ لِيَرْجِعُوا عَنْهُ، والمُرادُ بِالَّذِينِ فَتَنُوا وبِالمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ المَفْتُونِينَ، أمّا أصْحابُ الأُخْدُودِ والمَطْرُوحُونَ فِيهِ خاصَّةً وأمّا الأعَمُّ، ويَدْخُلُ المَذْكُورُونَ دُخُولًا أوَّلِيًّا وهو الأظْهَرُ. وقِيلَ: المُرادُ بِالمَوْصُولِ كُفّارُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَذَّبُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ بِأنْواعٍ مِنَ العَذابِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُقَوِّي أنَّ الآيَةَ (p-91)فِي قُرَيْشٍ؛ لِأنَّ هَذا اللَّفْظَ فِيهِمْ أحْكَمُ مِنهُ في أُولَئِكَ الَّذِينَ قَدْ عُلِمَ أنَّهم ماتُوا عَلى كُفْرِهِمْ، وأمّا قُرَيْشٌ فَكانَ فِيهِمْ وقْتَ نُزُولِها مَن تابَ وآمَنَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا عَلى ما فِيهِ لا يُعَكِّرُ عَلى أظَهْرِيَّةِ العُمُومِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا مِن فِتَنِهِمْ ﴿فَلَهم عَذابُ جَهَنَّمَ﴾ أيْ: بِسَبَبِ فَتْنِهِمْ ذَلِكَ. ﴿ولَهم عَذابُ الحَرِيقِ﴾ وهو نارٌ أُخْرى زائِدَةُ الإحْراقِ كَما تُنْبِئُ عَنْهُ صِيغَةُ فَعِيلٍ لِعَدَمِ تَوْبَتِهِمْ ومُبالاتِهِمْ بِما صَدَرَ مِنهم. وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: أيْ: ﴿فَلَهم عَذابُ جَهَنَّمَ﴾ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ فَإنَّ فِعْلَهم ذَلِكَ لا يُتَصَوَّرُ مِن غَيْرِ الكافِرِ ﴿ولَهم عَذابُ الحَرِيقِ﴾ بِسَبَبِ فَتْنِهِمُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ، وفي جَعْلِ ذَلِكَ جَزاءَ الفِتَنِ مِنَ الحُسْنِ ما لا يَخْفى. وتُعُقِّبَ بِأنَّ عُنْوانَ الكُفْرِ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ في جانِبِ الصِّلَةِ، وإنَّما المُصَرَّحُ بِهِ الفِتَنُ وعَدَمُ التَّوْبَةِ، فالأظْهَرُ اعْتِبارُهُما سَبَبَيْنِ في جانِبِ الخَبَرِ عَلى التَّرْتِيبِ، وقِيلَ: أيْ: فَلَهم جَهَنَّمُ في الآخِرَةِ ولَهم عَذابُ الحَرِيقِ في الدُّنْيا بِناءً عَلى ما رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ ومَن سَمِعْتَ أنَّ النّارَ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِمْ فَأحْرَقَتْهم وقَدْ عَلِمْتَ حالَهُ، وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ يَأْبى عَنْهُ لِأنَّ أُولَئِكَ المُحْرِقِينَ لَمْ يُنْقَلْ لَنا أنَّ أحَدًا مِنهم تابَ بَلِ الظّاهِرُ أنَّهم لَمْ يُلْعَنُوا إلّا وهم قَدْ ماتُوا عَلى الكُفْرِ وفِيهِ نَظَرٌ، وعَلَيْهِ إنَّما أخَّرَ ﴿ولَهم عَذابُ الحَرِيقِ﴾ ورِعايَةً لِلْفَواصِلِ أوْ لِلتَّتْمِيمِ والتَّرْدِيفِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ ذَلِكَ وهو العُقُوبَةُ العُظْمى كائِنٌ لا مَحالَةَ، وهَذا أيْضًا لا يَتَجاوَزُونَهُ. وفي الكَشْفِ: الوَجْهُ أنَّ عَذابَ جَهَنَّمَ وعَذابَ الحَرِيقِ واحِدٌ، وصْفٌ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لِلْمَبْعُودِينَ جِدًّا عَنْ رَحْمَتِهِ عَزَّ وجَلَّ، وعَلى أنَّهُ عَذابٌ هو مَحْضُ الحَرِيقِ وهو الحَرْقُ البالِغُ وكَفى بِهِ عَذابًا. والظّاهِرُ أنَّهُ اعْتَبَرَ الحَرِيقَ مَصْدَرًا، والإضافَةَ بَيانِيَّةً ولا بَأْسَ بِذَلِكَ إلّا أنَّ الوَحْدَةَ الَّتِي ادَّعاها خِلافُ ظاهِرِ العَطْفِ. وقالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ جُعِلَ مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ لِلْمُبالَغَةِ فِيهِ لَأنَّ عَذابَ جَهَنَّمَ بِالزَّمْهَرِيرِ والإحْراقِ وغَيْرِهِما كانَ أقْرَبَ، ولَعَلَّ ما ذَكَرْناهُ أبْعَدُ عَنِ القالِ والقِيلِ. وجُمْلَةُ ﴿فَلَهم عَذابُ﴾ إلَخْ وقَعَتْ خَبَرًا لِأنَّ، أوِ الخَبَرُ الجارُّ والمَجْرُورُ، و«عَذابُ» مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ وهو الأحْسَنُ والفاءُ لِما في المُبْتَدَأِ مِن مَعْنى الشَّرْطِ ولا يَضُرُّ نَسْخُهُ بِأنَّ، وإنْ زَعَمَهُ الأخْفَشُ. واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى بَعْضِ أوْجُهِها عَلى أنَّ عَذابَ الكُفّارِ يُضاعَفُ بِما قارَنَهُ مِنَ المَعاصِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب