الباحث القرآني
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأهْلَكْناهم بِذُنُوبِهِمْ﴾ اسْتِئْنافٌ آخَرُ عَلى ما ذَكَرَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ مَسُوقٌ لِتَقْرِيرِ ما سِيقَ لَهُ الِاسْتِئْنافُ الأوَّلُ بِتَشْبِيهِ دَأْبِهِمْ بِدَأْبِ المَذْكُورِينَ لَكِنْ لا بِطْرِيقِ التَّكْرِيرِ المَحْضِ بَلْ بِتَغْيِيرِ العُنْوانِ وجَعْلِ الدَّأْبِ في الجانِبَيْنِ عِبارَةً عَمّا يُلازِمُ مَعْناهُ الأوَّلَ مِن تَغْيِيرِ الحالِ وتَغْيِيرِ النِّعْمَةِ أخْذًا مِمّا نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا﴾ إلَخْ أيْ دَأْبُ هَؤُلاءِ وشَأْنُهُمُ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ التَّغْيِيرَيْنِ المَذْكُورَيْنِ كَدَأْبِ أُولَئِكَ حَيْثُ غَيَّرُوا حالَهم فَغَيَّرَ اللَّهُ تَعالى نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فَقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ( ﴿كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ﴾ ) تَفْسِيرٌ لِدَأْبِهِمُ الَّذِي فَعَلُوهُ مِن تَغْيِيرِهِمْ لِحالِهِمْ، وأُشِيرَ بِلَفْظِ الرَّبِّ إلى أنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ كانَ بِكُفْرانِ نِعَمِهِ تَعالى لِما فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ مُرَبِّيهِمُ المُنْعِمُ عَلَيْهِمْ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ( ﴿فَأهْلَكْناهُمْ﴾ ) تَفْسِيرٌ لِدَأْبِهِمُ الَّذِي فُعِلَ بِهِمْ مِن تَغْيِيرِهِمْ تَعالى ما بِهِمْ مِن نِعْمَتِهِ جَلَّ شَأْنُهُ.
وفِي الإهْلاكِ رَمْزٌ إلى التَّغْيِيرِ ولِذا عَبَّرَ بِهِ دُونَ الأخْذِ المُعَبَّرِ بِهِ أوَّلًا ولَيْسَ الأخْذُ مِثْلَهُ في ذَلِكَ، ألا تَرى أنَّهُ كَثِيرًا ما يُطْلَقُ الإهْلاكُ عَلى إخْراجِ الشَّيْءِ عَنْ نِظامِهِ الَّذِي هو عَلَيْهِ، ولَمْ نَرَ إطْلاقَ الأخْذِ عَلى ذَلِكَ، وقِيلَ؛ إنَّما عَبَّرَ أوَّلًا بِالأخْذِ وهُنا بِالإهْلاكِ لِأنَّ جِنايَتَهم هُنا الكُفْرانُ وهو يَقْتَضِي أعْظَمَ النَّكالِ والإهْلاكِ مُشِيرٌ إلَيْهِ ولا كَذَلِكَ ما تَقَدَّمَ وفِيهِ نَظَرٌ، وأمّا دَأْبُ قُرَيْشٍ فَمُسْتَفادٌ مِمّا ذُكِرَ بِحُكْمِ التَّشْبِيهِ فَلِلَّهِ تَعالى دَرُّ التَّنْزِيلِ حَيْثُ اكْتَفى في كُلٍّ مِنَ التَّشْبِيهَيْنِ بِتَفْسِيرِ أحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وفي الفَرائِدِ أنَّ هَذا لَيْسَ بِتَكْرِيرٍ لِأنَّ مَعْنى الأوَّلِ: حالُ هَؤُلاءِ كَحالِ آلِ فِرْعَوْنَ في الكُفْرِ فَأخَذَهم وأتاهُمُ العَذابُ، ومَعْنى الثّانِي: حالُ هَؤُلاءِ كَحالِ آلِ فِرْعَوْنَ (p-21)فِي تَغْيِيرِهِمُ النِّعَمَ وتَغْيِيرِ اللَّهِ تَعالى حالَهم بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّغْيِيرِ وهو أنَّهُ سُبْحانَهُ أغْرَقَهُمْ، بِدَلِيلِ ما قَبْلَهُ وما ذَكَرْناهُ أتَمُّ تَحْرِيرًا، واعْتَرَضَهُ العَلّامَةُ الطِّيبِيُّ بِأنَّ النَّظْمَ الكَرِيمَ يَأْباهُ لِأنَّ وجْهَ التَّشْبِيهِ في الأوَّلِ كُفْرُهُمُ المُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ العِقابُ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ وجْهٌ في الثّانِي ما يُفْهَمُ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( كَذَّبُوا ) إلَخْ لِأنَّهُ مِثْلُهُ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما جُمْلَةٌ مُبْتَدَأةٌ بَعْدَ تَشْبِيهٍ صالِحَةٌ لِأنْ تَكُونَ وجْهَ الشَّبَهِ فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ( ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ﴾ ) وأمّا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ( ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ﴾ ) إلَخْ فَكالتَّعْلِيلِ لِحُلُولِ النَّكالِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ التَّشْبِيهَيْنِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِقَوْمٍ بَلْ هو مُتَناوَلٌ لِجَمِيعِ مَن يُغَيِّرُ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعالى مِنَ الأُمَمِ السّابِقَةِ واللّاحِقَةِ، فاخْتِصاصُهُ بِالوَجْهِ الثّانِي دُونَ الأوَّلِ وإيقاعُهُ وجْهًا لِلتَّشْبِيهِ مَعَ وُجُودِهِ صَرِيحًا كَما عَلِمْتَ بَعِيدٌ عَمَّنْ ذاقَ مَعْرِفَةَ الفَصاحَتَيْنِ، ووَقَفَ عَلى تَرْتِيبِ النَّظْمِ مِنَ الآيَتَيْنِ انْتَهى.
ولا يَخْفى أنَّ هَذا غَيْرُ وارِدٍ عَلى ما قَدَّمْناهُ عِنْدَ التَّأمُّلِ، والقَوْلُ في التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ أنَّ الأُولى لِبَيانِ حالِهِمْ في اسْتِحْقاقِهِمْ عَذابَ الآخِرَةِ والثّانِيَةَ لِبَيانِ اسْتِحْقاقِهِمْ عَذابَ الدُّنْيا، أوْ أنَّ المَقْصُودَ أوَّلًا تَشْبِيهُ حالِهِمْ بِحالِ المَذْكُورِينَ في التَّكْذِيبِ، والمَقْصُودَ ثانِيًا تَشْبِيهُ حالِهِمْ في الِاسْتِئْصالِ، أوْ أنَّ المُرادَ فِيما تَقَدَّمَ بَيانُ أخْذِهِمْ بِالعَذابِ، وهُنا بَيانُ كَيْفِيَّتِهِ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ.
وقالَ بَعْضُ الأكابِرِ: إنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ( كَدَأْبِ ) في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ تَغْيِيرًا كائِنًا كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أيْ كَتَغْيِيرِهِمْ عَلى أنَّ دَأْبَهم عِبارَةٌ عَمّا فَعَلُوهُ كَما هو الأنْسَبُ بِمَفْهُومِ الدَّأْبِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ( ﴿كَذَّبُوا﴾ ) إلَخْ تَفْسِيرٌ لَهُ بِتَمامِهِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ( ﴿فَأهْلَكْناهُمْ﴾ ) إلَخْ إخْبارٌ بِتَرَتُّبِ العُقُوبَةِ عَلَيْهِ لا أنَّهُ مِن تَمامِ تَفْسِيرِهِ، ولا ضَيْرَ في تَوَسُّطِ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: ( ﴿وأنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ) بَيْنَهُما سَواءٌ عَطْفًا أوِ اسْتِئْنافًا، وفِيهِ خُرُوجُ الآيَةِ عَنْ نَمَطِ أُخْتِها بِالكُلِّيَّةِ، وأيْضًا لا وجْهَ لِتَقْيِيدِ التَّغْيِيرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُ اللَّهِ تَعالى بِكَوْنِهِ كَتَغْيِيرِ آلِ فِرْعَوْنَ عَلى أنَّ كَوْنَ الجارِّ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ بَعِيدٌ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الفاصِلِ، وإنْ قُلْنا بِجَوازِ الفَصْلِ، ومَن أنْصَفَ عَلِمَ أنَّ بَلاغَةَ التَّنْزِيلِ تَقْتَضِي الوَجْهَ الأوَّلَ، والِالتِفاتُ إلى نُونِ العَظَمَةِ في أهْلَكْنا جَرْيًا عَلى سُنَنِ الكِبْرِياءِ لِتَهْوِيلِ الخَطْبِ، وهَذا لا يُنافِي النُّكْتَةَ الَّتِي أشَرْنا إلَيْها سابِقًا كَما لا يَخْفى، والكَلامُ في الفاءِ وذِكْرُ الذُّنُوبِ عَلى طَرْزِ ما ذَكَرْنا في نَظِيرِهِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ عَطْفٌ عَلى ( أهْلَكْنا ) وفي عَطْفِهِ عَلَيْهِ مَعَ انْدِراجِ مَضْمُونِهِ تَحْتَ مَضْمُونِهِ إيذانٌ بِكَمالِ هَوْلِ الإغْراقِ وفَظاعَتِهِ ( ﴿وكُلٌّ﴾ ) أيْ: كُلٌّ مِنَ الفِرَقِ المَذْكُورِينَ أوْ كُلٌّ مِن هَؤُلاءِ وأُولَئِكَ أوْ كُلٌّ مِن آلِ فِرْعَوْنَ وكُفّارِ قُرَيْشٍ عَلى ما قِيلَ بِناءً عَلى أنَّ ما قَبْلَهُ في تَشْبِيهِ دَأْبِ كَفَرَةِ قُرَيْشٍ بِدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ صَرِيحًا وتَعْيِينًا وأنَّ مِثْلَهُ يَكْفِي قَرِينَةً لِلتَّخْصِيصِ ﴿كانُوا ظالِمِينَ﴾ أيْ: أنْفُسَهم بِالكُفْرِ والمَعاصِي ولَوْ عَمَّمَ لَكانَ لَهُ وجْهٌ أوْ واضِعِينَ لِلْكُفْرِ والتَّكْذِيبِ مَكانَ الإيمانِ والتَّصْدِيقِ ولِذَلِكَ أصابَهم ما أصابَهم.
{"ayah":"كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَـٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَغۡرَقۡنَاۤ ءَالَ فِرۡعَوۡنَۚ وَكُلࣱّ كَانُوا۟ ظَـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق