الباحث القرآني
﴿ذَلِكَ﴾ أيِ: الضَّرْبُ والعَذابُ اللَّذانِ هُما هُما وهو مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وتَقْدِيمُ الأيْدِي مَجازٌ عَنِ الكَسْبِ والفِعْلِ، أيْ ذَلِكَ واقِعٌ بِسَبَبِ ما كَسَبْتُمْ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ قِيلَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها، أيْ والأمْرُ أنَّهُ تَعالى لَيْسَ بِمُعَذِّبٍ لِعَبِيدِهِ مِن غَيْرِ ذَنْبٍ مِن قِبَلِهِمْ، والتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْيِ الظُّلْمِ مَعَ أنَّ تَعْذِيبَهم بِغَيْرِ ذَنْبٍ لَيْسَ بِظُلْمٍ قَطْعًا عَلى ما تَقَرَّرَ مِن قاعِدَةِ أهْلِ السُّنَّةِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ ظُلْمًا بالِغًا لِبَيانِ كَمالِ نَزاهَتِهِ تَعالى بِتَصْوِيرِهِ بِصُورَةِ ما يَسْتَحِيلُ صُدُورُهُ عَنْهُ تَعالى مِنَ الظُّلْمِ.
وقالَ البَيْضاوِيُّ بَيَّضَ اللَّهُ غُرَّةَ أحْوالِهِ: هو عَطْفٌ عَلى ( ما ) لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ سَبَبِيَّتَهُ مُقَيَّدَةٌ بِانْضِمامِهِ إلَيْهِ إذْ لَوْلاهُ لَأمْكَنَ أنْ يُعَذِّبَهم بِغَيْرِ ذُنُوبِهِمْ، لا أنْ لا يُعَذِّبَهم بِذُنُوبِهِمْ، فَإنَّ تَرْكَ التَّعْذِيبِ مِن مُسْتَحِقِّهِ لَيْسَ بِظُلْمٍ شَرْعًا ولا عَقْلًا (p-18)حَتّى يَنْتَهِضَ نَفْيُ الظُّلْمِ سَبَبًا لِلتَّعْذِيبِ وأرادَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلى الزَّمَخْشَرِيِّ عامَلَهُ اللَّهُ تَعالى بِعَدْلِهِ حَيْثُ جَعَلَ كُلًّا مِنَ الأمْرَيْنِ سَبَبًا بِناءً عَلى مَذْهَبِهِ في وُجُوبِ الأصْلَحِ، فَقَوْلُهُ: لا أنْ لا يُعَذِّبَهم عَطْفٌ عَلى أنْ يُعَذِّبَهُمْ، والمَعْنى أنَّ سَبَبَ هَذا القَيْدِ دَفْعُ احْتِمالِ أنْ يُعَذِّبَهم بِغَيْرِ ذُنُوبِهِمْ لا احْتِمالَ أنْ لا يُعَذِّبَهم بِذُنُوبِهِمْ فَإنَّهُ أمْرٌ حَسَنٌ، وقَوْلُهُ لِلدَّلالَةِ إلَخْ عَلى مَعْنى أنَّ تَعَيُّنَهُ لِلسَّبَبِيَّةِ إنَّما يَحْصُلُ بِهَذا القَيْدِ إذْ بِإمْكانِ تَعْذِيبِهِمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ سَبَبُ التَّعْذِيبِ إرادَةَ العَذابِ بِلا ذَنْبٍ، فَحاصِلُ مَعْنى الآيَةِ أنَّ عَذابَكم هَذا إنَّما نَشَأ مِن ذُنُوبِكم لا مِن شَيْءٍ آخَرَ، فَلا يَرُدُّ عَلَيْهِ ما قِيلَ: كَوْنُ تَعْذِيبِ اللَّهِ تَعالى لِلْعِبادِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ظُلْمًا لا يُوافِقُ مَذْهَبَ الجَماعَةِ، وما قِيلَ: إنَّ هَذا يُخالِفُ ما في آلِ عِمْرانَ مِن أنَّ سَبَبِيَّتَهُ لِلْعَذابِ مِن حَيْثُ إنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ يَسْتَلْزِمُ العَدْلَ المُقْتَضِيَ إثابَةَ المُحْسِنِ ومُعاقَبَةَ المُسِيءِ مَدْفُوعٌ بِأنَّ لِنَفْيِ الظُّلْمِ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما ما ذُكِرَ مِن إثابَةِ المُحْسِنِ إلَخْ، والآخَرُ عَدَمُ التَّعْذِيبِ بِلا ذَنْبِ وكُلٌّ مِنهُما يُؤَوَّلُ إلى مَعْنى العَدْلِ فَلا تَدافُعَ بَيْنَ كَلامَيْهِ، وأمّا جَعْلُهُ هُناكَ سَبَبًا وهُنا قَيْدًا لِلسَّبَبِ فَلا يُوجِبُ التَّدافُعَ أيْضًا، فَإنَّ المُرادَ كَما ذَكَرْنا فِيما قَبْلُ بِالسَّبَبِ الوَسِيلَةُ المَحْضَةُ وهو وسِيلَةٌ سَواءٌ اعْتُبِرَ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا أوْ قَيْدًا لِلسَّبَبِ، ولِمَوْلانا شَيْخِ الإسْلامِ في هَذا المَقامِ كَلامٌ لا يَخْفى عَلَيْكَ رَدُّهُ بَعْدَ الوُقُوفِ عَلى ما ذَكَرْنا، وقَدْ تَقَدَّمَ لَكَ بَسْطُ الكَلامِ فِيهِ، ومِنَ النّاسِ مَن بَيَّنَ قَوْلَ القاضِي: لِلدَّلالَةِ إلَخْ بِقَوْلِهِ يُرِيدُ أنَّ سَبَبِيَّةَ الذُّنُوبِ لِلْعَذابِ تَتَوَقَّفُ عَلى انْتِفاءِ الظُّلْمِ مِنهُ تَعالى فَإنَّهُ لَوْ جازَ صُدُورُهُ عَنْهُ سُبْحانَهُ لَأمْكَنَ أنْ يُعَذِّبَ عَبِيدَهُ بِغَيْرِ ذُنُوبِهِمْ.
فَلا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ الذَّنْبُ سَبَبًا لِلْعَذابِ لا في هَذِهِ الصُّورَةِ ولا في غَيْرِها؛ ثُمَّ قالَ: فَإنْ قُلْتَ: لا يَلْزَمُ مِن هَذا إلّا نَفْيُ انْحِصارِ السَّبَبِ لِلْعَذابِ في الذُّنُوبِ لا نَفْيُ سَبَبِيَّتِها لَهُ والكَلامِ فِيهِ إذْ يَجُوزُ أنْ يَقَعَ العَذابُ في الصُّورَةِ المَفْرُوضَةِ بِسَبَبٍ غَيْرِ الذُّنُوبِ، ولا يُنافِي هَذا كَوْنَها سَبَبًا لَهُ في غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ كَما في أهْلِ بَدْرٍ، فَلا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
قُلْتُ: السَّبَبُ المَفْرُوضُ في الصُّورَةِ المَذْكُورَةِ إنْ أوْجَبَ اسْتِحْقاقَ العَذابِ يَكُونُ ذَنْبًا لا مَحالَةَ، والمَفْرُوضُ خِلافُهُ وإنْ لَمْ يُوجِبْ فَلا يُتَصَوَّرُ أنْ يَكُونَ سَبَبًا إذْ لا مَعْنى لِكَوْنِ شَيْءٍ سَبَبًا إلّا كَوْنُهُ مُقْتَضِيًا لِاسْتِحْقاقِهِ لَهُ فَإذا انْتَفى هَذا يَنْتَفِي ذَلِكَ، وبِالجُمْلَةِ فَمَآلُ كَوْنِ التَّعْذِيبِ مِن غَيْرِ ذَنْبٍ إلى كَوْنِهِ بِدُونِ السَّبَبِ لِانْحِصارِ السَّبَبِ فِيهِ انْتَهى.
ورُدَّ بِأنَّ قَوْلَهُ: وإنْ لَمْ يُوجِبْ فَلا يُتَصَوَّرُ أنْ يَكُونَ سَبَبًا مَمْنُوعٌ، فَإنَّ السَّبَبَ المُوجِبَ ما يَكُونُ مُؤَثِّرًا في حُصُولِ شَيْءٍ سَواءٌ كانَ عَنِ اسْتِحْقاقٍ أوْ لَمْ يَكُنْ، ألا يَرى أنَّ الضَّرْبَ بِظُلْمِ والقَتْلَ كَذَلِكَ سَبَبانِ لِلْإيلامِ والمَوْتِ مَعَ أنَّهُما لَيْسا عَنِ اسْتِحْقاقٍ، فاعْتِراضُ السّائِلِ واقِعٌ مَوْقِعَهُ ولا يُمْكِنُ التَّقَصِّي عَنْهُ إلّا بِما قَرَّرَ سابِقًا مِن مَعْنى الآيَةِ، فَإنَّ المَقامَ مَقامُ تَعْيِينِ السَّبَبِيَّةِ وتَخْصِيصِها لِلذُّنُوبِ وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا بِنَفْيِ صُدُورِ العَذابِ بِلا ذَنْبٍ مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، ومِن هَنا عُلِمَ أنَّ قَوْلَهُ: وبِالجُمْلَةِ إلَخْ لَيْسَ بِسَدِيدٍ فَإنَّ مَبْناهُ كَوْنُ الِاسْتِحْقاقِ شَرْطًا لِلسَّبَبِيَّةِ وقَدْ مَرَّ ما فِيهِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ المُخالَفَةِ لِكَلامِ الأجِلَّةِ مِن كَوْنِ نَفْيِ الظُّلْمِ سَبَبًا آخَرَ لِلتَّعْذِيبِ لِأنَّ سَبَبِيَّةَ نَفْيِ الظُّلْمِ مَوْقُوفَةٌ عَلى إمْكانِ إرادَةِ التَّعْذِيبِ بِلا ذَنْبٍ وكَوْنِها سَبَبًا لِلْعَذابِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَآلُ كَوْنِ التَّعْذِيبِ بِلا ذَنْبٍ إلى كَوْنِهِ بِدُونِ السَّبَبِ فَتَأمَّلْ، فالمَقامُ مُعْتَرَكُ الإفْهامِ، ثُمَّ إنَّ المُرادَ في الآيَةِ نَفْيُ نَفْسِ الظُّلْمِ وإنَّما كَثُرَ تَوْزِيعًا عَلى الآحادِ كَأنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ بِظالِمٍ لِفُلانٍ ولا بِظالِمٍ لِفُلانٍ وهَكَذا فَلَمّا جَمَعَ هَؤُلاءِ عُدِّلَ إلى ظَلّامٍ لِذَلِكَ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى عِظَمِ العَذابِ عَلى سَبِيلِ الكِنايَةِ وذَلِكَ لِأنَّ الفِعْلَ يَدُلُّ بِظاهِرِهِ عَلى غايَةِ الظُّلْمِ إذا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمُسْتَحَقِّهِ فَإذا صَدَرَ مِمَّنْ هو أعْدَلُ العادِلِينَ دَلَّ عَلى أنَّهُ اسْتَحَقَّ أشَدَّ العَذابِ لِأنَّهُ أشَدُّ المُسِيئِينَ، قالَ في ”الكَشْفِ“: وهَذا أوْفَقُ لِلَطائِفِ (p-19)كَلامِ اللَّهِ تَعالى المَجِيدِ، وفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ مَرَّ لَكَ بَعْضُها.
{"ayah":"ذَ ٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَیۡسَ بِظَلَّـٰمࣲ لِّلۡعَبِیدِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق