الباحث القرآني

﴿وإذْ يُرِيكُمُوهم إذِ التَقَيْتُمْ في أعْيُنِكم قَلِيلا﴾ مُقَدَّرٌ بِمُضْمَرٍ خُوطِبَ بِهِ الكُلُّ بِطَرِيقِ التَّلْوِينِ والتَّعْمِيمِ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلُ، والضَّمِيرانِ مَفْعُولا يُرِي و( قَلِيلًا ) حالٌ مِنَ الثّانِي، وإنَّما قَلَّلَهم سُبْحانَهُ في أعْيُنِ المُسْلِمِينَ حَتّى قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إلى مَن بِجَنْبِهِ: أتَراهم سَبْعِينَ؟ فَقالَ: أراهم مِائَةً تَثْبِيتًا لَهم وتَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿ويُقَلِّلُكم في أعْيُنِهِمْ﴾ حَتّى قالَ أبُو جَهْلٍ: إنَّما أصْحابُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أكَلَةُ جَزُورٍ، وكانَ هَذا التَّقْلِيلُ في ابْتِداءِ الأمْرِ قَبْلَ التِحامِ القِتالِ لِيَجْتَرِئُوا عَلَيْهِمْ ويَتْرُكُوا الِاسْتِعْدادَ والِاسْتِمْدادَ ثُمَّ كَثَّرَهم سُبْحانَهُ حَتّى رَأوْهم مَثَلَيْهِمْ لِتُفاجِئَهُمُ الكَثْرَةُ فَيَبْهَتُوا ويَهابُوا. ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أمْرًا كانَ مَفْعُولا وإلى اللَّهُ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ كُرِّرَ لِاخْتِلافِ الفِعْلِ المُعَلَّلِ بِهِ إذْ هو في الأوَّلِ اجْتِماعُهم بِلا مِيعادٍ وهُنا تَقْلِيلُهم ثُمَّ تَكْثِيرُهم، أوْ لِأنَّ المُرادَ بِالأمْرِ ثُمَّ الِالتِقاءِ عَلى الوَجْهِ المَحْكِيِّ، وهاهُنا إعْزازُ الإسْلامِ وأهْلِهِ وإذْلالُ الشِّرْكِ وحِزْبِهِ، هَذا وذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّ ما وقَعَ في هَذِهِ الواقِعَةِ مِن عَظائِمِ الآياتِ فَإنَّ البَصَرَ وإنْ كانَ قَدْ يَرى الكَثِيرَ قَلِيلًا والقَلِيلَ كَثِيرًا لَكِنْ لا عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ ولا إلى ذَلِكَ الحَدِّ، وإنَّما يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بِصَدِّ الأبْصارِ عَنْ إبْصارِ بَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ مَعَ التَّساوِي في الشَّرائِطِ، واعْتُرِضَ بِأنَّ ما ذُكِرَ مِنَ التَّعْلِيلِ مُناسِبٌ لِتَقْلِيلِ الكَثِيرِ لا لِتَكْثِيرِ القَلِيلِ، وأُجِيبُ بِأنَّ تَكْثِيرَ القَلِيلِ مِن جانِبِ المُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ومِن جانِبِ الكَفَرَةِ حَقِيقَةٌ فَلا يَحْتاجُ إلى تَوْجِيهٍ فِيهِما وإنَّما المُحْتاجُ إلَيْهِ تَقْلِيلُ الكَثِيرِ، وذَكَرَ في ”الكَشّافِ“ طَرِيقَيْنِ لِإبْصارِ الكَثِيرِ قَلِيلًا أنْ يَسْتُرَ اللَّهُ تَعالى بَعْضَهُ بِساتِرٍ أوْ يُحْدِثَ في عُيُونِهِمْ ما يَسْتَقِلُّونَ بِهِ الكَثِيرَ كَما خَلَقَ في عُيُونٍ الحَوَلَ ما يَسْتَكْثِرُونَ بِهِ القَلِيلَ فَيَرَوْنَ الواحِدَ اثْنَيْنِ، وعَلَيْهِ فَيُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ رُؤْيَتَهم لِلْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْهِمْ مِن قَبِيلِ رُؤْيَةِ الأحْوَلِ بَلْ هي أعْظَمُ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُرادَ مِثْلَيْ أنْفُسِهِمْ وحِينَئِذٍ لا يُحْتاجُ إلى حَدِيثِ رُؤْيَةِ المَلائِكَةِ مَعَ المُؤْمِنِينَ، وفي الِانْتِصافِ أنَّ في ذَلِكَ دَلِيلًا بَيِّنًا عَلى أنَّهُ تَعالى هو الَّذِي يَخْلُقُ الإدْراكَ في الحاسَّةِ غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلى سَبَبٍ مِن مُقابَلَةٍ أوْ قُرْبٍ أوِ ارْتِفاعِ حُجُبٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إذْ لَوْ كانَتْ هَذِهِ الأسْبابُ مُوجِبَةً لِلرُّؤْيَةِ عَقْلًا لَما أمْكَنَ أنَّ يَسْتَتِرَ عَنْهُمُ البَعْضُ وقَدْ أدْرَكُوا البَعْضَ، والسَّبَبُ المُوجِبُ مُشْتَرِكٌ، فَعَلى هَذا يَجُوزُ أنَّ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى الإدْراكَ مَعَ انْتِفاءِ هَذِهِ الأسْبابِ، ويَجُوزُ أنْ لا يَخْلُقَهُ مَعَ اجْتِماعِها فَلا رَبْطَ إذَنْ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ وبَيْنَها في مَقْدُورِ اللَّهِ تَعالى، وهي رادَّةٌ عَلى القَدَرِيَّةِ المُنْكِرِينَ لِرُؤْيَتِهِ تَعالى لِفَقْدِ شَرْطِها وهو التَّجَسُّمُ ونَحْوُهُ، وحَسْبُهم هَذِهِ الآيَةُ في بُطْلانِ زَعْمِهِمْ لَكِنَّهم يَمُرُّونَ عَلَيْها وهم عَنْها مُعَرَّضُونَ، ثُمَّ إنَّ رُؤْياهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَتْ في قَوْلٍ عَلى طَرْزِ رُؤْيَةِ أصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمُ المُشْرِكِينَ، وذَكَرَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّها كانَتْ في مَقامِ التَّعْبِيرِ فَلا يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ عَلى خِلافِ الواقِعِ، والقِلَّةُ مُعَبِّرَةٌ بِالمَغْلُوبِيَّةِ، والواقِعَةُ مِنَ الرُّؤْيَةِ مِنها ما يَقَعُ بِعَيْنِهِ ومِنها ما يُعَبَّرُ ويُؤَوَّلُ، وتَحْقِيقُ الكَلامِ فِيها يَقْتَضِي بَسْطًا فَتَيَقَّظْ واسْتَمِعْ لِما يُتْلى فَنَقُولُ: اعْلَمْ أنَّ النَّفْسَ النّاطِقَةَ الإنْسانِيَّةَ سُلْطانُ القُوى البَدَنِيَّةِ وهي آلاتٌ لَها، وظاهِرٌ أنَّ القُوَّةَ الجُسْمانِيَّةَ تَكِلُّ بِكَثْرَةِ العَمَلِ كالسَّيْفِ الَّذِي يَكِلُّ بِكَثْرَةِ القَطْعِ، فالنَّفْسُ إذا اسْتَعْمَلَتِ القُوى الظّاهِرَةَ اسْتِعْمالًا كَثِيرًا بِحَيْثُ يَعْرِضُ لَها الكَلالُ تُعَطِّلُها لِتَسْتَرِيحَ وتَقْوى كَما أنَّ الفارِسَ إذا أكْثَرَ رُكُوبَ فَرَسِهِ يُرْسِلُهُ لِيَسْتَرِيحَ ويَرْعى. (p-10)وهَذا التَّعَطُّلُ الحاصِلُ بِاسْتِرْخاءِ الأعْصابِ الدِّماغِيَّةِ المُتَّصِلَةِ بِآلاتِ الإدْراكِ هو النَّوْمُ وما يَتَراءى هُناكَ هو الرُّؤْيا إلّا أنَّ المُتَكَلِّمِينَ والحُكَماءَ المَشّائِينَ والمُتَألَّهِينَ مِنَ الإشْراقِيِّينَ والصُّوفِيَّةِ اخْتَلَفُوا في حَقِيقَتِها إلى مَذاهِبَ، فَذَهَبَ المُعْتَزِلَةُ وجُمْهُورُ أهْلِ السُّنَّةِ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ إلى أنَّ الرُّؤْيا خَيالاتٌ باطِلَةٌ، ووَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ فَقْدُ شَرائِطِ الإدْراكِ حالَةَ النَّوْمِ مِنَ المُقابَلَةِ وانْبِثاثِ الشُّعاعِ وتَوَسُّطِ الشَّغافِ والبِنْيَةِ المَخْصُوصَةِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّرائِطِ المُعْتَبَرَةِ في الإدْراكِ عِنْدَهم وعِنْدَ الجَماعَةِ، وهم لَمْ يَشْتَرِطُوا شَيْئًا مِن ذَلِكَ أنَّ الإدْراكَ حالَةَ النَّوْمِ خِلافُ العادَةِ وأنَّ النُّوَّمَ ضِدُّ الإدْراكِ فَلا يُجامِعُهُ فَلا تَكُونُ الرُّؤْيا إدْراكًا حَقِيقَةً، وقالَ الأُسْتاذُ أبُو إسْحاقَ: إنَّ الرُّؤْيا إدْراكُ حَقٍّ إذْ لا فَرْقَ بَيْنَ ما يَجِدُهُ النّائِمُ مِن نَفْسِهِ مِن إبْصارٍ وسَمْعٍ وذَوْقٍ وغَيْرِها مِنَ الإدْراكاتِ وما يَجِدُهُ اليَقِظانِ مِن إدْراكاتِهِ، فَلَوْ جازَ التَّشْكِيكُ فِيما يَجِدُهُ النّائِمُ لَجازَ التَّشْكِيكُ فِيما يَجِدُهُ اليَقْظانُ ولَزِمَ السَّفْسَطَةُ والقَدْحُ في الأُمُورِ المَعْلُومَةِ حَقِيقَتُها بِالبَدِيهَةِ، ولَمْ يُخالِفْ في كَوْنِ النَّوْمِ ضِدًّا لِلْإدْراكِ لَكِنَّهُ زَعَمَ أنَّ الإدْراكاتِ تَقُومُ بِجُزْءٍ مِن أجْزاءِ الإنْسانِ غَيْرَ ما يَقُومُ بِهِ النَّوْمُ مِن أجْزائِهِ فَلا يَلْزَمُ اجْتِماعُ الضِّدَّيْنِ في مَحَلٍّ. وذَهَبَ المَشّاءُونَ إلى أنَّ المُدْرَكَ في النَّوْمِ يُوجَدُ في الحِسِّ المُشْتَرَكِ الَّذِي هو لَوْحُ المَحْسُوساتِ ومَجْمَعُها، فَإنَّ الحَواسَّ الظّاهِرَةَ إذا أخَذَتْ صُوَرَ المَحْسُوساتِ الخارِجِيَّةِ وأدَّتْها إلى الحِسِّ المُشْتَرَكِ صارَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ مُشاهَدَةً هُناكَ، ثُمَّ إنَّ القُوَّةَ المُتَخَيَّلَةَ الَّتِي مِن شَأْنِها تَرْكِيبُ الصُّوَرِ إذا رَكَّبَتْ صُورَةً فَرُبَّما انْطَبَعَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ في الحِسِّ المُشْتَرَكِ وصارَتْ مُشاهَدَةً عَلى حَسَبِ مُشاهَدَةِ الصُّورَةِ الخارِجِيَّةِ، فَإنَّ مَدارَ المُشاهِدَةِ الِانْطِباعُ في الحِسِّ المُشْتَرَكِ سَواءٌ انْحَدَرَتْ إلَيْهِ مِنَ الخارِجِ أوْ مِنَ الدّاخِلِ، ثُمَّ إنَّ القُوَّةَ المُتَخَيَّلَةَ مِن شَأْنِها التَّصْوِيرُ دائِمًا لا تَسْكُنُ نَوْمًا ولا يَقَظَةَ فَلَوْ خَلِيَتْ وطِباعَها لَما فَتَرَتْ عَنْ رَسْمِ الصُّوَرِ في الحِسِّ المُشْتَرَكِ إلّا أنَّهُ يَصْرِفُها عَنْ ذَلِكَ أمْرانِ، أحَدُهُما تَوارُدُ الصُّوَرِ مِنَ الخارِجِ عَلى الحِسِّ المُشْتَرَكِ إذْ بَعْدَ انْتِقاشِهِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لا يَسَعُ أنْ يَنْتَقِشَ بِالصُّورَةِ الَّتِي تُرَكِّبُها المُتَخَيِّلَةُ. وثانِيهِما تَسَلُّطُ العَقْلِ أوِ الوَهْمِ عَلَيْها بِالضَّبْطِ عِنْدَما يَسْتَعْمِلانِها في مُدْرِكاتِهِما، ولا شَكَّ في انْقِطاعٍ هَذَيْنِ الصّارِفَيْنِ عِنْدَ النَّوْمِ فَيَتَّسِعُ لِانْتِقاشِ الصُّوَرِ مِنَ الدّاخِلِ فَيَكُونُ ما يُدْرِكُهُ النّائِمُ صُوَرًا مُرْتَسِمَةً في الحِسِّ المُشْتَرَكِ ومَوْجُودَةً فِيهِ وهو الرُّؤْيا إلّا أنَّ مِنها ما هو صادِقٌ ومِنها ما هو كاذِبٌ، أمّا الأُولى فَهي الَّتِي تَرِدُ تِلْكَ الصُّوَرُ فِيها عَلى الحِسِّ المُشْتَرَكِ مِنَ النَّفْسِ النّاطِقَةِ، وبَيانُهُ أنَّهُ صَوَّرَ جَمِيعَ الحَوادِثِ ما كانَ وما يَكُونُ مُرْتَسِمَةً في المَبادِئِ العالِيَةِ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْها أرْبابُ الشَّرْعِ بِالمَلائِكَةِ ومُنْطَبِعَةٌ بِالنُّفُوسِ المُجَرَّدَةِ الفَلَكِيَّةِ، واتِّصالُ النَّفْسِ المُجَرَّدَةِ بِالمُجَرَّدِ لِعِلَّةِ الجِنْسِيَّةِ أشَدُّ مِنِ اتِّصالِها بِالقُوى الجُسْمانِيَّةِ، فَمِن شَأْنِها أنْ تَتَّصِلَ بِذَلِكَ وتَنْتَقِشُ بِما فِيهِ إلّا أنَّ اشْتِغالَها بِالحَواسِّ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ واسْتِغْراقَها بِتَدْبِيرِ بَدَنِها يَمْنَعانِها عَنْ ذَلِكَ الِاتِّصالِ والِانْتِقاشِ لِأنَّ اشْتِغالَ النَّفْسِ بِبَعْضِ أفاعِيلِها يَمْنَعُها مِنَ الِاشْتِغالِ بِغَيْرِهِ، فَإنَّ الَّذِي لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ هو اللَّهُ تَعالى الواحِدُ القَهّارُ، ولا يُمْكِنُ إزالَةُ العائِقِ بِالكُلِّيَّةِ إلّا أنَّهُ يُسَكِّنُ اشْتِغالَها بِالإدْراكاتِ الحِسِّيَّةِ حالَةَ النَّوْمِ إذْ في اليَقَظَةِ يَنْتَشِرُ الرُّوحُ إلى ظاهِرِ البَدَنِ بِواسِطَةِ الشَّرايِينِ ويَنْصَبُّ إلى الحَواسِّ الظّاهِرَةِ حالَةَ الِانْتِشارِ ويَحْصُلُ بِها الإدْراكُ فَتَشْتَغِلُ النَّفْسُ بِتِلْكَ الإدْراكاتِ، وأمّا في النَّوْمِ الَّذِي هو أخُو المَوْتِ فَيَنْحَبِسُ الرُّوحُ إلى الباطِنِ ويَرْجِعُ عَنِ الحَواسِّ الظّاهِرَةِ بَعْدَ انْصِبابِهِ إلَيْها فَتَتَعَطَّلُ فَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ أدْنى فَراغٍ فَتَتَّصِلُ بِتِلْكَ المَبادِئِ اتِّصالًا رُوحانِيًّا مَعْنَوِيًّا وتَنْتَقِشُ بِبَعْضِ ما فِيها مِمّا اسْتَعَدَّتْ هي لَهُ كالمَرايا إذا حُوذِيَ بَعْضُها بِبَعْضٍ فانْتَقَشَ في بَعْضِها ما يَتَّسِعُ (p-11)لَهُ مِمّا انْتَقَشَ في البَعْضِ الآخَرِ فَتُدْرِكُ النَّفْسُ مِمّا ارْتَسَمَ في تِلْكَ المَبادِئِ ما يُناسِبُها مِن أحْوالِها وأحْوالِ ما يُقارِنُها مِنَ الأقارِبِ والأهْلِ والوَلَدِ والإقْلِيمِ والبَلَدِ ماضِيهِ وآتِيهِ إلّا أنَّ هَذا الإدْراكَ لِعَدَمِ تَأدِّيهِ مِن طَرَفٍ الحِسِّ كُلِّيٌّ فَتُحاكِيهِ القُوَّةُ المُتَخَيِّلَةُ الَّتِي جُبِلَتْ مُحاكِيَةً لِما يَرِدُ عَلَيْها بِصُوَرٍ جُزْئِيَّةٍ مِثالِيَّةٍ خَيالِيَّةٍ مُناسِبَةٍ إيّاهُ فَتُحاكِي ما هو خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها في صُورَةٍ جَمِيلَةٍ وما هو شَرٌّ كَذَلِكَ في صُورَةٍ قَبِيحَةٍ هائِلَةٍ عَلى مَراتِبَ مُخْتَلِفَةٍ ووُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ومِن ثَمَّةَ قَدْ تَرى ذاتَها بِصِفَةٍ جَمِيلَةٍ صُورِيَّةٍ ومَعْنَوِيَّةٍ مِنَ الجَمالِ والعِلْمِ والكَرَمِ والشَّجاعَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفاتِ المَحْمُودَةِ، وقَدْ تَرى ذاتَها مُتَّصِفَةً بِأضْدادِ ما ذُكِرَ، وقَدْ تُرى تِلْكَ الصِّفاتُ في صُورَةِ ما غَلَبَتِ الصِّفاتُ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ تَرى أنَّها نَفْسَها صارَتْ نَوْعًا آخَرَ لِغَلَبَةِ صِفاتِهِ عَلَيْها، ومَتى غَلَبَتْ عَلَيْها الصِّفاتُ الجَمِيلَةُ والأخْلاقُ الحَمِيدَةُ تَرى صُوَرًا جَمِيلَةً وأشْخاصًا حَمِيدَةً كَذَوِي الجِمالِ والعُلَماءِ والأوْلِياءِ والمَلائِكَةِ، بَلْ قَدْ تَرى أنَّها صارَتْ عالِمًا أوْ مَلِكًا مَثَلًا، ومَتى غَلَبَتْ عَلَيْها الصِّفاتُ الذَّمِيمَةُ تَرى صُوَرًا هائِلَةً كَصُورَةٍ غُولِيَّةٍ أوْ سَبْعِيَّةٍ، وكَذا رُؤْيَةُ حالِ مَن يُقارِبُهُ مِنَ الأهْلِ والوَلَدِ والإقْلِيمِ مَثَلًا فَإنَّها تَراها بِاعْتِبارِ اخْتِلافِ المَراتِبِ والمُناسَباتِ عَلى ما هي عَلَيْهِ في المُضِيِّ أوِ الحالِ أوِ الِاسْتِقْبالِ حَتّى لَوِ اهْتَمَّتْ بِمَصالِحِ النّاسِ رَأتْها ولَوْ كانَتْ مُنْجَذِبَةَ الهِمَّةِ إلى المَعْقُولاتِ لاحَتْ لَها أشْياءُ مِنها، فَمَتى لَمْ يَكُنِ اخْتِلافٌ بَيْنَ تِلْكَ الصُّورَةِ وبَيْنَ ما هي مَأْخُوذَةٌ مِنهُ إلّا بِالكُلِّيَّةِ والجُزْئِيَّةِ كانَتِ الرُّؤْيَةُ غَيْرَ مُحْتاجَةٍ إلى التَّعْبِيرِ، والتَّجاوُزُ عَنْها إلى ما يُناسِبُها بِوَجْهٍ مِنَ المُماثَلَةِ أوِ الضِّدْيَةِ الَّتِي يَقْتَضِيها نَحْوَ الأُلْفِ والخُلُقِ والأسْبابِ السَّماوِيَّةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ خَفِيَّةٍ لا يَطَّلِعُ عَلَيْها إلّا الأفْرادُ مِن أئِمَّةِ التَّعْبِيرِ، وإنْ كانَتْ مُخالَفَةً لَها لِقُصُورٍ يَقَعُ في المُتَخَيِّلَةِ إمّا لِذاتِها أوْ لِعَرُوضِ دَهْشَةٍ وحَيْرَةٍ لَها مِمّا تَرى أوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ كانَتْ مُحْتاجَةً إلى التَّعْبِيرِ، وهو أنْ يَرْجِعَ المُعَبِّرُ القَهْقَرى مُجَرِّدًا لِما يَراهُ النّائِمُ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي صَوَّرَتْها المُتَخَيِّلَةُ إلى أنْ يَنْتَهِيَ بِمَرْتَبَةٍ أوْ مَراتِبَ إلى ما تَلَقَّتْهُ النَّفْسُ مِن تِلْكَ المَبادِئِ فَيَكُونُ هو الواقِعَ، وقَدْ يَتَّفِقُ سِيَّما إذا كانَ الرّائِي كَثِيرَ الِاهْتِمامِ بِالرُّؤْيا أنْ يُعَبِّرَ رُؤْياهُ في النَّوْمِ الَّذِي رَآها فِيهِ أوْ غَيْرِهِ، فَهو إمّا بِتَذَكُّرِهِ لِما كانَتِ الرُّؤْيا حِكايَةً عَنْهُ، وإمّا بِتَصْوِيرِ المُتَخَيِّلَةِ حِكايَةَ رُؤْياهُ بِحِكايَةٍ أُخْرى، وحِينَئِذٍ يَحْتاجُ إلى تَعْبِيرَيْنِ. وأمّا الثّانِيَةُ: فَهي تَكُونُ لِأشْياءَ إمّا لِأنَّ النَّفْسَ إذا أحَسَّتْ في حالِ اليَقَظَةِ بِتَوَسُّطِ الآلاتِ الجُسْمانِيَّةِ بِصُوَرٍ جُزْئِيَّةٍ مَحْسُوسَةٍ أوْ خَيالِيَّةٍ وبَقِيَتْ مَخْزُونَةً في قُوَّةِ الخَيالِ فَعِنْدَ النَّوْمِ الَّذِي يَخْلُصُ فِيهِ الحِسُّ المُشْتَرَكُ عَمّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الحَواسِّ الظّاهِرَةِ تُرْسَمُ في الحِسِّ المُشْتَرَكِ ارْتِسامَ المَحْسُوساتِ إمّا عَلى ما كانَتْ عَلَيْها وإمّا بِصُوَرٍ مُناسِبَةٍ لَها، أوْ لِأنَّ النَّفْسَ أتْقَنَتْ بِواسِطَةِ المُتَخَيِّلَةِ صُورَةً ألَّفَتْها فَعِنْدَ النَّوْمِ تَتَمَثَّلُ في الحِسِّ المُشْتَرَكِ، أوْ لِأنَّ مِزاجَ الدِّماغِ يَتَغَيَّرُ فَيَتَغَيَّرُ مِزاجُ الرُّوحِ الحامِلَةِ لِلْقُوَّةِ المُتَخَيِّلَةِ فَتَتَغَيَّرُ أفْعالُ المُتَخَيِّلَةِ بِحَسَبِ تِلْكَ التَّغَيُّراتِ، ولِذَلِكَ يَرى الدَّمَوِيُّ الأشْياءَ الحُمْرَ والصَّفْراوِيُّ النِّيرانَ والأشِعَّةَ والسَّوْداوِيُّ الجِبالَ والأدْخِنَةَ والبَلْغَمِيُّ المِياهَ والألْوانَ البِيضَ، ومِن هَذا القَبِيلِ رُؤْيَةُ كَوْنِ بَدَنِهِ أوْ بَعْضِ أعْضائِهِ في الثَّلْجِ أوِ الماءِ أوِ النّارِ عِنْدَ غَلَبَةِ السُّخُونَةِ أوِ البُرُودَةِ عَلَيْهِ، ورُؤْيَةُ أنَّهُ يَأْكُلُ أوْ يَشْرَبُ أوْ يَبُولُ عِنْدَ عُرُوضِ الِاحْتِياجِ إلى أحَدِها. ومِنَ العَجائِبِ في هَذا البابِ أنَّهُ إذا غَلَبَ المَنِيُّ واحْتاجَتِ الطَّبِيعَةُ إلى دَفْعِهِ تَحْتالُ بِاسْتِعانَةِ القُوَّةِ المُتَخَيِّلَةِ إلى تَصْوِيرِ ما يَنْدَفِعُ بِهِ مِنَ الصُّوَرِ الحَسَنَةِ وفي إرْسالِ الرِّيحِ النّاشِرَةِ لِآلَةِ الجِماعِ وإرادَةِ حَرَكاتِها حَتّى يَنْدَفِعَ بِذَلِكَ ما أرادَتِ انْدِفاعَهُ، وقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ التَّوَجُّهُ والِاعْتِيادُ لا لِغَلَبَةِ المَنِيِّ فَلِهَذا قَدْ لا يَنْدَفِعُ بِهِ شَيْءٌ، وقَدْ يَعْرِضُ (p-12)لِلرُّوحِ اضْطِرابٌ وتَحْرِيكٌ مِنَ الأسْبابِ الخارِجَةِ والدّاخِلَةِ فَتَرى أُمُورًا مُتَغَيِّرَةً مُتَفَرِّقَةً غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ، فَرُبَّما يَتَرَكَّبُ مِنَ المَجْمُوعِ صُورَةٌ غَيْرُ مَعْهُودَةٍ قَلَّما يَتَصَوَّرُها أحَدٌ أوْ يَقَعُ مِثْلُها في الخارِجِ، وقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِاتِّصالاتٍ فَلَكِيَّةٍ وأوْضاعٍ سَماوِيَّةٍ، فَإذا كانَتِ الرُّؤْيا لِأحَدِ هَذِهِ الأُمُورِ تُسَمّى أضْغاثَ أحْلامٍ ولا تَعْبِيرَ لَها ولا تَقَعُ. وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ أصْدَقَ النّاسِ رُؤْيا أعْدَلُهم مِزاجًا ومَن كانَ مَعَ ذَلِكَ مُنْقَطِعًا عَنِ العَلائِقِ الشّاغِلَةِ والخَيالاتِ الفاسِدَةِ مُعْتادًا لِلصِّدْقِ مُتَوَجِّهًا إلى الرُّؤْيا واسْتِثْباتِها وكَيْفِيَّتِها كانَتْ رُؤْياهُ أصَحَّ وأصْدَقَ، وأكْثَرُ أحْلامِ الكَذّابِ والسَّكْرانِ والمَغْمُومِ ومَن غَلَبَ عَلَيْهِ سُوءُ مِزاجٍ أوْ فِكْرٌ أوْ خَيالاتٌ فاسِدَةٌ ومُقْتَضَياتُ قُوى غَضَبِيَّةٍ وشَهَوِيَّةٍ كاذِبَةٍ لا يُعْتَمَدُ عَلَيْها، ومِن هُنا قالُوا: لا اعْتِمادَ عَلى رُؤْيا الشّاعِرِ لِتَعَوُّدِهِ الأكاذِيبَ الباطِلَةَ والتَّخَيُّلاتِ الفاسِدَةَ. وذَهَبَ بَعْضُ أصْحابِ المُكاشَفاتِ وأرْبابِ المُشاهَداتِ مِنَ الحُكَماءِ المُتَألَّهِينَ والصُّوفِيَّةِ المُنْكِرِينَ لِارْتِسامِ الصُّوَرِ في الخَيالِ إلى أنَّ الرُّؤْيا مُشاهَدَةُ النَّفْسِ صُوَرًا خَيالِيَّةً مَوْجُودَةً في عالَمِ المِثالِ الَّذِي هو بَرْزَخٌ بَيْنَ عالَمِ المُجَرَّداتِ اللَّطِيفَةِ المُسَمّى عِنْدَهم بِعالَمِ المَلَكُوتِ، وبَيْنَ عالَمِ المَوْجُوداتِ العَيْنِيَّةِ الكَثِيفَةِ المُسَمّى بِعالَمِ المُلْكِ، وقالُوا: فِيهِ مَوْجُوداتٌ مُتَشَخِّصَةٌ مُطابِقَةٌ لِما في الخارِجِ مِنَ الجُزْئِيّاتِ مَثُلَ لَها قائِمَةٌ بِنَفْسِها مُناسِبَةٌ لِما في العالَمَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، إمّا لِعالَمِ المُلْكِ فَلِأنَّها صُوَرٌ جُسْمانِيَّةٌ شَبَحِيَّةٌ، وإمّا لِعالَمِ المَلَكُوتِ فَلِأنَّها مُعَلَّقَةٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَكانٍ وجِهَةٍ كالمُجَرَّداتِ حَتّى أنَّهُ يَرى صُوَرًا مِثالِيَّةً لِشَخْصٍ واحِدٍ في مَرايا مُتَعَدِّدَةٍ بَلْ في مَواضِعَ مُتَكَثِّرَةٍ كَما يَرى بَعْضَ الأوْلِياءِ في زَمانٍ واحِدٍ في أماكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ شَرْقِيَّةٍ وغَرْبِيَّةٍ، ثُمَّ إنَّ لِتِلْكَ الصُّوَرِ مِجالًا مُخْتَلِفَةً كالمَرايا والماءِ الصّافِي، والقُوى الجُسْمانِيَّةُ سِيَّما الباطِنَةُ إذا انْقَطَعَتْ عَنِ الِاشْتِغالِ بِالأُمُورِ الخارِجِيَّةِ العائِقَةِ إذْ بِذَلِكَ يَحْصُلُ لَها زِيادَةٌ مُناسِبَةٌ لِذَلِكَ العالَمِ كَما لِلْمُتَجَرِّدِينَ عَنِ العَلائِقِ البَشَرِيَّةِ، وإذا قَوِيَتْ تِلْكَ المُناسَبَةُ كَما لِلْأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والأوْلِياءِ الكُمَّلِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهم تَظْهَرُ في القُوى الظّاهِرَةِ أيْضًا، ولِهَذا كانَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُشاهِدُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ ما يَنْزِلُ بِالوَحْيِ والصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم حَوْلَهُ كانُوا لا يُشاهِدُونَهُ، هَذا واسْتَشْكَلَ قَوْلُ المُتَكَلِّمِينَ: أنَّ الرُّؤْيا خَيالاتٌ باطِلَةٌ بِأنَّهُ قَدْ شَهِدَ الكِتابَ والسُّنَّةَ بِصِحَّتِها بَلْ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ النّاسِ إلّا وقَدْ جَرَّبَها مِن نَفْسِهِ تَجْرِبَةً تُوجِبُ التَّصْدِيقَ بِها، وأُجِيبُ بِأنَّ مُرادَهم أنَّ كَوْنَ ما يَتَخَيَّلُهُ النّائِمُ إدْراكًا بِالبَصَرِ رُؤْيَةٌ وكَوْنَ ما يَتَخَيَّلُهُ إدْراكًا بِالسَّمْعِ سَمْعًا باطِلٌ فَلا يُنافِي كَوْنَها أمارَةً لِبَعْضِ الأشْياءِ، وذَكَرَ حُجَّةُ الإسْلامِ الغَزالِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ في شَرْحِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مَن رَآنِي في المَنامِ فَقَدْ رَآنِي» الحَدِيثَ، أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَةَ الجِسْمِ بَلْ رُؤْيَةَ المِثالِ الَّذِي صارَ آلَةً يَتَأدّى بِها المَعْنى الَّذِي في نَفْسِهِ إلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ النَّفْسَ غَيْرُ المِثالِ المُتَخَيَّلِ، فالشَّكْلُ المَرْئِيُّ لَيْسَ رُوحَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولا شَخْصَهُ بَلْ مِثالَهُ عَلى التَّحْقِيقِ، وكَذا رُؤْيَتُهُ سُبْحانَهُ نَوْمًا فَإنَّ ذاتَهُ تَعالى مُنَزَّهَةٌ عَنِ الشَّكْلِ والصُّورَةِ لَكِنْ تَنْتَهِي تَعْرِيفاتُهُ تَعالى إلى العَبْدِ بِواسِطَةِ مِثالٍ مَحْسُوسٍ مِن نُورٍ أوْ غَيْرِهِ وهو آلَةٌ حَقًّا في كَوْنِهِ واسِطَةً في التَّعْرِيفِ، فَقَوْلُ الرّائِي: رَأيْتُ اللَّهَ تَعالى نَوْمًا لا يَعْنِي بِهِ أنَّهُ رَأى ذاتَهُ تَعالى. وقالَ أيْضًا: مَن رَآهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَنامًا لَمْ يُرِدْ رُؤْيَتَهُ حَقِيقَةً بِشَخْصِهِ المُودَعِ رَوْضَةَ المَدِينَةِ بَلْ رُؤْيَةَ مِثالِهِ وهو مِثالُ رُوحِهِ المُقَدَّسَةِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. قِيلَ: ومِن هُنا يُعْلَمُ جَوابٌ آخَرُ لِلْإشْكالِ وهو أنَّ مُرادَهم أنَّ ما يُرى في المَنامِ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ ثابِتَةٌ في (p-13)نَفْسِ الأمْرِ كَما أنَّ المَرْئِيَّ في اليَقَظَةِ كَذَلِكَ بَلْ هو مِثالٌ مُتَخَيَّلٌ يُظْهِرُهُ اللَّهُ تَعالى لِلنَّفْسِ في المَنامِ كَما يُظْهِرُ لَها الأُمُورَ الغَيْبِيَّةَ بَعْدَ المَوْتِ والنَّوْمُ والمَوْتُ أخَوانِ، ووَصْفُ ما ذُكِرَ بِالباطِلِ لَعَلَّهُ مِن قَبِيلِ وصْفِ العالَمِ بِهِ في قَوْلِ لَبِيَدٍ: ؎ألا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللَّهُ باطِلُ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ ما ذَكَرَهُ حُجَّةُ الإسْلامِ لَيْسَ مِمّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَماؤُهُ فَقَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ إلى أنَّ رُؤْيَتَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِصِفَتِهِ المَعْلُومَةِ إدْراكٌ عَلى الحَقِيقَةِ وبِغَيْرِها إدْراكٌ لِلْمَثّالِ، عَلى أنَّ كَلامَ المُتَكَلِّمِينَ ظاهِرُ المُخالَفَةِ لِلْكِتابِ والسُّنَّةِ ولا يَكادُ يَسْلَمُ تَأْوِيلُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَتَأمَّلْ. ولَعَلَّ النَّوْبَةَ تُفْضِي إلى ذِكْرِ زِيادَةِ كَلامٍ في هَذا المَقامِ. وبِالجُمْلَةِ إنْكارُ الرُّؤْيا عَلى الإطْلاقِ لَيْسَ في مَحَلِّهِ، كَيْفَ وقَدْ جاءَ في مَدْحِها ما جاءَ، فَفي ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“: «أيُّها النّاسُ لَمْ يَبْقَ مِن مُبَشِّراتِ النُّبُوَّةِ إلّا الرُّؤْيا الصّالِحَةُ يَراها مُسْلِمٌ أوْ تُرى لَهُ»، وجاءَ في أكْثَرِ الرِّواياتِ أنَّها جُزْءٌ مِن سِتٍّ وأرْبَعِينَ، ووَجْهُ ذَلِكَ بِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَمِلَ بِها سِتَّةَ أشْهُرٍ في مَبْدَأِ الوَحْيِ، وقَدِ اسْتَقامَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ ثَلاثًا وعِشْرِينَ سَنَةً، ولا يَتَأتّى هَذا عَلى رِوايَةِ خَمْسٍ وأرْبَعِينَ، وكَذا عَلى رِوايَةِ سَبْعِينَ جُزَأً؛ أوْ رِوايَةِ سِتٍّ وسَبْعِينَ وهي ضَعِيفَةٌ ورِوايَةِ سِتٍّ وعِشْرِينَ وقَدْ ذَكَرَها ابْنُ عَبْدِ البَرِّ ورِوايَةِ النَّوَوِيِّ مِن أرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب