الباحث القرآني

﴿وما لَهم ألا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ أيْ: أيُّ شَيْءٍ لَهم في انْتِفاءِ العَذابِ عَنْهم أيْ: لا حَظَّ لَهم في ذَلِكَ وهم مُعَذَّبُونَ لا مَحالَةَ إذا زالَ المانِعُ وكَيْفَ لا يُعَذَّبُونَ ﴿وهم يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ أيْ: وحالُهُمُ الصَّدُّ عَنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً كَما فَعَلُوا عامَ الحُدَيْبِيَةِ وحُكْمًا كَما فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأصْحابِهِ حَتّى ألْجَئُوهم لِلْهِجْرَةِ، ولَمّا كانَتِ الآيَتانِ يَتَراءى مِنهُما التَّناقُضُ زادُوا في التَّفْسِيرِ: إذا زالَ لِيَزُولَ كَما ذَكَرْنا، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ إذا حُمِلَ التَّعْذِيبُ في كُلٍّ عَلى تَعْذِيبِ الِاسْتِئْصالِ احْتِيجَ إلى القَوْلِ بِوُقُوعِهِ بَعْدَ زَوالِ المانِعِ وهو خِلافُ الواقِعِ، وقالَ بَعْضُهم في دَفْعِ ذَلِكَ: إنَّ التَّعْذِيبَ فِيما مَرَّ تَعْذِيبُ الِاسْتِئْصالِ وهُنا التَّعْذِيبُ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ، ونَقَلَ الشِّهابُ عَنِ الحَسَنِ، والعُهْدَةُ عَلَيْهِ أنَّ هَذِهِ نَسَخَتْ ما قَبْلَها، والظّاهِرُ أنَّهُ أرادَ النَّفْيَيْنِ السّابِقَيْنِ، والَّذِي في الدُّرِّ المَنثُورِ أنَّهُ وكَذا عِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ قالُوا: إنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ مَنسُوخٌ بِهَذِهِ الآيَةِ، وأيًّا ما كانَ يَرِدُ عَلَيْهِ أنَّهُ لا نَسْخَ في الأخْبارِ إلّا إذا تَضَمَّنَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وفي تَضَمُّنِ المَنسُوخِ هُنا ذَلِكَ خَفاءٌ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: إنَّ الآيَةَ الأُولى مُتَّصِلَةٌ بِما قَبْلَها عَلى أنَّها حِكايَةٌ عَنِ المُشْرِكِينَ فَإنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُعَذِّبُنا ونَحْنُ نَسْتَغْفِرُ، ولا يُعَذِّبُ سُبْحانَهُ أُمَّةً ونَبِيُّها مَعَها، فَقَصَّ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ عَلى نَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَعَ قَوْلِهِمُ (p-202)الآخَرِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: وإذا قالُوا: اللَّهُمَّ إلَخْ وقالُوا أيْضًا: كَيْتَ وكَيْتَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وما لَهم ألا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ عَلى مَعْنى أنَّهم يُعَذَّبُونَ وإنْ كُنْتَ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ وإنْ كانُوا يَسْتَغْفِرُونَ، وفِيهِ أنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ القَوْلِ مِنهم في غايَةِ البُعْدِ مَعَ أنَّ الظّاهِرَ حِينَئِذٍ أنْ يُقالَ: لِيُعَذِّبَنا ومُعَذِّبُنا ونَحْنُ نَسْتَغْفِرُ لِيَكُونَ عَلى طَرْزِ قَوْلِهِمُ السّابِقِ، وأيْضًا الأخْبارُ الكَثِيرَةُ تَأْبى ذَلِكَ، فَقَدْ أخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: كانَ فِيكم إمامانِ، مَضى أحَدُهُما وبَقِيَ الآخَرُ، وتَلا: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ إلَخْ. وجاءَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ. وأخْرَجَ أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ في الشَّمائِلِ، والنَّسائِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: ««انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقامَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَلَمْ يَكَدْ يَرْكَعُ ثُمَّ رَكَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ ثُمَّ رَفَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَسْجُدُ ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ ثُمَّ رَفَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَسْجُدُ ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ ثُمَّ رَفَعَ وفَعَلَ في الرَّكْعَةِ الأُخْرى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ نَفَخَ في آخِرِ سُجُودِهِ ثُمَّ قالَ: رَبِّ، ألَمْ تَعِدْنِي أنْ لا تُعَذِّبَهم وأنا فِيهِمْ؟ رَبِّ، ألَمْ تَعِدْنِي أنْ لا تُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ؟ ونَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ. فَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن صِلاتِهِ وقَدِ انْمَحَصَتِ الشَّمْسُ»». وذَهَبَ الجُبّائِيُّ إلى أنَّ المَنفِيَّ فِيما مَرَّ عَذابُ الدُّنْيا، وهَذا العَذابُ عَذابُ الآخِرَةِ. أيْ: إنَّهُ يُعَذِّبُهم في الآخِرَةِ لا مَحالَةَ، وهو خِلافُ سِياقِ الآيَةِ، و(ما) عَلى ما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ وهو الظّاهِرُ اسْتِفْهامِيَّةٌ، وقِيلَ: إنَّها نافِيَةٌ؛ أيْ: لَيْسَ يَنْفِي عَنْهُمُ العَذابَ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِالصَّدِّ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ ﴿وما كانُوا أوْلِياءَهُ﴾ أيْ: وما كانُوا مُسْتَحِقِّينَ وِلايَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ مَعَ شِرْكِهِمْ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ يَصُدُّونَ مُبَيِّنَةٌ لِكَمالِ قُبْحِ ما صَنَعُوا مِنَ الصَّدَفانِ مُباشَرَتِهِمْ لِلصَّدِّ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ اسْتِحْقاقِهِمْ لِوِلايَةِ أمْرِهِ في غايَةِ القُبْحِ، وهَذا رَدٌّ لِما كانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ وُلاةُ البَيْتِ والحَرَمِ فَنَصُدُّ مَن نَشاءُ ونُدْخِلُ مَن نَشاءُ. ﴿إنْ أوْلِياؤُهُ﴾ أيْ: ما أوْلِياءُ المَسْجِدِ الحَرامِ ﴿إلا المُتَّقُونَ﴾ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي لا يَعْبُدُونَ فِيهِ غَيْرَهُ تَعالى، والمُرادُ بِهِمُ المُسْلِمُونَ، وهَذِهِ المَرْتَبَةُ الأُولى مِنَ التَّقْوى، وما أشَرْنا إلَيْهِ مِن رُجُوعِ الضَّمِيرَيْنِ إلى المَسْجِدِ هو المُتَبادَرُ المَرْوِيُّ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ والحَسَنِ، وقِيلَ: هُما راجِعانِ إلَيْهِ تَعالى، وعَلَيْهِ فَلا حاجَةَ إلى اعْتِبارِ الِاسْتِحْقاقِ فِيما تَقَدَّمَ آنِفًا إذْ لَمْ تَثْبُتْ لَهم وِلايَةُ اللَّهِ تَعالى أصْلًا بِخِلافِ وِلايَةِ المَسْجِدِ فَإنَّهم كانُوا مُتَوَلِّينَ لَهُ وقْتَ النُّزُولِ فاحْتِيجَ إلى التَّأْوِيلِ بِنَفْيِ الِاسْتِحْقاقِ، ويُفَسَّرُ المُتَّقُونَ حِينَئِذٍ بِما هو أخَصُّ مِنَ المُسْلِمِينَ، لِأنَّ وِلايَةَ اللَّهِ تَعالى لا يَكْفِي فِيها الإسْلامُ بَلْ لا بُدَّ فِيها أيْضًا مِنَ المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ مِنَ التَّقْوى، وإنْ وُجِدَتِ المَرْتَبَةُ الثّالِثَةُ مِنها فالوِلايَةُ وِلايَةٌ كُبْرى، وهَذا ما نَعْرِفُهُ مِن نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ المُطَهَّرَةِ والمَحَجَّةِ البَيْضاءِ الَّتِي لِيَلُها كَنَهارِها، وغالِبُ الجَهَلَةِ اليَوْمَ عَلى أنَّ الوَلِيَّ هو المَجْنُونُ ويُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالمَجْذُوبِ، صَدَقُوا ولَكِنْ عَنِ الهُدى، وكُلَّما أطْبَقَ جُنُونُهُ وكَثُرَ هَذَيانُهُ واسْتَقْذَرَتِ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ أحْوالَهُ كانَتْ وِلايَتُهُ أكْمَلَ وتَصَرُّفُهُ في مُلْكِ اللَّهِ تَعالى أتَمَّ، وبَعْضُهم يُطْلِقُ الوَلِيَّ عَلَيْهِ وعَلى مَن تَرَكَ الأحْكامَ الشَّرْعِيَّةَ ومَرَقَ مِنَ الدِّينِ المُحَمَّدِيِّ وتَكَلَّمَ بِكَلِماتِ القَوْمِ وتَزَيّا بِزِيِّهِمْ، ولَيْسَ مِنهم في عِيرٍ ولا نَفِيرٍ، وزَعَمَ أنَّ مَن أجْهَدَ نَفْسَهُ في العِبادَةِ مَحْجُوبًا، ومَن تَمَسَّكَ بِالشَّرِيعَةِ مَغْبُونًا، وإنَّ هُناكَ باطِنًا يُخالِفُ الظّاهِرَ إذا هو عُرِفَ انْحَلَّ القَيْدُ ورُفِعَ التَّكْلِيفُ وكَمُلَتِ النَّفْسُ: ؎وألْقَتْ عَصاها واسْتَقَرَّ بِها النَّوى كَما قَرَّ عَيْنًا بِالإيابِ المُسافِرُ ويُسَمُّونَ هَذا المُرْشِدَ، صَدَقُوا ولَكِنْ إلى النّارِ، والشَّيْخَ صَدَقُوا ولَكِنِ النَّجْدِيَّ، والعارِفَ صَدَقُوا ولَكِنْ (p-203)بِسَباسِبِ الضَّلالِ، والمُوَحِّدَ صَدَقُوا ولَكِنْ لِلْكُفْرِ والإيمانِ، وقَدْ ذَكَرَ مَوْلانا حُجَّةُ الإسْلامِ الغَزالِيُّ هَذا النَّوْعَ مِنَ الكَفَرَةِ الفَجَرَةِ وقالَ: إنَّ قَتْلَ واحِدٍ مِنهم أفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى مِن قَتْلِ مِائَةِ كافِرٍ، وكَذا تَكَلَّمَ فِيهِمُ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ في الفُتُوحاتِ بِنَحْوِ ذَلِكَ: ؎إلى الماءِ يَسْعى مَن يَغَصُّ بِلُقْمَةٍ ∗∗∗ إلى أيْنَ يَسْعى مَن يَغَصُّ بِماءِ والزَّمَخْشَرِيُّ جَعَلَ (المُتَّقُونَ) أخَصَّ مِنَ المُسْلِمِينَ، عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ أيْضًا، وهو أبْلَغُ في نَفْيِ الوِلايَةِ عَنِ المَذْكُورِينَ أيْ: لا يَصْلُحُ لِأنْ يَلِيَ أمْرَ المَسْجِدِ مَن لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وإنَّما يَسْتَأْهِلُ وِلايَتَهُ مَن كانَ بَرًّا تَقِيًّا فَكَيْفَ بِالكَفَرَةِ عَبَدَةِ الأوْثانِ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ أنْ لا وِلايَةَ لَهم عَلَيْهِ، وكَأنَّهُ نَبَّهَ سُبْحانَهُ بِذِكْرِ الأكْثَرِ عَلى أنَّ مِنهم مَن يَعْلَمُ ذَلِكَ ولَكِنْ يَجْحَدُهُ عِنادًا، وقَدْ يُرادُ بِالأكْثَرِ الكُلُّ لِأنَّ لَهُ حُكْمَهُ في كَثِيرٍ مِنَ الأحْكامِ كَما أنَّ الأقَلَّ قَدْ لا يُعْتَبَرُ فَيُنَزَّلُ مَنزِلَةَ العَدَمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب