الباحث القرآني

﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَهو مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ مَفْعُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ عَلى ما تَقَدَّمَ أوْ مَنصُوبٌ بِالفِعْلِ المُضْمَرِ المَعْطُوفِ عَلى ذَلِكَ، أيْ: واذْكُرْ نِعْمَتَهُ تَعالى عَلَيْكَ إذْ. أوِ اذْكُرْ وقْتَ مَكْرِهِمْ بِكَ ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ بِالوَثاقِ ويُعَضِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ: (لِيُقَيِّدُوكَ) وإلَيْهِ ذَهَبَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ، أوْ بِالإثْخانِ بِالجُرْحِ مِن قَوْلِهِمْ: ضَرَبَهُ حَتّى أثْبَتَهُ لا حَراكَ بِهِ ولا بَراحَ، وهو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ أبانَ وأبِي حاتِمٍ والجُبّائِيِّ، وأنْشَدَ: ؎فَقُلْتُ ويْحَكُمُ ما في صَحِيفَتِكم قالُوا: الخَلِيفَةُ أمْسى مُثْبَتًا وجِعا أوْ بِالحَبْسِ في بَيْتٍ كَما رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ والسُّدِّيِّ، وكُلُّ الأقْوالِ تَرْجِعُ إلى أصْلٍ واحِدٍ هو جَعْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ثابِتًا في مَكانِهِ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالرَّبْطِ أوِ الحَبْسِ أوِ الإثْخانِ بِالجِراحِ حَتّى لا يَقْدِرَ عَلى الحَرَكَةِ، ولا يَرِدُ أنَّ الإثْخانَ إنْ كانَ بِدُونِ قَتْلٍ ذُكِرَ لَهُ فِيما اشْتُهِرَ مِنَ القِصَّةِ، وإنْ كانَ بِالقَتْلِ يَتَكَرَّرُ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ يَقْتُلُوكَ﴾ لِأنّا نَخْتارُ الأوَّلَ، ولا يَلْزَمُ أنْ يُذْكَرَ في القِصَّةِ؛ لِأنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَأيَ مَن لا يُعْتَدُّ بِرَأْيِهِ فَلَمْ يَذْكُرُوا المُرادَ عَلى ما تَقْتَضِيهِ أوْ يَقْتُلُوكَ بِسُيُوفِهِمْ ﴿أوْ يُخْرِجُوكَ﴾ أيْ: مِن مَكَّةَ، وذَلِكَ عَلى ما ذَكَرَ ابْنُ إسْحاقَ أنَّ قُرَيْشًا لَمّا رَأتْ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ كانَتْ لَهُ شِيعَةٌ وأصْحابٌ مَن غَيْرِهِمْ مِن غَيْرِ بَلَدِهِمْ ورَأوْا خُرُوجَ أصْحابِهِ مِنَ المُهاجِرِينَ إلَيْهِمْ عَرَفُوا أنَّهم قَدْ نَزَلُوا دارًا وأصابُوا مِنهم مَنَعَةً فَحَذَّرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلَيْهِمْ وعَرَفُوا أنَّهُ قَدْ أجْمَعَ لِحَرْبِهِمْ فاجْتَمَعُوا في دارِ النَّدْوَةِ، وهي دارُ قُصَيِّ بْنِ كِلابٍ الَّتِي كانَتْ قُرَيْشٌ لا تَقْضِي أمْرًا إلّا فِيها يَتَشاوَرُونَ فِيها ما يَصْنَعُونَ في أمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَلَمّا اجْتَمَعُوا كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ لِذَلِكَ واتَّعَدُوا أنْ يَدْخُلُوا الدّارَ لِيَتَشاوَرُوا فِيها غَدَوْا في اليَوْمِ الَّذِي اتَّعَدُوا فِيهِ وكانَ ذَلِكَ اليَوْمُ يُسَمّى يَوْمَ الزَّحْمَةِ، فاعْتَرَضَهم إبْلِيسُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ في هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ عَلَيْهِ بَدْلَةٌ فَوَقَفَ عَلى بابِ الدّارِ، فَلَمّا رَأوْهُ واقِفًا عَلى بابِها قالُوا: مَنِ الشَّيْخُ؟ قالَ: شَيْخٌ مِن أهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بِالَّذِي اتَّعَدْتُمْ لَهُ فَحَضَرَ مَعَكم لِيَسْمَعَ ما تَقُولُونَ، وعَسى أنْ لا يَعْدَمَكم مِنهُ رَأْيًا ونُصْحًا، قالُوا: أجَلْ فادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهم وقَدِ اجْتَمَعَ أشْرافُ قُرَيْشٍ فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: إنَّ هَذا الرَّجُلَ قَدْ كانَ مِن أمْرِهِ ما رَأيْتُمْ وإنّا واللَّهِ ما نَأْمَنُهُ قالَ: فَتَشاوَرُوا ثُمَّ قالَ قائِلٌ مِنهُمُ: احْبِسُوهُ في الحَدِيدِ وأغْلِقُوا عَلَيْهِ بابًا ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ ما أصابَ أشْباهَهُ مِنَ الشُّعَراءِ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَهُ زُهَيْرًا والنّابِغَةَ ومَن مَضى مِنهم مِن هَذا المَوْتِ حَتّى يُصِيبَهُ ما أصابَهم. فَقالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لا واللَّهِ، ما هَذا بِرَأْيٍ واللَّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَما تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنَّ أمْرُهُ مِن وراءِ البابِ الَّذِي أغْلَقْتُمُوهُ دُونَهُ إلى أصْحابِهِ، فَلَأوْشَكُوا أنْ يَثِبُوا عَلَيْكم فَيَنْزِعُوهُ مِن أيْدِيكم ثُمَّ يُكاثِرُوكم بِهِ حَتّى يَغْلِبُوكم عَلى أمْرِكم. ما هَذا لَكم بِرَأْيٍ، فانْظُرُوا في غَيْرِهِ، فَتَشاوَرُوا ثُمَّ قالَ قائِلٌ مِنهُمْ: نُخْرِجُهُ مِن بَيْنِ أظْهُرِنا فَنَنْفِيهِ مِن بِلادِنا فَإذا خَرَجَ عَنّا فَواللَّهِ ما نُبالِي أيْنَ ذَهَبَ ولا حَيْثُ وقَعَ إذا غابَ عَنّا وفَرَغْنا مِنهُ فَأصْلَحْنا أمْرَنا وأُلْفَتَنا كَما كانَتْ. قالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لا واللَّهِ، ما هَذا بِرَأْيٍ، ألَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ وحَلاوَةَ مَنطِقِهِ وغَلَبَتَهُ عَلى قُلُوبِ الرِّجالِ بِما يَأْتِي بِهِ؟ واللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ (p-198)ذَلِكَ ما أمِنتُ أنْ يَحِلَّ عَلى حَيٍّ مِنَ العَرَبِ فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِن قَوْلِهِ وحَدِيثِهِ حَتّى يُبايِعُوهُ ثُمَّ يَسِيرَ بِهِمْ إلَيْكم فَيَطَؤُكم بِهِمْ في بِلادِكم فَيَأْخُذُ أمْرَكم مِن أيْدِيكم ثُمَّ يَفْعَلُ بِكم ما أرادَ، دَبِّرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَهُ. فَقالَأبُو جَهْلٍ: واللَّهِ إنَّ فِيهِ لَرَأْيًا ما أراكم وقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ. قالُوا: وما هو يا أبا الحَكَمِ؟ قالَ: أرى أنْ نَأْخُذَ مِن كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شابًّا جَلِيدًا نَسِيبًا فِينا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنهم سَيْفًا صارِمًا ثُمَّ يَعْمِدُونَ إلَيْهِ فَيَضْرِبُونَهُ بِها ضَرْبَةَ رَجُلٍ واحِدٍ فَيَقْتُلُونَهُ فَنَسْتَرِيحُ مِنهُ، فَإنَّهم إذا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ في القَبائِلِ جَمِيعًا، فَرَضُوا مِنّا بِالعَقْلِ فَعَقَلْناهُ لَهُمْ، قالَ: فَقالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: القَوْلُ ما قالَ الرَّجُلُ؛ هو هَذا الرَّأْيُ لا أرى غَيْرَهُ، فَتَفَرَّقُوا عَلى ذَلِكَ، فَأتى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالَ: لا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلى فِراشِكَ الَّذِي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ، فَلَمّا كانَتْ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلى بابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتى يَنامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ، فَلَمّا رَأى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَكانَهم قالَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ: ««نَمْ عَلى فِراشِي وتَسَبَّحْ بُرْدِي هَذا الحَضْرَمِيَّ الأخْضَرَ، فَنَمْ؛ فَإنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنهُمْ»». وكانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَنامُ في بُرْدِهِ ذَلِكَ إذا نامَ، وأُذِنَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الهِجْرَةِ فَخَرَجَ مَعَ صاحِبِهِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إلى الغارِ، وأنْشَدَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ مُشِيرًا لِما مَنَّ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَلَيْهِ: ؎وقَيْتُ بِنَفْسِي خَيْرَ مَن وطِئَ الحَصى ∗∗∗ ومَن طافَ بِالبَيْتِ العَتِيقِ وبِالحَجَرْ ؎رَسُولَ إلَهٍ خافَ أنْ يَمْكُرُوا بِهِ ∗∗∗ فَنَجّاهُ ذُو الطَّوْلِ الإلَهُ مِنَ المَكَرْ ؎وباتَ رَسُولُ اللَّهِ في الغارِ آمِنًا ∗∗∗ وقَدْ صارَ في حِفْظِ الإلَهِ وفي سَتَرْ ؎وبِتُّ أُراعِيهِمْ وما يَتَّهِمُونَنِي ∗∗∗ وقَدْ وطَّنْتُ نَفْسِي عَلى القَتْلِ والأسَرْ ﴿ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ﴾ أيْ: يَرُدُّ مَكْرَهم ويَجْعَلُ وخامَتَهُ عَلَيْهِمْ أوْ يُجازِيهِمْ عَلَيْهِ أوْ يُعامِلُهم مُعامَلَةَ الماكِرِينَ؛ وذَلِكَ بِأنْ أخْرَجَهم إلى بَدْرٍ وقَلَّلَ المُسْلِمِينَ في أعْيُنِهِمْ حَتّى حَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَلَقُوا مِنهم ما يَشِيبُ مِنهُ الوَلِيدُ، فَفي الكَلامِ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ أوْ مَجازٌ مُرْسَلٌ أوِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، وقَدْ يُكْتَفى بِالمُشاكَلَةِ الصِّرْفَةِ ﴿واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ إذْ لا يُعْتَدُّ بِمَكْرِهِمْ عِنْدَ مَكْرِهِ سُبْحانَهُ. قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إطْلاقُ هَذا المُرَكَّبِ الإضافِيِّ عَلَيْهِ تَعالى إنْ كانَ بِاعْتِبارِ أنَّ مَكْرَهُ جَلَّ شَأْنُهُ أنْفَذُ وأبْلَغُ تَأْثِيرًا فالإضافَةُ لِلتَّفْضِيلِ؛ لِأنَّ لِمَكْرِ الغَيْرِ أيْضًا نُفُوذًا وتَأْثِيرًا في الجُمْلَةِ، وهَذا مَعْنى أصْلِ فِعْلِ الخَيْرِ فَتَحْصُلُ المُشارَكَةُ فِيهِ، وإذا كانَ بِاعْتِبارِ أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُنْزِلُ إلّا الحَقَّ ولا يُصِيبُ إلّا بِما يَسْتَوْجِبُهُ المَمْكُورُ بِهِ فَلا شَرِكَةَ لِمَكْرِ الغَيْرِ فِيهِ فالإضافَةُ حِينَئِذٍ لِلِاخْتِصاصِ كَما في - أعَدَلا بَنِي مَرْوانَ - لِانْتِفاءِ المُشارَكَةِ. وقِيلَ: هو مِن قَبِيلِ: الصَّيْفُ أحَرُّ مِنَ الشِّتاءِ. بِمَعْنى أنَّ مَكْرَهُ تَعالى في خَيْرِيَّتِهِ أبْلَغُ مَن مَكْرِ الغَيْرِ في شَرِّيَّتِهِ. وادَّعى غَيْرُ واحِدٍ أنَّ المَكْرَ لا يُطْلَقُ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ دُونَ مُشاكَلَةٍ لِأنَّهُ حِيلَةٌ يُجْلَبُ بِها مَضَرَّةٌ إلى الغَيْرِ وذَلِكَ مِمّا لا يَجُوزُ في حَقِّهِ سُبْحانَهُ. واعْتُرِضَ بِوُرُودِهِ مِن دُونِ مُشاكَلَةٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَأمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلا القَوْمُ الخاسِرُونَ﴾ . وأُجِيبَ بِأنَّ المُشاكَلَةَ فِيما ذُكِرَ تَقْدِيرِيَّةٌ وهي كافِيَةٌ في الغَرَضِ، وفِيهِ نَظَرٌ. فَقَدْ جاءَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ: «مَن وُسِّعَ عَلَيْهِ في دُنْياهُ ولَمْ يَعْلَمْ أنَّهُ مَكْرٌ بِهِ فَهو مَخْدُوعٌ في عَقْلِهِ». والمُشاكَلَةُ التَّقْدِيرِيَّةُ فِيهِ بَعِيدَةٌ جِدًّا (p-199)بَلْ لا يَكادُ يَدَّعِيها مُنْصِفٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب