الباحث القرآني

﴿جَزاءً مِن رَبِّكَ﴾ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ مَنصُوبٌ بِمَعْنى أنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازًا؛ فَإنَّهُ في قُوَّةِ أنْ يُقالَ: جازى المُتَّقِينَ بِ «مَفازًا» جَزاءً كائِنًا مِن رَبِّكَ، والتَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِتَرْتِيبِهِ وإرْشادِهِ تَعالى، وإضافَةُ الرَّبِّ إلى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ دُونَهم لِتَشْرِيفِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وقِيلَ: لَمْ يَقُلْ: «مِن رَبِّهِمْ» لِئَلّا يَحْمِلَهُ المُشْرِكُونَ عَلى أصْنامِهِمْ وهو بَعِيدٌ جِدًّا، ويُعْلَمُ مِمّا ذَكَرْنا وجْهَ تَرْكِ ﴿مِن رَبِّكَ﴾ فِيما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ وعَدَمُ التَّعَرُّضِ هُناكَ لِنِسْبَةِ الجَزاءِ إلَيْهِ تَعالى بِعُنْوانٍ آخَرَ قِيلَ مِن بابِ: «اللَّهُمَّ إنَّ الخَيْرَ بِيَدَيْكَ والشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ». وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَطاءً﴾ أيْ: تَفَضُّلًا وإحْسانًا مِنهُ عَزَّ وجَلَّ؛ إذْ لا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ شَيْءٌ بَدَلَ مِن «جَزاءً»، فَمَعْنى كَوْنِهِ جَزاءً أنَّهُ كَذَلِكَ بِمُقْتَضى وعْدِهِ جَلَّ وعَلا. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ نَصْبًا بِ «جَزاءً» نَصَبَ المَفْعُولَ بِهِ. وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ ( جَزاءً ) مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ، والمَصْدَرُ المُؤَكِّدُ لا يَعْمَلُ بِلا خِلافٍ لِعِلْمِهِ عِنْدَ النُّحاةِ لِأنَّهُ لا يَنْحَلُّ لِفِعْلٍ وحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، ورُدَّ بِأنَّ ذَلِكَ إذا كانَ النّاصِبُ لِلْمَفْعُولِ المُطْلَقِ مَذْكُورًا، أمّا (p-19)إذا حُذِفَ مُطْلَقًا فَفِيهِ خِلافٌ؛ هَلْ هو العالِمُ أوِ الفِعْلُ. وقالَ الشِّهابُ: الحَقُّ ما قالَ أبُو حَيّانَ؛ لِأنَّ المَذْكُورَ هُنا هو المَصْدَرُ المُؤَكِّدُ لِنَفْسِهِ أوْ لِغَيْرِهِ والَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النُّحاةُ هو المَصْدَرُ الآتِي بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِفِعْلِهِ: كَ نَدْلًا زُرَيْقُ المالِ نَدْلَ الثَّعالِبِ وقَوْلُهُ: ؎يا قابِلَ التَّوْبِ غُفْرانًا مَآثِمَ قَدْ أسْلَفْتُها أنا مِنها خائِفٌ وجِلُ فَلْيُعْرَفْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حِسابًا﴾ صِفَةُ «عَطاءً» بِمَعْنى كافِيًا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقامَ الوَصْفِ، أوْ بُولِغَ فِيهِ أوْ هو عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ؛ وهو مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ: أحْسَبَهُ الشَّيْءَ إذا كَفاهُ حَتّى قالَ: حَسْبِي، وقِيلَ: عَلى حَسَبِ أعْمالِهِمْ أيْ مُقَسَّطًا عَلى قَدْرِها، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْمُجاهِدٍ وكَأنَّ المُرادَ مُقَسَّطًا بَعْدَ التَّضْعِيفِ عَلى ذَلِكَ فَيَنْدَفِعُ ما قِيلَ إنَّهُ غَيْرُ مُناسِبٍ لِتَضْعِيفِ الحَسَناتِ، ولِذا لَمْ يَقُلْ: «وِفاقًا» كَما في السّابِقِ، ودُفِعَ أيْضًا بِأنَّ هَذا بَيانٌ لِما هو الأصْلُ لا لِلْجَزاءِ مُطْلَقًا وقِيلَ: المَعْنى عَطاءً مَفْرُوغًا عَنْ حِسابِهِ لا كَنِعَمِ الدُّنْيا، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ اللَّفْظِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإيهامِ، وقَرَأ ابْنُ قُطَيْبٍ: «حَسّابًا» بِفَتْحِ الحاءِ وشَدِّ السِّينِ، قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: بَنى فِعالًا مِن أفْعَلَ كَدِراكٍ مِن أدْرَكَ، فَمَعْناهُ مُحْسِبًا؛ أيْ كافِيًا. ومَنَعَ بَعْضُهم مَجِيءَ فِعالًا مِنَ الأفْعالِ ودِراكٍ مِن دَرْكٍ فَلْيُحَرَّرْ، وقَرَأ شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ الحِمْصِيُّ، وأبُو البَرَهْسَمِ بِكَسْرِ الحاءِ وشَدِّ السِّينِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ كَكِذّابٍ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: «حُسْنًا» بِالنُّونِ مِنَ الحُسْنِ، وحَكى المَهْدَوِيُّ: «حَسْبًا» بِفَتْحِ الحاءِ وسُكُونِ السِّينِ والباءِ المُوَحَّدَةِ نَحْوَ قَوْلِكَ: حَسْبُكَ كَذا؛ أيْ كافِيكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب