الباحث القرآني

﴿وسُيِّرَتِ الجِبالُ﴾ أيْ: في الجَوِّ عَلى هَيْئَتِها بَعْدَ تَفَتُّتِها وبَعْدَ قَلْعِها مِن مَقارِّها كَما يُعْرَبُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ﴾ وأُدْمِجَ فِيهِ تَشْبِيهُ الجِبالِ بِحِبالِ السَّحابِ في تَخَلْخُلِ الأجْزاءِ وانْتِفاشِها كَما يَنْطِقُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَكُونُ الجِبالُ كالعِهْنِ المَنفُوشِ﴾ . ﴿فَكانَتْ سَرابًا﴾ أيْ: فَصارَتْ بَعْدَ تَسْيِيرِها مِثْلَ سَرابٍ فَتَرى بَعْدَ تَفَتُّتِها وارْتِفاعِها في الهَواءِ كَأنَّها جِبالٌ ولَيْسَتْ بِجِبالٍ بَلْ غُبارٌ غَلِيظٌ مُتَراكِمٌ يُرى مِن بَعِيدٍ كَأنَّهُ جَبَلٌ كالسَّرابِ يُرى كَأنَّهُ بَحْرٌ مَثَلًا ولَيْسَ بِهِ، فالكَلامُ عَلى التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، والجامِعُ أنَّ كُلًّا مِنَ الجِبالِ والسَّرابِ يُرى عَلى كُلِّ شَيْءٍ ولَيْسَ هو بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ وجْهُ الشَّبَهِ التَّخَلْخُلَ؛ إذْ تَكُونُ بَعْدَ تَسْيِيرِها غُبارًا مُنْتَشِرًا كَما قالَ تَعالى: ﴿وبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾ ﴿فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا﴾ والمُسْتَفادُ مِنَ الأزْهارِ البَدِيعَةِ في عِلْمِ الطَّبِيعَةِ لِمُحَمَّدٍ الهَرّاوِيِّ أنَّ السَّرابَ هَواءٌ تَسَخَّنَتْ طَبَقَتُهُ السُّفْلى الَّتِي تَلِي الأرْضَ لِتَسْخَنَ الأرْضُ مِن حَرِّ الشَّمْسِ فَتَخَلْخَلَتْ وصَعِدَ جُزْءٌ مِنها إلى ما فَوْقَها مِنَ الطَّبَقاتِ فَكانَ أكْثَفَ مِمّا تَحْتَهُ، وخَرَجَ بِذَلِكَ التَّسَخُّنُ عَنْ مَوْقِعِهِ الطَّبِيعِيِّ مِنَ الأرْضِ ولِانْعِكاسِ الأشِعَّةِ الضَّوْئِيَّةِ وانْكِسارِها فِيهِ عَلى وجْهٍ مَخْصُوصٍ مُبَيَّنٍ في الكِتابِ المَذْكُورِ مَعَ انْعِكاسِ لَوْنِ السَّماءِ يُظَنُّ ماءً، وتُرى فِيهِ صُورَةُ الشَّيْءِ مُنْقَلِبَةً، وقَدْ تُرى فِيهِ صُوَرٌ سابِحَةٌ كَقُصُورٍ وعُمُدٍ ومَساكِنَ جَمِيلَةٍ مُسْتَغْرَبَةٍ وأشْباحٍ سائِرَةٍ تَتَغَيَّرُ هَيْئَتُها في كُلِّ لَحْظَةٍ وتَنْتَقِلُ عَنْ مَحالِّها ثُمَّ تَزُولُ وما هي إلّا صُوَرٌ حاصِلَةٌ مِنَ انْعِكاسِ صُوَرٍ مَرْئِيَّةٍ بَعِيدَةٍ جِدًّا أوْ مُتَراكِبَةٍ في طَبَقاتِ الهَواءِ المُخْتَلِفَةِ الكَثافَةِ فاعْتِبارُ التَّخَلْخُلِ فَقَطْ في وجْهِ الشَّبَهِ لا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ، وأيًّا ما كانَ فَهَذا بَعْدَ النَّفْخَةِ الثّانِيَةِ عِنْدَ حَشْرِ الخَلْقِ، فاللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يُسَيِّرُ الجِبالَ ويَجْعَلُها هَباءً مُنْبَثًّا ويُسَوِّي الأرْضَ يَوْمَئِذٍ كَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا﴾ ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا﴾ ﴿لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضُ والسَّماواتُ وبَرَزُوا لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ فَإنَّ «اتِّباعَ» الدّاعِي الَّذِي هو إسْرافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وبُرُوزَ الخَلْقِ لِلَّهِ تَعالى لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ النَّفْخَةِ الثّانِيَةِ، وأمّا انْدِكاكُ الجِبالِ وانْصِداعُها فَعِنْدَ النَّفْخَةِ الأُولى، وقِيلَ: إنَّ تَسْيِيرَها وصَيْرُورَتَها (p-14)سَرابًا عِنْدَ النَّفْخَةِ الأُولى أيْضًا ويَأْباهُ ظاهِرُ الآيَةِ، نَعَمْ لَوْ جُعِلَتِ الجُمْلَةُ حالِيَّةً أيْ: فَتَأْتُونَ أفْواجًا وقَدْ سُيِّرَتِ الجِبالُ فَكانَتْ سَرابًا لَكانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، والظّاهِرُ أنَّها تَصِيرُ سَرابًا لِتَسْوِيَةِ الأرْضِ ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ فِيهِ حِكَمٌ أُخْرى، وقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّها تَجْرِي جَرَيانَ الماءِ وتَسِيلُ سَيَلانَهُ كالسَّرابِ فَيَزِيدُ ذَلِكَ في اضْطِرابِ مُتَعَطَّشِي المَحْشَرِ وغَلَبَةِ شَوْقِهِمْ إلى الماءِ خِلافُ الظّاهِرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب