الباحث القرآني

سُورَةُ المُرْسَلاتِ وتُسَمّى سُورَةَ العُرْفِ وهي مَكِّيَّةٌ فَقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ والنِّسائِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: بَيْنَما نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في غارٍ بِمِنى إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ فَإنَّهُ لَيَتْلُوَها وإنِّي لَأتَلَقّاها مِن فِيهِ وإنَّ فاهُ لَرَطْبٌ بِها إذْ خَرَجَتْ عَلَيْنا حَيَّةٌ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اقْتُلُوها» فابْتَدَرْناها فَسَبَقَتْنا، فَدَخَلَتْ جُحْرَها فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وُقِيَتْ شَرَّكم كَما وُقِيتُمْ شَرَّها» . وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ ومُقاتِلٍ إنَّ فِيها آيَةً مَدَنِيَّةً وهي ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ [المُرْسَلاتِ: 48] وظاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذا عَدَمُ اسْتِثْناءِ ذَلِكَ وأظْهَرُ مِنهُ ما أخْرَجَهُ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: «كُنّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في غارٍ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ ﴿والمُرْسَلاتِ﴾، فَأخَذْتُها مِن فِيهِ وإنَّ فاهُ لَرَطْبٌ بِها فَلا أدْرِي بِأيِّهِما خَتَمَ ﴿فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾» [المُرْسَلاتِ: 50] وآيُها خَمْسُونَ آيَةً بِلا خِلافٍ ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا قالَ فِيما قَبْلُ ﴿يُدْخِلُ مَن يَشاءُ في رَحْمَتِهِ﴾ [الإنْسانِ: 31] إلَخِ افْتَتَحَ هَذِهِ بِالإقْسامِ عَلى ما يَدُلُّ عَلى تَحْقِيقِهِ وذِكْرِ وقْتِهِ وأشْراطِهِ وقِيلَ إنَّهُ سُبْحانَهُ أقْسَمَ عَلى تَحْقِيقِ جَمِيعِ ما تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ قَبْلُ مِن وعِيدِ الكافِرِينَ الفُجّارِ ووَعْدِ المُؤْمِنِينَ الأبْرارِ فَقالَ عَزَّ مِن قائِلٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ ﴿فالعاصِفاتِ عَصْفًا﴾ ﴿والنّاشِراتِ نَشْرًا﴾ ﴿فالفارِقاتِ فَرْقًا﴾ ﴿فالمُلْقِياتِ ذِكْرًا﴾ قِيلَ أقْسَمَ سُبْحانَهُ بِمَنِ اخْتارَهُ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلى ما أخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ، فَقِيلَ المُرْسَلاتُ والعاصِفاتُ طَوائِفُ، والنّاشِراتُ والفارِقاتُ والمُلْقِياتُ طَوائِفُ أُخْرى فالأُولى طَوائِفُ أُرْسِلْنَ بِأمْرِهِ تَعالى وأُمْرْنَ بِإنْفاذِهِ فَعَصَفْنَ في المُضِيِّ وأسْرَعْنَ كَما تَعْصِفُ الرِّيحُ تَخَفُّفًا في امْتِثالِ الأمْرِ وإيقاعِ العَذابِ بِالكَفَرَةِ إنْقاذًا لِلْأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ونُصْرَةً لَهم والثّانِيَةُ طَوائِفُ نَشَرْنَ أجْنِحَتَهُنَّ في الجَوِّ عِنْدَ انْحِطاطِهِنَّ بِالوَحْيِ فَفَرَّقْنَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ فَألْقَيْنَ ذِكْرًا إلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ولَعَلَّ مَن يُلْقِي الذِّكْرَ لَهم غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَلْ هو رَئِيسُهم ويُرْشِدُ إلى هَذا الحَدِيثِ الرَّصْدُ وفي بَعْضِ الآثارِ «نَزَلَ إلَيَّ مَلَكٌ بِألُوكَةٍ مِن رَبِّي فَوَضَعَ رِجْلًا في السَّماءِ وثَنى الأُخْرى بَيْنَ يَدَيْ» فالمُرْسِلاتُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، والمُرادُ وكُلِّ طائِفَةٍ مُرْسَلَةٍ وكَذا (النّاشِراتِ) ونُصِبَ ﴿عُرْفًا﴾ عَلى الحالِ والمُرادُ مُتَتابِعَةً، وكانَ الأصْلُ والمُرْسَلاتِ مُتَتابِعَةً كالعُرْفِ وهو عُرْفُ الدّابَّةِ كالفَرَسِ والضَّبْعِ أعْنِي الشَّعْرَ المَعْرُوفَ عَلى قَفاها فَحَذَفَ مُتَتابِعَةً لِدَلالَةِ التَّشْبِيهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَذَفَ أداةَ التَّشْبِيهِ مُبالَغَةً ومِن هَذا قَوْلُهم جاؤُوا عُرْفًا واحِدًا إذا جاؤُوا يَتْبَعُ بَعْضُهم بَعْضًا وهم عَلَيْهِ كَعُرْفِ الضَّبْعِ إذا تَألَّبُوا عَلَيْهِ. ويُؤْخَذُ مِن كَلامِ بَعْضٍ أنَّ العُرْفَ في الأصْلِ ما ذُكِرَ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ في المَعْنى التَّتابُعُ فَصارَ فِيهِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ عَلى أنَّهُ بِمَعْنى العُرْفِ الَّذِي هو نَقِيضُ النُّكْرِ أيْ ﴿والمُرْسَلاتِ﴾ لِلْإحْسانِ والمَعْرُوفِ ولا يُعَكِّرُ عَلى ذَلِكَ أنَّ الإرْسالَ لِعَذابِ الكُفّارِ لِأنَّ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لَهم فَإنَّهُ مَعْرُوفٌ لِلْأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْتَقَمَ اللَّهُ تَعالى لَهم مِنهم. وعَطْفُ النّاشِراتِ عَلى ما قَبْلُ بِالواوِ ظاهِرٌ لِلتَّغايُرِ بِالذّاتِ بَيْنَهُما وعَطْفُ «العاصِفاتِ» عَلى «المُرْسَلاتِ» و«الفارِقاتِ» عَلى «النّاشِراتِ» وكَذا ما بَعْدُ بِالفاءِ لِتَنْزِيلِ تَغايُرِ الصِّفاتِ مَنزِلَةَ تَغايُرِ الذّاتِ كَما في قَوْلِهِ: ؎يا لَهْفَ زِيادَةَ لِلْحارِثِ الصّابِحِ فالغانِمِ فالآيِبِ وهِيَ لِلدَّلالَةِ عَلى تَرْتِيبِ مَعانِي الصِّفاتِ في الوُجُودِ أيِ الَّذِي صَبَّحَ فَغَنِمَ فَآبَ، وتَرْتِيبُ مُضِيِّ الأمْرِ عَلى (p-170)الإرْسالِ بِهِ والأمْرُ بِإنْقاذِهِ ظاهِرٌ، وأمّا تَرْتِيبُ إلْقاءِ الذِّكْرِ إلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلى الفَرْقِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ مَعَ ظُهُورِ تَأخُّرِ الفَرْقِ عَنِ الإلْقاءِ فَقِيلَ لِتَأْوِيلِ الفَرْقِ بِإرادَتِهِ فَحِينَئِذٍ يَتَقَدَّمُ عَلى الإلْقاءِ، وقِيلَ لِتَقَدُّمِ الفَرْقِ عَلى الإلْقاءِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى أنْ يُؤَوَّلَ بِإرادَتِهِ لِأنَّهُ بِنَفْسِ نُزُولِهِمْ بِالوَحْيِ الَّذِي هو الحَقُّ المُخالِفُ لِلْباطِلِ الَّذِي هو الهَوى ومُقْتَضى الرَّأْيِ الفاسِدِ وإنَّما العِلْمُ بِهِ مُتَأخِّرٌ. ومِن هَذا يَظْهَرُ تَرْتِيبُ الفَرْقِ عَلى نَشْرِ الأجْنِحَةِ إذِ الحاصِلُ عَلَيْهِ نَشَرْنَ أجْنِحَتَهُنَّ لِلنُّزُولِ فَنَزَلْنَ فَألْقَيْنَ وهو غَيْرُ ظاهِرٍ عَلى ما قَبْلَهُ لِأنَّ إرادَةَ الفَرْقِ تُجامِعُ النَّشْرَ وكَذا إرادَتُهُ إذا أُوِّلَ أيْضًا بِحَسَبِ الظّاهِرِ بَلْ رُبَّما يُقالُ إنَّ تِلْكَ الإرادَةَ قَبْلُ، وقِيلَ: إنَّ الفاءَ في ذَلِكَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ ضَرُورَةَ أنَّ إرادَةَ الفَرْقِ أعْلى رُتْبَةً مِنَ النَّشْرِ، وقِيلَ: إنَّها فِيهِ وفِيما بَعْدَهُ لِمُجَرَّدِ الإشْعارِ بِأنَّ كُلًّا مِنَ الأوْصافِ المَذْكُورَةِ أعْنِي النَّشْرَ والفَرْقَ مُسْتَقِلٌّ بِالدَّلالَةِ عَلى اسْتِحْقاقِ الطَّوائِفِ المَوْصُوفَةِ بِها لِلتَّفْخِيمِ والإجْلالِ بِالإقْسامِ بِهِنَّ فَإنَّهُ لَوْ جِيءَ بِها عَلى تَرْتِيبِ الوُقُوعِ لَرُبَّما فُهِمْ أنَّ مَجْمُوعَ الثَّلاثَةِ المُتَرَتِّبَةِ هو المُوجَبُ لِما ذَكَرَ مِنَ الِاسْتِحْقاقِ. واسْتِعْمالُ «العاصِفاتِ» بِمَعْنى المُسْرِعاتِ سُرْعَةَ الرِّيحِ مَجازٌ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ ولا يَبْعُدُ أنْ يُرادَ بِالعاصِفاتِ المُذْهِباتِ المُهْلِكاتِ بِالعَذابِ الَّذِي أُرْسِلْنَ بِهِ مَن أُرْسِلْنَ إلَيْهِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ أيْضًا أوْ المَجازِ المُرْسَلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب