الباحث القرآني
﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ الظّاهِرُ مَلَكًا ألا تَرى العَرَبَ وهُمُ (p-126)الفُصَحاءُ كَيْفَ فَهِمُوا مِنهُ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها لَمّا نَزَلَتْ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قالَ أبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ ثَكِلَتْكم أُمَّهاتُكم أسْمَعُ أنَّ ابْنَ أبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكم أنَّ خَزَنَةَ النّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ وأنْتُمُ الدَّهْمُ أيَعْجَزُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنكم أنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنهُمْ، فَقالَ لَهُ أبُو الأشَدِّ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ كَلِدَةَ الجُمَحِيُّ وكانَ شَدِيدَ البَطْشِ: أنا أكْفِيكم سَبْعَةَ عَشَرَ فاكْفُونِي أنْتُمُ اثْنَيْنِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلا مَلائِكَةً﴾ أيْ ما جَعَلْناهم رِجالًا مِن جِنْسِكم يُطاقُونَ وأنْزَلَ سُبْحانَهُ في أبِي جَهْلٍ ﴿أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ ﴿ثُمَّ أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [اَلْقِيامَةِ: 34، 35] والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِأصْحابِ النّارِ هُمُ التِّسْعَةُ عَشَرَ فَفِيهِ وضْعُ الظّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ وكَأنَّ ذَلِكَ لِما في هَذا الظّاهِرِ مِنَ الإشارَةِ إلى أنَّهُمِ المُدَبِّرُونَ لِأمْرِها القائِمُونَ بِتَعْذِيبِ أهْلِها ما لَيْسَ في الضَّمِيرِ. وفي ذَلِكَ إيذانٌ بِأنَّ المُرادَ بِسَقَرَ النّارُ مُطْلَقًا لا طَبَقَةً خاصَّةً مِنها والجُمْهُورُ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِمُ النُّقَباءُ فَمَعْنى كَوْنِهِمْ ﴿عَلَيْها﴾ أنَّهم يَتَوَلَّوْنَ أمْرَها وإلَيْهِمْ جِماعُ زَبانِيَتِها وإلّا
فَقَدْ جاءَ: «يُؤْتى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها» .
وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ التَّمْيِيزَ المَحْذُوفَ صِنْفٌّ وقِيلَ صَفٌّ والأصْلُ عَلَيْها ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ صِنْفًا أوْ ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ صَفًّا ويُبْعِدُهُ ما تَقَدَّمَ في رِوايَةِ الحَبْرِ وكَذا قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَإنَّ المُتَبادِرَ أنَّ افْتِتانَهم بِاسْتِقْلالِهِمْ لَهم واسْتِبْعادِهِمْ تَوَلِّي تِسْعَةَ عَشَرَ لِتَعْذِيبِ أكْثَرِ الثَّقَلَيْنِ واسْتِهْزائِهِمْ بِذَلِكَ، ومَعَ تَقْدِيرِ الصِّنْفِ أوِ الصَّفِّ لا يَتَسَنّى ذَلِكَ وقالَ غَيْرُ واحِدٍ في تَعْلِيلِ جَعْلِهِمْ مَلائِكَةً لِيُخالِفُوا جِنْسَ المُعَذَّبِينَ فَلا يَرِقُّوا لَهم ولا يَسْتَرْوِحُوا إلَيْهِمْ ولِأنَّهم أقْوى الخَلْقِ وأقْوَمُهم بِحَقِّ اللَّهِ تَعالى وبِالغَضَبِ لَهُ سُبْحانَهُ وأشَدُّهم بَأْسًا.
وفِي الحَدِيثِ: «كَأنَّ أعْيُنَهُمُ البَرْقُ وكَأنَّ أقْوالَهُمُ الصَّياصِيُّ يَجُرُّونَ أشْعارَهم لَهم مِثْلَ قُوَّةٍ الثَّقَلَيْنِ يُقْبَلُ أحَدُهم بِالأُمَّةِ مِنَ النّاسِ يَسُوقُهم عَلى رَقَبَتِهِ جَبَلٌ حَتّى يَرْمِيَ بِهِمْ في النّارِ فَيَرْمِي بِالجَبَلِ عَلَيْهِمْ» .
ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ في التَّنْوِينِ إشْعارٌ إلى عِظَمِ أمْرِهِمْ ومَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ﴾ إلى آخِرِهِ عَلى ما اخْتارَهُ بَعْضُ الأجِلَّةِ وما جَعَلْنا عَدَدَ أصْحابِ النّارِ ( إلّا ) العَدَدَ الَّذِي اقْتَضى فِتْنَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالِاسْتِقْلالِ والِاسْتِهْزاءِ وهو التِّسْعَةُ عَشَرَ فَكَأنَّ الأصْلَ ﴿وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلا﴾ تِسْعَةَ عَشَرَ فَعَبَّرَ بِالأثَرِ وهو فِتْنَةُ الَّذِينَ كَفَّرُوا عَنِ المُؤَثِّرِ وهو خُصُوصُ التِّسْعَةِ عَشَرَ لِأنَّهُ كَما عُلِمَ السَّبَبُ في افْتِتانِهِمْ وقِيلَ ( إلّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ )تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الأثَرَ هُنا لِعَدَمِ انْفِكاكِهِ عَنْ مُؤْثِّرِهِ لِتَلازُمِهِما كانا كَشَيْءٍ واحِدٍ يُعَبَّرُ بِاسْمِ أحَدِهِما عَنِ الآخَرِ ومَعْنى جَعَلَ عِدَّتَهُمُ المُطْلَقَةَ العِدَّةَ المَخْصُوصَةَ أنْ يُخْبِرَ عَنْ عَدَدِهِمْ بِأنَّهُ كَذا إذِ الجَعْلُ لا يَتَعَلَّقُ بِالعُدَّةِ إنَّما يَتَعَلَّقُ بِالمَعْدُودِ، فالمَعْنى أخْبَرَنا أنَّ عِدَّتَهم تِسْعَةَ عَشَرَ دُونَ غَيْرِها.
﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ أيْ لِيَكْتَسِبُوا اليَقِينَ بِنُبُوَّتِهِ ﷺ وصَدَقَ القُرْآنُ لِأجْلِ مُوافَقَةِ المَذْكُورِينَ ذِكْرَهم في القُرْآنِ بِهَذا العَدَدِ وفي الكِتابَيْنِ كَذَلِكَ وهَذا غَيْرُ جَعْلِ المَلائِكَةِ عَلى العَدَدِ المَخْصُوصِ لِأنَّهُ إيجادٌ ولا يَصِحُّ عَلى ما قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنْ يَجْعَلَ إيجادَهم عَلى الوَصْفِ عِلَّةً لِلِاسْتِيقانِ المَذْكُورِ لِأنَّهُ لَيْسَ ( إلّا ) لِلْمُوافَقَةِ وتَكَلَّفَ بَعْضُهم لِتَصْحِيحِهِ بِأنَّ الإيجادَ سَبَبٌ لِلْإخْبارِ والإخْبارَ سَبَبٌ لِلِاسْتِيقانِ فَهو سَبَبٌ بَعِيدٌ لَهُ والشَّيْءُ كَما يُسْنَدُ لِسَبَبِهِ البَعِيدِ يُسْنَدُ لِسَبَبِهِ القَرِيبِ لَكِنَّهُ كَما قالَ لا يَحْسُنُ ذَلِكَ وإنَّما احْتِيجَ إلى التَّأْوِيلِ بِالتَّعْبِيرِ بِالأثَرِ عَنِ المُؤَثِّرِ ولَمْ يَبْقَ الكَلامُ عَلى ظاهِرِهِ لِأنَّ الجَعْلَ مِن دَواخِلِ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ فَما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ بِاعْتِبارِ نِسْبَةِ أحَدِ المَفْعُولَيْنِ إلى الآخَرِ كَقَوْلِكَ جَعَلْتُ الفِضَّةَ خاتَمًا لِتَزَيُّنٍ بِهِ، وكَذَلِكَ ما جَعَلْتُ الفِضَّةَ ( إلّا ) خاتَمًا لِكَذا ولا مَعْنى لِتُرَتِّبِ الِاسْتِيقانِ وما بَعْدَهُ عَلى جَعْلِ عِدَّتِهِمْ فِتْنَةً لِلْكَفّارِ ولا مَدْخَلَ لِافْتِتانِهِمْ بِالعَدَدِ المَخْصُوصِ في ذَلِكَ، وإنَّما الَّذِي لَهُ مَدْخَلٌ العِدَّةُ بِنَفْسِها أيِ العِدَّةُ بِاعْتِبارِ أنَّها العِدَّةُ المَخْصُوصَةُ والإخْبارُ بِها كَما سَمِعْتَ ولَيْسَ ذَلِكَ تَحْرِيفًا لِكِتابِ اللَّهِ تَعالى ولا مَبْنِيًّا عَلى رِعايَةِ مَذْهَبٍ باطِلٍ كَما تَوَهَّمَ. ومِنهم مَن تَكَلَّفَ لِأمْرِ السَّبَبِيَّةِ عَلى الظّاهِرِ بِما تَمُجُّهُ (p-127)الأسْماعُ فَلا نُسَوِّدُ بِهِ الرِّقاعَ.
وفِي البَحْرِ ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ وهو مُتَعَلِّقٌ بِـ ﴿جَعَلْنا﴾ لا بِـ ﴿فِتْنَةً﴾ فَلَيْسَتِ الفِتْنَةُ مَعْلُولَةً لِلِاسْتِيقانِ بَلِ المَعْلُولُ جَعْلُ العِدَّةِ سَبَبَ الفِتْنَةِ. وفي الِانْتِصافِ يَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾ إلى ما قَبْلَ الِاسْتِثْناءِ أيْ جَعَلْنا عِدَّتَهم سَبَبًا لِفِتْنَةِ الكُفّارِ ويَقِينِ المُؤْمِنِينَ وذَكَرَ الإمامُ في ذَلِكَ وجْهَيْنِ الثّانِي ما قَدَّمْناهُ مِمّا اخْتارَهُ بَعْضُ الأجِلَّةِ والأوَّلُ أنَّ التَّقْدِيرَ ﴿وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلا فِتْنَةً﴾ لِلْكافِرِينَ وإلّا ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ قالَ: وهَذا كَما يُقالُ فَعَلْتُ كَذا لِتَعْظِيمِكَ ولِتَحْقِيرِ عَدُوِّكَ فالواوُ العاطِفَةُ قَدْ تُذْكَرُ في هَذا المَوْضِعِ تارَةً وقَدْ تُحْذَفُ أُخْرى. وقالَ بَعْضٌ أنَّهُ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ أيْ فَعَلْنا ذَلِكَ لِيَسْتَيْقِنَ إلَخِ والكُلُّ كَما تَرى وحَمَلَ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ عَلى أهْلِ الكِتابَيْنِ مِمّا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمْعٌ وقِيلَ المُرادُ بِهِمُ اليَهُودُ فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ «عَنِ البَراءِ أنَّ رَهْطًا مِنَ اليَهُودِ سَألُوا رَجُلًا مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ فَقالَ اللَّهُ تَعالى ورَسُولُهُ ﷺ أعْلَمُ فَجاءَ فَأخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ فَنَزَلَ عَلَيْهِ ساعَتَئِذٍ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» .
وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جابِرٍ قالَ: «قالَ ناسٌ مِنَ اليَهُودِ لِأُناسٍ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ: هَلْ يَعْلَمُ نَبِيُّكم عَدَدَ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ؟ فَأخْبَرُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: هَكَذا وهَكَذا في مَرَّةٍ عَشَرَةٌ وفي مَرَّةٍ تِسْعَةٌ» .
واسْتَشْعَرَ مِن هَذا أنَّ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ لِأنَّ اليَهُودَ إنَّما كانُوا فِيها وهو اسْتِشْعارٌ ضَعِيفٌ لِأنَّ السُّؤالَ لِصَحابِيٍّ فَلَعَلَّهُ كانَ مُسافِرًا فاجْتَمَعَ بِيَهُودِيٍّ حَيْثُ كانَ وأيْضًا لا مانِعَ إذْ ذاكَ مِن إتْيانِ بَعْضِ اليَهُودِ نَحْوَ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ ثُمَّ إنَّ الخَبَرَيْنِ لا يُعِينانِ حَمْلَ المَوْصُولِ عَلى اليَهُودِ كَما يَخْفى فالأوْلى إبْقاءُ التَّعْرِيفِ عَلى الجِنْسِ وشُمُولُ المَوْصُولِ لِلْفَرِيقَيْنِ أيْ ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾ أهْلُ الكِتابِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى ﴿ويَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانًا﴾ أيْ يَزْدادُ إيمانُهم كَيْفِيَّةً بِما رَأوْا مِن تَسْلِيمِ أهْلِ الكِتابِ وتَصْدِيقِهِمْ أنَّهُ كَذَلِكَ أوْ كَمِّيَّةً بِانْضِمامِ إيمانِهِمْ بِذَلِكَ إلى إيمانِهِمْ بِسائِرِ ما أنْزَلَ.
﴿ولا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ والمُؤْمِنُونَ﴾ تَأْكِيدٌ لِما قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِيقانِ وازْدِيادِ الإيمانِ ونَفْيٌ لِما قَدْ يَعْتَرِي المُسْتَيْقِنَ مِن شُبْهَةٍ ما لِلْغَفْلَةِ عَنْ بَعْضِ المُقَدِّماتِ أوْ طَرَيانِ ما تَوَهَّمَ كَوْنَهُ مُعارِضًا في أوَّلِ وهْلَةٍ ولِما فِيهِ مِن هَذِهِ الزِّيادَةِ جازَ عَطْفُهُ عَلى المُؤَكَّدِ بِالواوِ لِتَغايُرِهِما في الجُمْلَةِ، وإنَّما لَمْ يُنْظَمِ المُؤْمِنُونَ في سِلْكِ أهْلِ الكِتابِ في نَفْيِ الِارْتِيابِ حَيْثُ لَمَّ يَقُلْ ولا يَرْتابُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلى تَبايُنِ النَّفِيَّيْنِ حالًا فَإنَّ انْتِفاءَ الِارْتِيابِ مِن أهْلِ الكِتابِ مُقارِنٌ لِما يُنافِيهِ مِنَ الجُحُودِ ومِنَ المُؤْمِنِينَ مُقارِنٌ لِما يَقْتَضِيهِ مِنَ الإيمانِ وكَمْ بَيْنَهُما وقِيلَ إنَّما لَمْ يَقُلْ ولا يَرْتابُوا بَلْ قِيلَ ﴿ولا يَرْتابَ﴾ إلَخِ لِلتَّنْصِيصِ عَلى تَأْكِيدِ الأمْرَيْنِ لِاحْتِمالِ عَوْدِ الضَّمِيرِ في ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ فَقَطْ والتَّعْبِيرُ عَنِ المُؤْمِنِينَ بِاسْمِ الفاعِلِ بَعْدَ ذِكْرِهِمْ بِالمَوْصُولِ والصِّلَةِ الفِعْلِيَّةِ المُنْبِئَةِ عَنِ الحُدُوثِ لِلْإيذانِ بِثَباتِهِمْ عَلى الإيمانِ بَعْدَ ازْدِيادِهِمْ ورُسُوخِهِمْ في ذَلِكَ.
﴿ولِيَقُولَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أيْ شَكٌّ أوْ نِفاقٌ فَيَكُونُ بِناءً عَلى أنِ السُّورَةِ بِتَمامِها مَكِّيَّةٌ، والنِّفاقُ إنَّما حَدَثَ بِالمَدِينَةِ إخْبارًا عَمّا سَيَحْدُثُ مِنَ المُغَيَّباتِ بَعْدَ الهِجْرَةِ ﴿والكافِرُونَ﴾ المُصِرُّونَ عَلى التَّكْذِيبِ ﴿ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلا﴾ أيْ أيُّ شَيْءٍ أرادَ اللَّهُ تَعالى أوْ ما الَّذِي أرادَ اللَّهُ تَعالى بِهَذا العَدَدِ المُسْتَغْرَبِ اسْتِغْرابَ المَثَلِ وعَلى الأوَّلِ ماذا مُنَزَّلَةٌ مَنزِلَةَ اسْمٍ واحِدٍ لِلِاسْتِفْهامِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ ( أرادَ ) وعَلى الثّانِي هي مُؤَلَّفَةٌ مِن كَلِمَةٍ ما اسْمُ اسْتِفْهامٍ مُبْتَدَأٌ وذا اسْمُ مَوْصُولٍ خَبَرُهُ والجُمْلَةُ بَعْدُ صِلَةٌ والعائِدُ فِيها مَحْذُوفٌ ( ومَثَلًا ) نُصِبَ عَلى التَّمْيِيزِ أوْ عَلى الحالِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ( هَذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكم آيَة) [اَلْأعْرافِ: 73، هُودٍ: 64] .
والظّاهِرُ أنَّ ألْفاظَ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِنَ المَحْكِيِّ وعَنَوْا بِالإشارَةِ التَّحْقِيرَ وغَرَضُهم نَفْيُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ لا (p-128)الِاسْتِفْهامُ حَقِيقَةً عَنِ الحِكْمَةِ ولا القَدْحُ في اشْتِمالِهِ عَلَيْها مَعَ اعْتِرافِهِمْ بِصُدُورِ الأخْبارِ بِذَلِكَ عَنْهُ تَعالى، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ أرادَ اللَّهُ مِنَ الحِكايَةِ وهم قالُوا ماذا أُرِيدَ ونَحْوُهُ وقِيلَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَثَلُ بِمَعْناهُ الآخَرُ وهو ما شُبِّهَ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ بِأنْ يَكُونُوا قَدْ عَدُّوهُ لِاسْتِغْرابِهِ مَثَلًا مَضْرُوبًا ونَسَبُوهُ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ اسْتِهْزاءً وتَهَكُّمًا.
وإفْرادُ قَوْلِهِ بِهَذا التَّعْلِيلِ مَعَ كَوْنِهِ مِن بابِ فِتْنَتِهِمْ قِيلَ لِلْإشْعارِ بِاسْتِقْلالِهِ في الشَّناعَةِ وفي الحَواشِي الشِّهابِيَّةِ إنَّما أُعِيدُ اللّامَ فِيهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ العِلَّتَيْنِ إذْ مَرْجِعُ الأُولى الهِدايَةُ المَقْصُودَةُ بِالذّاتِ ومَرْجِعُ هَذِهِ الضَّلالُ المَقْصُودُ بِالعَرْضِ النّاشِئِ مِن سُوءِ صَنِيعِ الضّالِّينَ وتَعْلِيلُ أفْعالِهِ تَعالى بِالحِكَمِ والمَصالِحِ جائِزٌ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ وجَوَّزَ في هَذِهِ اللّامِ وكَذا الأُولى كَوْنَها لِلْعاقِبَةِ.
﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ﴾ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما قَبْلَهُ مِن مَعْنى الإضْلالِ والهِدايَةِ ومَحَلُّ الكافِ في الأصْلِ النَّصْبُ عَلى أنَّها صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وأصْلُ التَّقْدِيرِ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ﴿ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ إضْلالًا وهِدايَةً كائِنَيْنِ مِثْلَ ما ذَكَرَ مِنَ الإضْلالِ والهِدايَةِ فَحُذِفَ المَصْدَرُ وأُقِيمَ وصْفُهُ مَقامَهُ ثُمَّ قُدِّمَ عَلى الفِعْلِ لِإفادَةِ القَصْرِ فَصارَ النَّظْمُ مِثْلَ ذَلِكَ الإضْلالِ وتِلْكَ الهِدايَةِ ﴿يُضِلُّ اللَّهُ﴾ تَعالى ﴿مَن يَشاءُ﴾ إضْلالَهُ لِصَرْفِ اخْتِيارِهِ حَسَبَ اسْتِعْدادِهِ السَّيْءِ إلى جانِبِ الضَّلالِ عِنْدَ مُشاهَدَتِهِ لِآياتِ اللَّهِ تَعالى النّاطِقَةِ بِالهُدى.
﴿ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ هِدايَتَهُ لِصَرْفِ اخْتِيارِهِ حَسَبَ اسْتِعْدادِهِ الحَسَنِ عِنْدَ مُشاهَدَةِ تِلْكَ الآياتِ إلى جانِبِ الهُدى لا إضْلالًا وهِدايَةً أدْنى مِنهُما، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى ما بَعْدُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [اَلْبَقَرَةِ: 143] عَلى ما حُقِّقَ في مَوْضِعِهِ ﴿وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ﴾ جَمْعُ جُنْدٍ اشْتَهَرَ في العَسْكَرِ اعْتِبارًا بِالغِلْظَةِ مِنَ الجُنْدِ أيِ الأرْضِ الغَلِيظَةِ الَّتِي فِيها حِجارَةٌ. ويُقالُ لِكُلِّ جَمْعٍ أيْ وما يَعْلَمُ جُمُوعَ خَلْقِهِ تَعالى الَّتِي مِن جُمْلَتِها المَلائِكَةُ المَذْكُورُونَ عَلى ما هم عَلَيْهِ ﴿إلا هُوَ﴾ عَزَّ وجَلَّ إذْ لا سَبِيلَ لِأحَدٍ إلى حَصْرِ المُمْكِناتِ
والوُقُوفِ عَلى حَقائِقِها وصِفاتِها ولَوْ إجْمالًا فَضْلًا عَنِ الِاطِّلاعِ عَلى تَفاصِيلِ أحْوالِها مِن كَمْ وكَيْفَ ونِسْبَةٍ. ( وهو ) رَدٌّ لِاسْتِهْزائِهِمْ يَكُونُ الخَزَنَةُ تِسْعَةَ عَشَرَ لِجَهْلِهِمْ وجْهَ الحِكْمَةِ في ذَلِكَ. وقالَ مُقاتِلٌ هو جَوابٌ لِقَوْلِ أبِي جَهْلٍ أما لِرَبِّ مُحَمَّدٍ أعْوانٌ ( إلّا ) تِسْعَةَ عَشَرَ وحاصِلُهُ أنَّهُ لَمّا قَلَّلَ الأعْوانَ أُجِيبَ بِأنَّهم لا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً إنَّما المُوَكَّلُونَ عَلى النّارِ هَؤُلاءِ المَخْصُوصُونَ لا أنَّ المَعْنى ما يَعْلَمُ بِقُوَّةِ بَطْشِ المَلائِكَةِ ( إلّا ) هو خِلافًا لِلطِّيبِي فَإنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ ظاهِرِ الدَّلالَةِ عَلى هَذا المَعْنى واخْتَلَفَ في أكْثَرِ جُنُودِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَقِيلَ المَلائِكَةُ لِخَبَرِ: «أطَّتِ السَّماءُ وحَقَّ لَها أنْ تَئِطَّ ما فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ ( إلّا ) وفِيهِ مَلَكٌ قائِمٌ أوْ راكِعٌ أوْ ساجِدٌ» . .
وفِي بَعْضِ الأخْبارِ «أنَّ مَخْلُوقاتِ البَرِّ عُشْرُ مَخْلُوقاتِ البَحْرِ والمَجْمُوعُ عُشْرُ مَخْلُوقاتِ الجَوِّ والمَجْمُوعُ عُشْرُ مَلائِكَةِ السَّماءِ الدُّنْيا والمَجْمُوعُ عُشْرُ مَلائِكَةِ السَّماءِ الثّانِيَةِ وهَكَذا إلى السَّماءِ السّابِعَةِ والمَجْمُوعُ عُشْرُ مَلائِكَةِ الكُرْسِيِّ والمَجْمُوعُ عُشْرُ المَلائِكَةِ الحافِّينَ بِالعَرْشِ والمَجْمُوعُ أقَلُّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى ما لا يَعْلَمُهُ ( إلّا ) اللَّهُ، وقِيلَ المَجْمُوعُ أقَلُّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى المَلائِكَةِ المُهَيْمِنِينَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُ أحَدُهم أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ أحَدًا سِواهُ والمَجْمُوعُ أقَلُّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى ما يَعْلَمُهُ سُبْحانَهُ مِن مَخْلُوقاتِهِ» .
وعَنِ الأوْزاعِيِّ قالَ: قالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: يا رَبِّ مَن مَعَكَ في السَّماءِ؟ قالَ: مَلائِكَتِي، قالَ: كَمْ عِدَتُهُمْ؟ قالَ: اثْنا عَشَرَ سِبْطًا، قالَ: كَمْ عِدَةُ كُلِّ سِبْطٍ؟ قالَ: عَدَدُ التُّرابِ
وفِي صِحَّةِ هَذا نَظَرٌ وإنْ صَحَّ فَصَدْرُهُ مِنَ المُتَشابِهِ وأنا لا أجْزِمُ بِأكْثَرِيَّةِ صِنْفٍ فَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ ( إلّا ) هو ولَمْ يَصِحَّ عِنْدِي نَصٌّ في ذَلِكَ بَيْدَ أنَّهُ يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أنَّ الأكْثَرَ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمْ السَّلامُ، وهَذِهِ الآيَةُ وأمْثالُها مِنَ الآياتِ والأخْبارِ تُشَجِّعُ عَلى القَوْلِ بِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ في الأجْرامِ العُلْوِيَّةِ جُنُودٌ مِن جُنُودِ اللَّهِ تَعالى لا يَعْلَمُ حَقائِقَها وأحْوالَها ( إلّا ) هو عَزَّ وجَلَّ ودائِرَةُ مُلْكِ اللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ أعْظَمُ مِن أنْ يُحِيطَ بِها نِطاقُ الحَصْرِ أوْ يَصِلَ إلى مَرْكَزِها طائِرُ الفِكْرِ ( فَأنّى ) وهَيْهاتَ ولَوِ اسْتَغْرَقَتِ القُوى والأوْقاتُ هَذا واخْتَلَفَ في المُخَصَّصِ لِهَذا العَدَدِ (p-129)أعْنِي تِسْعَةَ عَشَرَ فَقِيلَ إنَّ اخْتِلافَ النُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ في النَّظَرِ والعَمَلِ بِسَبَبِ القُوى الحَيَوانِيَّةِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ يَعْنِي الحَواسَّ الخَمْسَةَ الباطِنَةَ والحَواسَّ الخَمْسَةَ الظّاهِرَةَ والقُوَّةَ الباعِثَةَ كالغَضَبِيَّةِ والشَّهْوِيَّةَ والقُوَّةَ المُحَرِّكَةَ فَهَذِهِ اثْنَتا عَشْرَةَ والطَّبِيعِيَّةَ السَّبْعَ الَّتِي ثَلاثٌ مِنها مَخْدُومَةٌ وهي القُوَّةُ النّامِيَةُ والغادِيَةُ والمُوَلِّدَةُ وأرْبَعٌ مِنها خادِمَةٌ وهي الهاضِمَةُ والجاذِبَةُ والدّافِعَةُ والماسِكَةُ وهَذا مَعَ ابْتِنائِهِ عَلى الفَلْسَفَةِ لا يَكادُ يَتِمُّ كَما لا يَخْفى عَلى مَن وقَفَ عَلى كُتُبِها.
وقِيلَ: إنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعَ دِرْكاتٍ سِتٌّ مِنها لِأصْنافِ الكُفّارِ وكُلُّ صِنْفٍ يُعَذَّبُ بِتَرْكِ الِاعْتِقادِ والإقْرارِ والعَمَلِ أنْواعًا مِنَ العَذابِ تُناسِبُها فَيَضْرِبُ السِّتَّ في الثَّلاثَةِ يَحْصُلُ ثَمانِيَةَ عَشَرَ وعَلى كُلِّ نَوْعِ مَلَكٌ أوْ صِنْفٌ يَتَوَلّاهُ وواحِدَةٌ لِعُصاةِ الأُمَّةِ يُعَذَّبُونَ فِيها بِتَرْكِ العَمَلِ نَوْعًا يُناسِبُهُ ويَتَوَلّاهُ مَلَكٌ أوْ صِنْفٌ وبِذَلِكَ تَتِمُّ التِّسْعَةُ عَشَرَ. وخُصَّتْ سِتٌّ مِنها بِأصْنافِ الكُفّارِ وواحِدَةٌ بِأصْنافِ الأُمَّةِ، ولَمْ يُجْعَلْ تَعْذِيبُ الكُفّارِ في خَمْسٍ مِنها فَيَبْقى لِلْمُؤْمِنِينَ اثْنَتانِ إحْداهُما لِأهْلِ الكَبائِرِ والأُخْرى لِأهْلِ الصَّغائِرِ أوْ إحْداهُما لِلْعُصاةِ مِنهم والأُخْرى لِلْعاصِياتِ لِأنَّهُ حَيْثُ أُعِدَّتِ النّارُ لِلْكافِرِينَ أوَّلًا وبِالذّاتِ ناسَبَ أنْ يَسْتَغْرِقُوها كُلِّيَّةً ويُوَزَّعُوا عَلى جَمِيعِ أماكِنِها بِقَدْرِ ما يُمْكِنُ لَكِنْ لَمّا تَعَلَّقَتْ إرادَتُهُ سُبْحانَهُ بِتَعْذِيبِ عُصاةِ الأُمَّةِ بِها أفْرَزَتْ واحِدَةً مِنها لَهم.
وقِيلَ: إنَّ السّاعاتِ أرْبَعٌ وعِشْرُونَ خَمْسَةٌ مِنها مَصْرُوفَةٌ لِلصَّلاةِ فَلَمْ يَخْلُقْ في مُقابَلَتِها زَبانِيَةٌ لِبَرَكَةِ الصَّلاةِ الشّامِلَةِ لِمَن لَمْ يُصَلِّ فَيَبْقى تِسْعَ عَشَرَةَ، وقِيلَ إنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعَ دَرَكاتٍ سِتٌّ مِنها لِأصْنافِ الكُفّارِ ولِلِاعْتِناءِ بِأمْرِ عَذابِهِمْ واسْتِمْرارِهِ ناسَبَ أنْ يَقُومَ عَلَيْهِ ثَلاثَةٌ واحِدٌ في الوَسَطِ واثْنانِ في الطَّرَفَيْنِ فَهَذِهِ ثَمانِيَةَ عَشَرَ وواحِدَةٌ مِنها لِعُصاةِ المُؤْمِنِينَ ناسَبَ أمْرَ عَذابِهِمْ أنْ يَقُومَ عَلَيْهِ واحِدٌ وبِهِ تَتِمُّ التِّسْعَةُ عَشَرَ وقِيلَ إنَّ العَدَدَ عَلى وجْهَيْنِ قَلِيلٌ وهو مِنَ الواحِدِ إلى التِّسْعَةِ وكَثِيرٌ وهو مِنَ العَشْرَةِ ( إلّا ) ما لا نِهايَةَ لَهُ فَجَمَعَ بَيْنَ نِهايَةِ القَلِيلِ وبِدايَةِ الكَثِيرِ وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ واَلَّذِي مالَ إلَيْهِ أكْثَرُ العُلَماءِ أنَّ ذَلِكَ مِمّا لا يَعْلَمُ حِكْمَتَهُ عَلى التَّحْقِيقِ ( إلّا ) اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وهو كالمُتَشابِهِ يُؤْمَنُ بِهِ ويُفَوَّضُ عِلْمُهُ إلى اللَّهِ تَعالى وكُلُّ ما ذَكَرَ مِمّا لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن وجَّهَ أدْنى نَظَرِهِ إلَيْهِ واَللَّهُ تَعالى الهادِي لِصَوْبِ الصَّوابِ والمُتَفَضِّلُ عَلى مَن شاءَ يَعْلَمُ لا شَكَّ مَعَهُ ولا ارْتِيابَ.
وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ بِإسْكانِ العَيْنِ وهو لُغَةٌ فِيهِ كَراهَةَ تَوالِي الحَرَكاتِ فِيما هو كاسْمٍ واحِدٍ. وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ وابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ قُطْبِ وإبْراهِيمُ بْنُ قَتَّةَ «تُسْعَةَ» بِضَمِّ التّاءِ وهي حَرَكَةُ بِناءٍ عَدَلَ إلَيْها عَنِ الفَتْحِ لِتَوالِي خَمْسِ فَتَحاتٍ ولا يُتَوَهَّمَ أنَّها حَرَكَةُ إعْرابٍ وإلّا أعْرَبَ عَشَرَ.
وقَرَأ أنَسٌ أيْضًا «تُسْعَةَ» بِالضَّمِّ «أعْشَرَ» بِالفَتْحِ قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ فَيَجُوزُ أنَّهُ جَمَعَ العَشْرَةَ عَلى أعْشُرٍ ثُمَّ أجْراهُ مَجْرى تِسْعَةَ عَشَرَ وعَنْهُ أيْضًا «تُسْعَةَ» و«عُشَرَ» بِالضَّمِّ وقَلْبِ الهَمْزَةِ واوًا خالِصَةً تَخْفِيفًا والتّاءُ فِيهِما مَضْمُومَةٌ ضَمَّةَ بِناءٍ لِما سَمِعْتَ آنِفًا. وعَنْ سُلَيْمانَ بْنِ قَتَّةَ وهو أخُو إبْراهِيمَ أنَّهُ قَرَأ «تِسْعَةَ أعْشُرٍ» بِضَمِّ التّاءِ ضَمَّةَ إعْرابِ والإضافَةِ إلى أعُشْرٍ وجَرِّهِ مُنَوَّنًا وهو عَلى ما قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ جَمْعُ عَشْرَةَ وقَدْ صَرَّحَ بِأنَّ المَلائِكَةَ عَلى القِراءَةِ بِهَذا الجَمْعِ مُعْرَبًا أوْ مَبْنِيًّا تِسْعُونَ مَلَكًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَمْعُ عَشِيرٍ مِثْلُ يَمِينٍ وأيْمَنُ.
ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ أيْ تِسْعَةً مِنَ المَلائِكَةِ كُلُّ واحِدٍ مِنهم عَشِيرٌ فَهم مَعَ أشْياعِهِمْ تِسْعُونَ والعَشِيرُ بِمَعْنى العَشْرِ فَدَلَّ عَلى أنَّ النُّقَباءَ تِسْعَةٌ وتُعُقِّبَ بِأنَّ دَلالَتَهُ عَلى هَذا المَعْنى غَيْرُ واضِحَةٍ ولِهَذا قالَ ابْنُ جِنِّي لا وجْهَ لِتِلْكَ القِراءَةِ ( إلّا ) أنْ يَعْنِيَ تِسْعَةَ أعْشُرٍ جَمْعُ العَشِيرِ وهم الأصْدِقاءُ فَلْيُراجَعْ.
( وما هي ) أيْ سَقَرُ كَما يَقْتَضِيهِ كَلامُ مُجاهِدٍ ﴿إلا ذِكْرى لِلْبَشَرِ﴾ إلّا تَذْكِرَةٌ لَهم والعَطْفُ قِيلَ عَلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ﴾ إلى هُنا اعْتِراضٌ ووَجْهُهُ أنَّهُ لَمّا قِيلَ ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ زِيادَةً في تَهْوِيلِ أمْرِ جَهَنَّمَ عَقَّبَ بِما يُؤَكِّدُ قُوَّتَهم وتَسَلُّطَهم وتَبايُنَهم بِالشِّدَّةِ عَنْ سائِرِ المَخْلُوقاتِ ﴿ثُمَّ﴾ بِما يُؤَكِّدُ الكَمِّيَّةَ وما أكَّدَ المُؤَكَّدَ فَهو مُؤَكَّدٌ أيْضًا. وقِيلَ (p-130)الضَّمِيرُ لِلْآياتِ النّاطِقَةِ بِأحْوالِ سَقَرَ، وقِيلَ لِعِدَّةِ خَزَنَتِها والتَّذْكِيرِ والعِظَةِ فِيها مِن جِهَةِ أنَّ في خَلْقِهِ تَعالى ما هو في غايَةِ العَظَمَةِ حَتّى يَكُونَ لِقَلِيلٍ مِنهم مُعَذَّبًا ومُهْلَكًا لِما لا يُحْصى دَلالَةً عَلى أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ لا يُقَدَّرُ حَقَّ قَدْرِهِ ولا تُوصَفُ عَظَمَتُهُ ولا تَصِلُ الأفْكارُ إلى حَرَمِ جَلالِهِ.
وقِيلَ الضَّمِيرُ لِلْجُنُودِ وقِيلَ لِنارِ الدُّنْيا وهَذا أضْعَفُ الأقْوالِ وأقْواها عَلى ما قِيلَ ما تَقَدَّمَ. وبَيْنَ «البَشَرِ» هاهُنا و«البَشَرِ» فِيما سَبَقَ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى ﴿لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ عَلى تَفْسِيرِ الجُمْهُورِ تَجْنِيسٌ تامٌّ لَفْظِيٌّ وخَطِّيٌّ وقَلَّ مَن تَذَكَّرَ لَهُ.
{"ayahs_start":30,"ayahs":["عَلَیۡهَا تِسۡعَةَ عَشَرَ","وَمَا جَعَلۡنَاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰۤىِٕكَةࣰۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیَسۡتَیۡقِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَیَزۡدَادَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِیمَـٰنࣰا وَلَا یَرۡتَابَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِیَقُولَ ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ مَاذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلࣰاۚ كَذَ ٰلِكَ یُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَمَا یَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِیَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ"],"ayah":"وَمَا جَعَلۡنَاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰۤىِٕكَةࣰۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیَسۡتَیۡقِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَیَزۡدَادَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِیمَـٰنࣰا وَلَا یَرۡتَابَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِیَقُولَ ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ مَاذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلࣰاۚ كَذَ ٰلِكَ یُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَمَا یَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِیَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











