الباحث القرآني

﴿وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ أيْ لا تَتْرُكُوا عِبادَتَها عَلى الإطْلاقِ إلى عِبادَةِ رَبِّ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿ولا تَذَرُنَّ ودًّا ولا سُواعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا﴾ أيْ ولا تَتْرُكُوا عِبادَةَ هَؤُلاءِ خَصُّوها بِالذِّكْرِ مَعَ انْدِراجِها فِيما سَبَقَ لِأنَّها كانَتْ أكْبَرَ أصْنامِهِمْ ومَعْبُوداتِهِمُ الباطِلَةِ وأعْظَمَها عِنْدَهم وإنْ كانَتْ مُتَفاوِتَةً في العِظَمِ فِيما بَيْنَها بِزَعْمِهِمْ كَما يُومِئُ إلَيْهِ إعادَةُ لا مَعَ بَعْضٍ وتَرْكُها مَعَ آخَرَ، وقِيلَ أفْرَدَ يَعُوقَ ونَسَرَ عَنِ النَّفْيِ لِكَثْرَةِ تَكْرارِ لا وعَدَمِ اللَّبْسِ. وقَدِ انْتَقَلَتْ هَذِهِ الأصْنامُ إلى العَرَبِ. أخْرَجَ البُخارِيُّ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: صارَتِ الأوْثانُ الَّتِي كانَتْ في قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ في العَرَبِ بَعْدُ أمّا ودٌّ فَكانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الجَنْدَلِ، وأمّا سُواعٌ فَكانَتْ لِهُذَيْلٍ، وأمّا يَغُوثُ فَكانَتْ لِمُرادٍ ثُمَّ لَبَنِي غُطَيْفٍ عِنْدَ سَبَأٍ، وأمّا يَعُوقُ فَكانَتْ لِهَمْدانَ، وأمّا نَسْرٌ فَكانَتْ لِحَمِيرَ لِآلِ ذِي الكُلاعِ، وكانَتْ هَذِهِ الأسْماءُ أسْماءَ رِجالٍ صالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ فَلَمّا هَلَكُوا أوْحى الشَّيْطانُ إلَيْهِمْ أنِ انْصِبُوا في مَجالِسِهِمُ الَّتِي كانُوا يَجْلِسُونَ فِيها أنْصابًا وسَمُّوها بِأسْمائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتّى إذا هَلَكَ أُولَئِكَ ودَرَسَ العِلْمُ عُبِدَتْ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ أنَّهُ قالَ: كانَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ خَمْسَةُ بَنِينَ ودٌّ وسُواعُ إلَخِ فَكانُوا عِبادًا فَماتَ رَجُلٌ مِنهم فَحَزِنُوا عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا فَجاءَهُمُ الشَّيْطانُ فَقالَ: حَزِنْتُمْ عَلى صاحِبِكم هَذا؟ قالُوا: نَعَمْ، قالَ: هَلْ لَكم أنْ أُصَوِّرَ لَكم مِثْلَهُ في قِبْلَتِكم إذا نَظَرْتُمْ إلَيْهِ ذَكَرْتُمُوهُ؟ قالُوا: نَكْرَهُ أنْ تَجْعَلَ لَنا في قِبْلَتِنا شَيْئًا نُصَلِّي عَلَيْهِ قالَ: فَأجْعَلُهُ في مُؤَخَّرِ المَسْجِدِ، قالُوا: نَعَمْ فَصَوَّرَهُ لَهم حَتّى ماتَ خَمْسَتُهم فَصَوَّرَ صُوَرَهم في مُؤَخَّرِ المَسْجِدِ فَنَقَصَتِ الأشْياءُ حَتّى تَرَكُوا عِبادَةَ اللَّهِ تَعالى وعَبَدُوا هَؤُلاءِ فَبَعَثَ اللَّهُ تَعالى نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ فَدَعاهم إلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وحْدَهُ وتَرْكِ عِبادَتِها فَقالُوا ما قالُوا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أنَّ ودًّا كانَ أكْبَرَهم وأبَرَّهم وكانُوا كُلُّهم أبْناءَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. ورُوِيَ أنَّ ودًّا أوَّلُ مَعْبُودٍ مِن دُونِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى. أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أبِي مُطَهِّرٍ قالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ أبِي جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَزِيدَ بْنَ المُهَلَّبِ فَقالَ: أما إنَّهُ قُتِلَ في أوَّلِ أرْضٍ عُبِدَ فِيها غَيْرُ اللَّهِ تَعالى ثُمَّ ذَكَرَ ودًّا وقالَ: كانَ رَجُلًا مُسْلِمًا وكانَ مُحَبَّبًا في قَوْمِهِ، فَلَمّا ماتَ عَسْكَرُوا حَوْلَ قَبْرِهِ في أرْضِ بابِلَ وجَزِعُوا عَلَيْهِ فَلَمّا رَأى إبْلِيسُ جَزَعَهم تَشَبَّهَ في صُورَةِ إنْسانٍ ثُمَّ قالَ: أرى جَزَعَكم عَلى هَذا فَهَلْ لَكم أنْ أُصَوِّرَ لَكم مِثْلَهُ فَيَكُونُ في نادِيكم فَتَذْكُرُونَهُ بِهِ؟ قالُوا: نَعَمْ، فَصَوَّرَ لَهم مِثْلَهُ فَوَضَعُوهُ في نادِيهِمْ فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ فَلَمّا رَأى ما بِهِمْ مِن ذِكْرِهِ قالَ: هَلْ لَكم أنْ أجْعَلَ لَكم في مَنزِلِ كُلِّ رَجُلٍ مِنكم تِمْثالًا مِثْلَهُ فَيَكُونُ في بَيْتِهِ فَيُذْكَرُ بِهِ؟ فَقالُوا: نَعَمْ، فَفَعَلَ فَأقْبَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ وأدْرَكَ أبْناؤُهم فَجَعَلُوا يَرَوْنَ ما يَصْنَعُونَ بِهِ وتَناسَلُوا ودَرَسَ أمْرُ ذِكْرِهم إيّاهُ حَتّى اتَّخَذُوهُ إلَهًا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى فَكانَ أوَّلَ مَن عُبِدَ غَيْرَ اللَّهِ تَعالى في الأرْضِ ودًّا. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ عَنْ أبِي عُثْمانَ النَّهْدِيُّ أنَّهُ قالَ: رَأيْتُ يَغُوثَ وكانَ مِن رَصاصٍ يَحْمِلُ عَلى جَمَلٍ أجْرَدَ ويَسِيرُونَ مَعَهُ لا يُهَيِّجُونَهُ حَتّى يَكُونَ هو الَّذِي يَبِرُكُ فَإذا نَزَلُوا وقالُوا قَدْ رَضِيَ لَكُمُ المَنزِلَ فَيَنْزِلُونَ حَوْلَهُ ويَضْرِبُونَ عَلَيْهِ بِناءً. وقِيلَ يَبْعُدُ بَقاءُ أعْيانِ تِلْكَ الأصْنامِ وانْتِقالُها إلى العَرَبِ فالظّاهِرُ أنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلّا الأسْماءُ فاتَّخَذَتِ العَرَبُ أصْنامًا وسَمَّوْها بِها وقالُوا أيْضًا عَبْدُ ودٍّ وعَبْدُ يَغُوثَ يَعْنُونَ أصْنامَهم. وما رَآهُ أبُو عُثْمانَ مِنها مُسَمّى بِاسْمِ ما سَلَفَ. ويُحْكى أنَّ (p-78)ودًّا كانَ عَلى صُورَةِ رَجُلٍ وسُواعًا كانَ عَلى صُورَةِ امْرَأةٍ ويَغُوثَ كانَ عَلى صُورَةِ أسَدٍ ويَعُوقَ كانَ عَلى صُورَةِ فَرَسٍ ونَسْرًا كانَ عَلى صُورَةِ نَسْرٍ وهو مُنافٍ لِما تَقَدَّمَ أنَّهم كانُوا عَلى صُوَرِ أُناسٍ صالِحِينَ وهو الأصَحُّ. وقَرَأ نافِعٌ وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ بِخِلافٍ عَنْهم «( وُدًّا)» بِضَمِّ الواوِ وقَرَأ الأشْهَبُ العَقِيلِيُّ «ولا يَغُوثا ويَعُوقًا» بِتَنْوِينِهِما قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ جَعَلَهُما فَعُولًا فَلِذَلِكَ صَرَفَهُما وهُما في قِراءَةِ الجُمْهُورِ صِفَتانِ مِنَ الغَوْثِ والعَوْقِ يَفْعَلُ مِنهُما وهُما مَعْرِفَتانِ فَلِذَلِكَ مُنِعا الصَّرْفِ لِاجْتِماعِ الثِّقْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُما التَّعْرِيفُ ومُشابَهَةُ الفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانٍ فَقالَ هَذا تَخْبِيطٌ أمّا أوَّلًا فَلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونا فَعَوْلًا لِأنَّ مادَّةَ يُغِثْ مَفْقُودَةٌ وكَذَلِكَ يَعُقْ وأمّا ثانِيًا فَلَيْسا بِصِفَتَيْنِ لِأنَّ يَفْعُلا لَمْ يَجْئِ اسْمًا ولا صِفَةً وإنَّما امْتَنَعا مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ ووَزْنِ الفِعْلِ إنْ كانا عَرَبِيَّيْنِ ولِلْعِلْمِيَّةِ والعُجْمَةِ إنْ كانا عَجَمِيَّيْنِ. . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأ الأعْمَشُ «ولا يَغُوثا ويَعُوقًا» بِالصَّرْفِ وهو وهْمٌ لِأنَّ التَّعْرِيفَ لازِمٌ وكَذا وزْنُ الفِعْلِ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الأعْمَشَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ ولَيْسَ بِوَهْمٍ فَقَدْ خَرَّجُوهُ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ أحَدُهُما أنَّ الصَّرْفَ لِلتَّناسُبِ كَما قالُوا في سَلاسِلًا وأغْلالًا وهو نَوْعٌ مِنَ المُشاكَلَةِ ومَعْدُودٌ مِنَ المُحْسِّناتِ وثانِيهُما أنَّهُ جاءَ عَلى لُغَةِ مَن يَصْرِفُ جَمِيعَ ما لا يَنْصَرِفُ عِنْدَ عامَّةِ العَرَبِ وذَلِكَ لُغَةٌ حَكاها الكِسائِيُّ وغَيْرُهُ لَكِنْ يُرَدُّ عَلى هَذا أنَّها لُغَةٌ غَيْرُ فَصِيحَةٍ لا يَنْبَغِي التَّخْرِيجُ عَلَيْها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب