الباحث القرآني

﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ أيْ مِنَ الجِهاتِ الأرْبَعِ الَّتِي يُعْتادُ هُجُومُ العَدُوِّ مِنها والمُرادُ لَأُسَوِّلَنَّ لَهم ولَأُضِلَّنَّهم بِقَدْرِ الإمْكانِ إلّا أنَّهُ شَبَّهَ حالَ تَسْوِيلِهِ ووَسْوَسَتِهِ لَهم كَذَلِكَ بِحالٍ إتْيانِ العَدُوِّ لِمَن يُعادِيهِ مِن أيِّ جِهَةٍ أمْكَنَتْهُ ولِذا لَمْ يُذْكَرِ الفَوْقُ والتَّحْتُ إذْ لا إتْيانَ مِنهُما فالكَلامُ مِن بابِ الِاسْتِعارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ و﴿لأقْعُدَنَّ لَهُمْ﴾ عَلى ما قِيلَ تَرْشِيحٌ لَها وبَعْضُهم لَمْ يُخْرِجِ الكَلامَ عَلى التَّمْثِيلِ واعْتَذَرَ عَنْ تَرْكِ جِهَةِ الفَوْقِ بِأنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنها وعَنْ تَرْكِ جِهَةِ التَّحْتِ بِأنَّ الإتْيانَ مِنها يُوحِشُ والِاعْتِذارُ عَنِ الأوَّلِ بِما ذُكِرَ أخْرَجَهُ غَيْرُ واحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ورُوِيَ أيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ والشَّعْبِيِّ والِاعْتِذارُ عَنِ الثّانِي نَسَبَهُ الطَّبَرْسِيُّ إلى الحَبْرِ أيْضًا ولا يَبْعُدُ عَلى ذَلِكَ أنْ يَكُونَ الكَلامُ تَمْثِيلًا أيْضًا ويَكُونُ الفَرْقُ بَيْنَ التَّوْجِيهَيْنِ بِأنَّ تَرْكَ هاتَيْنِ الجِهَتَيْنِ عَلى الأوَّلِ لِعَدَمِهِما في المُمَثَّلِ بِهِ وعَلى الثّانِي لِعَدَمِهِما في المُمَثَّلِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ مِن قِبَلِ الآخِرَةِ لِأنَّها مُسْتَقْبَلَةٌ آتِيَةٌ وما هو كَذَلِكَ كَأنَّهُ بَيْنَ الأيْدِي ﴿ومِن خَلْفِهِمْ﴾ مِن قِبَلِ الدُّنْيا لِأنَّها ماضِيَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الآخِرَةِ ولِأنَّها فانِيَةٌ مَتْرُوكَةٌ مُخَلَّفَةٌ ﴿وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ مِن جِهَةِ حَسَناتِهِمْ وسَيِّئاتِهِمْ وتَفْسِيرُ الأيْمانِ بِالحَسَناتِ والشَّمائِلِ بِالسَّيِّئاتِ لِأنَّهم يَجْعَلُونَ المَحْبُوبَ في جِهَةِ اليَمِينِ وغَيْرَهُ في جِهَةِ الشَّمالِ كَما قالَ: بُثَيْنُ أفِي يُمْنى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي فَأفْرَحَ أمْ صَيَّرْتِنِي في شَمائِلِكِ وقالَ الأصْمَعِيُّ: يُقالُ هو عِنْدَنا بِاليَمِينِ أيْ بِمَنزِلَةٍ حَسَنَةٍ وبِالشَّمالِ عَلى عَكْسِ ذَلِكَ والكَلامُ عَلى هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ فِيهِ مَجازاتٌ أوِ اسْتِعاراتٌ أوْ كِناياتٌ ونَظِيرُ هَذا ما قِيلَ: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ مِن حَيْثُ يَعْلَمُونَ ويَقْدِرُونَ عَلى التَّحَرُّزِ عَنْهُ ﴿ومِن خَلْفِهِمْ﴾ مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ﴿وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ مِن حَيْثُ يَتَيَسَّرُ لَهم أنْ يَعْلَمُوا ويَتَحَرَّزُوا ولَكِنْ لَمْ يَفْعَلُوا لِعَدَمِ تَيَقُّظِهِمْ واحْتِياطِهِمْ ومِن حَيْثُ لا يَتَيَسَّرُ لَهم ذَلِكَ وقالَ بَعْضُ حُكَماءِ الإسْلامِ: إنَّ في البَدَنِ قُوًى أرْبَعًا القُوَّةُ الخالِيَةُ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيها مِثْلُ المَحْسُوساتِ ومَوْضِعُها البَطْنُ المُقَدَّمُ مِنَ الدِّماغِ وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ والقُوَّةُ الوَهْمِيَّةِ الَّتِي تَحْكُمُ في غَيْرِ المَحْسُوساتِ بِالأحْكامِ المُناسِبَةِ لِلْمَحْسُوساتِ ومَحَلُّها البَطْنُ المُؤَخَّرُ مِنَ الدِّماغِ وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومِن خَلْفِهِمْ﴾ والقُوَّةُ الشَّهْوانِيَّةُ ومَحَلُّها الكَبِدُ وهو عَنْ يَمِينِ الإنْسانِ وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَنْ أيْمانِهِمْ﴾ والقُوَّةُ الغَضَبِيَّةُ ومَحَلُّها القَلْبُ الَّذِي هو في الشَّقِّ الأيْسَرِ وإلَيْها الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ والشَّيْطانُ ما لَمْ يَسْتَعِنْ بِشَيْءٍ مِن هَذِهِ القُوى لا يَقْدِرُ عَلى إلْقاءِ الوَسْوَسَةِ وهَذا عِنْدِي نَوْعٌ مِنَ الإشارَةِ كَما لا يَخْفى وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ وإنَّما عُدِّيَ الفِعْلُ إلى (p-96)الأوَّلَيْنِ بِحَرْفِ الِابْتِداءِ لِأنَّهُ مِنهُما مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِمْ وإلى الآخَرَيْنِ بِحَرْفِ المُجاوَزَةِ فَإنَّ الآتِي مِنهُما كالمُنْحَرِفِ عَنْهُمُ المارِّ عَلى عَرَضِهِمْ ونَظِيرُهُ قَوْلُهم: جَلَسْتُ عَنْ يَمِينِهِ وذَكَرَ القُطْبُ في بَيانِ وجْهِ ذَلِكَ ما بَناهُ عَلى ما قالَهُ بَعْضُ حُكَماءِ الإسْلامِ وهو أنَّ مِن لِلِاتِّصالِ وعَنْ لِلِانْفِصالِ وأثَرُ الشَّيْطانِ في قُوَّتَيِ الدِّماغِ حُصُولُ العَقائِدِ الباطِلَةِ كالشِّرْكِ والتَّشْبِيهِ والتَّعْطِيلِ وهي مُرْتَسِمَةٌ في النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ مُتَّصِلَةٌ بِها وفي الشَّهْوَةِ والغَضَبِ حُصُولُ الأعْمالِ السَّيِّئَةِ الشَّهْوانِيَّةِ والغَضَبِيَّةِ وهي تَنْفَصِلُ عَنِ النَّفْسِ وتَنْعَدِمُ فَلِهَذا أوْرَدَ في الجِهَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ ( مِنَ ) الِاتِّصالِيَّةِ وفي الأُخْرَيَيْنِ ( عَنِ ) الِانْفِصالِيَّةِ وقِيلَ: خَصَّ اليَمِينَ والشَّمالَ بِعْنَ لِأنَّ ثَمَّةَ مَلَكَيْنِ يَقْتَضِيانِ التَّجاوُزَ عَنْ ذَلِكَ وفِيهِ نَظَرٌ لا يَخْفى وادَّعى بَعْضُهم أنَّ الآيَةَ كالدَّلِيلِ عَلى أنَّ اللَّعِينَ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَدْخُلَ في بَدَنِ ابْنِ آدَمَ ويُخالِطَهُ إذْ لَوْ أمْكَنَهُ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ في بابِ المُبالَغَةِ وحَدِيثُ إنَّ الشَّيْطانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرى الدَّمِ مِن بابِ التَّمْثِيلِ اقْتَضى عَدَمَ الذِّكْرِ فَتَدَبَّرْ ﴿ولا تَجِدُ أكْثَرَهم شاكِرِينَ﴾ (17) أيْ مُطِيعِينَ وإنَّما قالَ ذَلِكَ ظَنًّا كَما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وأبِي مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ لَمّا رَأى أنَّ لِلنَّفْسِ تِسْعَ عَشْرَةَ قُوَّةً لِلْحَواسِّ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ والشَّهْوَةِ والغَضَبِ والقُوى السَّبْعِ النَّباتِيَّةِ الجاذِبَةِ والماسِكَةِ والهاضِمَةِ والدّافِعَةِ والغاذِيَةِ والنّامِيَةِ والمُوَلِّدَةِ وإنَّها بِأسْرِها تَدْعُو النَّفْسَ إلى عالَمِ الجِسْمِ وأنْ لَيْسَ هُناكَ ما يَدْعُو إلى عالَمِ الأرْواحِ إلّا قُوَّةٌ واحِدَةٌ وهي العُقَلُ وما يَصْنَعُ واحِدٌ مَعَ مُتَعَدِّدٍ. ؎أرى ألْفَ بانٍ لا يَقُومُ بِهادِمٍ فَكَيْفَ بِبانٍ خَلْفَهُ ألْفُ هادِمِ وعَنِ الجُبّائِيِّ أنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ المَلائِكَةِ فَقالَهُ عَلى سَبِيلِ القَطْعِ وقِيلَ: إنَّهُ رَآهُ قَبْلَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ. ووَجَدَ إمّا بِمَعْنى صادَفَ فَيَنْصِبُ مَفْعُولًا واحِدًا وهو ﴿أكْثَرَهُمْ﴾ وشاكِرِينَ حالٌ وإمّا بِمَعْنى عَلِمَ فَيَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ ثانِيهِما ﴿شاكِرِينَ﴾ والجُمْلَةُ إمّا مَعْطُوفَةٌ عَلى المُقْسَمِ عَلَيْهِ وإمّا مُسْتَأْنَفَةٌ وإنَّما لَمْ يُفَرِّعْها عَلى ما تَقَدَّمَ لِأنَّ مَضْمُونَها بِمُقْتَضى الجِبِلَّةِ أيْضًا لا بِمُجَرَّدِ إغْوائِهِ ووَجْهُ التَّعْبِيرِ بِالأكْثَرِ ظاهِرٌ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب