﴿وإذْ تَأذَّنَ رَبُّكَ﴾ مَنصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿واسْألْهُمْ﴾ وتَأذَّنَ تَفَعَّلَ مِنَ الإذْنِ وهو بِمَعْنى آذَنَ أيْ: أعْلَمَ، والتَّفَعُّلُ يَجِيءُ بِمَعْنى الإفْعالِ كالتَّوَعُّدِ والإيعادِ، وإلى هَذا يُؤَوَّلُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن أنَّ المَعْنى: قالَ رَبُّكَ، وفَسَّرَهُ بَعْضُهم بِعَزْمٍ وهو كِنايَةٌ عَنْهُ أوْ مُجازٌ لِأنَّ العازِمَ عَلى الأمْرِ يُشاوِرُ نَفْسَهُ في الفِعْلِ والتَّرْكِ ثُمَّ يَجْزِمُ، فَهو يَطْلُبُ مِنَ النَّفْسِ الإذْنَ فِيهِ، وفي الكَشْفِ: لَوْ جُعِلَ بِمَعْنى الِاسْتِئْذانِ دُونَ الإيذانِ كَأنَّهُ يَطْلُبُ الإذْنَ مِن نَفْسِهِ لَكانَ وجْهًا، وحَيْثُ جُعِلَ بِمَعْنى عَزْمٍ وكانَ العازِمُ جازِمًا فُسِّرَ عَزَمَ بِجَزَمَ وقَضى فَأفادَ التَّأْكِيدَ، فَلِذا أُجْرِيَ مَجْرى القَسَمِ، وأُجِيبَ بِما يُجابُ بِهِ وهو هُنا: ﴿لَيَبْعَثَنَّ﴾ وجاءَ عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ، ولا يَرِدُ عَلى هَذا أنَّهُ مُقْتَضًى لِجَوازِ نِسْبَةِ العَزْمِ إلَيْهِ تَعالى، وقَدْ صُرِّحَ بِمَنعِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ المَنعَ مَدْفُوعٌ، فَقَدْ ورَدَ: عَزْمَةً مِن عَزَماتِ اللَّهِ تَعالى.
﴿عَلَيْهِمْ﴾ أيِ: اليَهُودِ لا المُعْتَدِينَ الَّذِينَ مُسِخُوا قِرَدَةً؛ إذْ لَمْ يَبْقَوْا كَما عَلِمْتَ، ويُحْتَمِلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِمْ بِناءً عَلى ما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ. والمُرادُ حِينَئِذٍ هم وأخْلافُهُمْ، وعَوْدُهُ إلى اليَهُودِ والنَّصارى لَيْسَ بِشَيْءٍ وإنْ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ، والجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِ يَبْعَثَنَّ عَلى مَعْنى يُسَلِّطُ عَلَيْهِمُ البَتَّةَ.
﴿إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ أيْ: إلى انْتِهاءِ الدُّنْيا، وهو مُتَعَلِّقٌ بِ يَبْعَثُ، وقِيلَ: بِتَأذُّنٍ ولَيْسَ (p-95)بِالوَجْهِ ولا يَصِحُّ كَما لا يَخْفى تَعَلُّقُهُ بِالصِّلَةِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿مَن يَسُومُهُمْ﴾ يُذِيقُهم ويُوِلِيهِمْ ﴿سُوءَ العَذابِ﴾ كالإذْلالِ. وضَرْبِ الجِزْيَةِ، وعَدَمِ وُجُودِ مَنَعَةٍ لَهُمْ، وجَعْلِهِمْ تَحْتَ الأيْدِي وغَيْرِ ذَلِكَ مِن فُنُونِ العَذابِ، وقَدْ بَعَثَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بَعْدَ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بُخْتَنَصَّرَ فَخَرَّبَ دِيارَهُمْ، وقَتَلَ مُقاتِلَتَهم وسَبى نِساءَهم وذَرارِيَهِمْ، وضَرَبَ الجِزْيَةَ عَلى مَن بَقِيَ مِنهُمْ، وكانُوا يُؤَدُّونَها إلى المَجُوسِ حَتّى بُعِثَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَفَعَلَ ما فَعَلَ، ثُمَّ ضَرَبَ الجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، فَلا تَزالُ مَضْرُوبَةً إلى آخِرِ الدَّهْرِ.
ولا يُنافِي ذَلِكَ رَفْعَها عِنْدَ نُزُولِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الوَقْتَ مُلْحَقٌ بِالآخِرَةِ لِقُرْبِهِ مِنها، أوْ لِأنَّ مَعْنى رَفْعِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إيّاها عَنْهم أنَّهُ لا يَقْبَلُ مِنهم إلّا الإسْلامَ ويُخَيِّرُهم بَيْنَهُ وبَيْنَ السَّيْفِ، فالقَوْمُ حِينَئِذٍ إمّا مُسْلِمُونَ أوْ طُعْمَةٌ لِسُيُوفِهِمْ؛ فَلا إشْكالَ، وما يَحْصُلُ لَهم زَمَنَ الدَّجّالِ مَعَ كَوْنِهِ ذُلًّا في نَفْسِهِ غَمامَةُ صَيْفٍ عَلى أنَّهم لَيْسُوا يَهُودَ حِينَ التَّبَعِيَّةِ.
﴿إنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقابِ﴾ لِما شاءَ سُبْحانَهُ أنْ يُعاقِبَهُ في الدُّنْيا ومِنهم هَؤُلاءِ، وقِيلَ: في الآخِرَةِ، وقِيلَ فِيهِما.
﴿وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لِمَن تابَ وآمَنَ.
{"ayah":"وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَیَبۡعَثَنَّ عَلَیۡهِمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَن یَسُومُهُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}