الباحث القرآني

﴿ولَمّا رَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ﴾ مِمّا حَدَثَ مِنهم. ﴿أسِفًا﴾ أيْ: شَدِيدَ الغَضَبِ كَما قالَ أبُو الدَّرْداءِ ومُحَمَّدٌ القُرَظِيُّ وعَطاءٌ والزَّجّاجُ، أوْ حَزِينًا عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: الغَضَبُ والأسَفُ بِمَعْنًى، والتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ. (p-66)وقالَ الواحِدِيُّ: هُما مُتَقارِبانِ، فَإذا جاءَكَ ما تَكْرَهُ مِمَّنْ هو دُونَكَ غَضِبْتَ، وإذا جاءَكَ مِمَّنْ فَوْقَكَ حَزِنْتَ، فَعَلى هَذا كانَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ غَضْبانَ عَلى قَوْمِهِ بِاتِّخاذِهِمُ العِجْلَ، حَزِينًا لِأنَّ اللَّهَ تَعالى فَتَنَهُمْ، وقَدْ أخْبَرَهُ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ رُجُوعِهِ، ونَصَبَ الوَصْفَيْنِ عَلى أنَّهُما حالانِ مُتَرادِفانِ أوْ مُتَداخِلانِ بِأنْ يَكُونَ الثّانِي حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في الأوَّلِ، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الحالِ الأُولى وهو بَدَلُ كُلٍّ لا بَعْضٍ كَما تُوُهِّمَ. ﴿قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي﴾ خِطابٌ إمّا لِعَبَدَةِ العِجْلِ، وإمّا لِهارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ؛ أيْ: بِئْسَما فَعَلْتُمْ بَعْدَ غَيْبَتِي حَيْثُ عَبَدْتُمُ العِجْلَ بَعْدَ ما رَأيْتُمْ مِنِّي مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى ونَفْيِ الشُّرَكاءِ عَنْهُ سُبْحانَهُ وإخْلاصِ العِبادَةِ لَهُ جَلَّ جَلالُهُ، أوْ: بِئْسَما قُمْتُمْ مَقامِي حَيْثُ لَمْ تُراعُوا عَهْدِي ولَمْ تَكُفُّوا العَبَدَةَ عَمّا فَعَلُوا بَعْدَ ما رَأيْتُمْ مِنِّي مِن حَمْلِهِمْ عَلى التَّوْحِيدِ وكَفِّهِمْ عَمّا طَمَحَتْ نَحْوَهُ أبْصارُهم مِن عِبادَةِ البَقَرِ حِينَ قالُوا: ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ﴾ . وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ عَلى الخِطابِ لِلْفَرِيقَيْنِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالخِلافَةِ الخِلافَةُ فِيما يَعُمُّ الأمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ أُشِيرَ إلَيْهِما، ولا تَكْرارَ في ذِكْرِ ﴿مِن بَعْدِي﴾ بَعْدَ ﴿خَلَفْتُمُونِي﴾؛ لِأنَّ المُرادَ مِن بَعْدِ وِلايَتِي وقِيامِي بِما كُنْتُ أقُومُ؛ إذْ بَعْدِيَّتُهُ عَلى الحَقِيقَةِ إنَّما تَكُونُ عَلى ما قِيلَ بَعْدَ فِراقِهِ الدُّنْيا، وقِيلَ: إنَّ (مِن بَعْدِي) تَأْكِيدٌ مِن بابِ رَأيْتُهُ بِعَيْنِي، وفائِدَتُهُ تَصْوِيرُ نِيابَةِ المُسْتَخْلَفِ ومُزاوَلَةِ سِيرَتِهِ كَما أنَّ هُنالِكَ تَصْوِيرَ الرُّؤْيَةِ وما يَتَّصِلُ بِهِ، و(ما) نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفاعِلِ بِئْسَ المُسْتَكِنِّ فِيهِ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: بِئْسَ خِلافَةً خَلَفْتُمُونِيها مِن بَعْدِي خِلافَتُكُمْ، والذَّمُّ فِيما إذا كانَ الخِطابُ لِهارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ لَيْسَ لِلْخِلافَةِ نَفْسِها بَلْ لِعَدَمِ الجَرْيِ عَلى مُقْتَضاها، وأمّا إذا كانَ لِلسّامِرِيِّ وأشْياعِهِ فالأمْرُ ظاهِرٌ. ﴿أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبِّكُمْ﴾ أيْ: أعَجِلْتُمْ عَمّا أمَرَكم بِهِ رَبُّكم وهو انْتِظارُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ حالَ كَوْنِهِمْ حافِظِينَ لِعَهْدِهِ وما وصّاهم بِهِ فَبَنَيْتُمُ الأمْرَ عَلى أنَّ المِيعادَ قَدْ بَلَغَ آخِرَهُ ولَمْ أرْجِعْ إلَيْكم فَحَدَّثْتُمْ أنْفُسَكم بِمَوْتِي فَغَيَّرْتُمْ. رُوِيَ أنَّ السّامِرِيَّ قالَ لَهم حِينَ أخْرَجَ لَهُمُ العِجْلَ: وقالَ: هَذا إلَهُكم وإلَهُ مُوسى إنَّ مُوسى لَنْ يَرْجِعَ، وإنَّهُ قَدْ ماتَ. ورُوِيَ أنَّهم عَدُّوا عِشْرِينَ يَوْمًا بِلَيالِيها فَجَعَلُوها أرْبَعِينَ، ثُمَّ أحْدَثُوا ما أحْدَثُوا، والمَعْرُوفُ تَعَدِّي (عَجِلَ) بِعَنْ لا بِنَفْسِهِ فَيُقالُ: عَجِلَ عَنِ الأمْرِ إذا تَرَكَهُ غَيْرَ تامٍّ، ونَقِيضُهُ تَمَّ عَلَيْهِ، وأعْجَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وضَمَّنُوهُ هُنا مَعْنى السَّبْقِ وهو كِنايَةٌ عَنِ التَّرْكِ فَتَعَدّى تَعْدِيَتَهُ ولَمْ يُضَمَّنِ ابْتِداءً مَعْنى التَّرْكِ لِخَفاءِ المُناسَبَةِ بَيْنَهُما وعَدَمِ حُسْنِها، وذَهَبَ يَعْقُوبُ إلى أنَّ السَّبْقَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ لَهُ مِن غَيْرِ تَضْمِينٍ، والأمْرُ واحِدُ الأوامِرِ، وعَنِ الحَسَنِ أنَّ المَعْنى: أعَجِلْتُمْ وعْدَ رَبِّكُمُ الَّذِي وعَدَكم مِنَ الأرْبَعِينَ؟ فالأمْرُ عَلَيْهِ واحِدُ الأُمُورِ والمُرادُ بِهَذِهِ الأرْبَعِينَ عَلى ما ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ غَيْرُ الأرْبَعِينَ الَّتِي أشارَ اللَّهُ إلَيْها بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ وسَيَأْتِي تَتِمَّةُ الكَلامِ في ذَلِكَ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ﴿وألْقى الألْواحَ﴾ أيْ: وضَعَها عَلى الأرْضِ كالطّارِحِ لَها لِيَأْخُذَ بِرَأْسِ أخِيهِ مِمّا عَراهُ مِن فَرْطِ الغَيْرَةِ الدِّينِيَّةِ، وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ شَدِيدَ الغَضَبِ لِلَّهِ سُبْحانَهُ، فَقَدْ أخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ إذا غَضِبَ اشْتَعَلَتْ قَلَنْسُوَتُهُ نارًا. وقالَ القاضِي ناصِرُ الدِّينِ: أيْ: طَرَحَها مِن شِدَّةِ الغَضَبِ وفَرْطِ الضَّجْرَةِ حَمِيَّةً لِلدِّينِ، ثُمَّ نُقِلَ أنَّهُ انْكَسَرَ بَعْضُها حِينَ ألْقاها، واعْتَرَضَ عَلَيْهِ أفْضَلُ المُتَأخِّرِينَ شَيْخُ مَشايِخِنا صِبْغَةُ اللَّهِ أفَنْدِي الحَيْدَرِيُّ بِأنَّ الحَمِيَّةَ لِلدِّينِ إنَّما تَقْتَضِي احْتِرامَ كِتابِ اللَّهِ تَعالى وحِمايَتَهُ أنْ يَلْحَقَ بِهِ نَقْصٌ أوْ هَوانٌ بِحَيْثُ (p-67)تَنْكَسِرُ ألْواحُهُ ثُمَّ قالَ: والصَّوابُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِفَرْطِ حَمِيَّتِهِ الدِّينِيَّةِ وشِدَّةِ غَضَبِهِ لِلَّهِ تَعالى لَمْ يَتَمالَكْ ولَمْ يَتَماسَكْ أنْ وقَعَتِ الألْواحُ مِن يَدِهِ بِدُونِ اخْتِيارٍ فَنُزِّلَ تَرْكُ التَّحَفُّظِ مَنزِلَةَ الإلْقاءِ الِاخْتِيارِيِّ، فَعُبِّرَ بِهِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّ حَسَناتِ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ. انْتَهى. وتَعَقَّبَهُ العَلّامَةُ صالِحُ أفَنْدِي المَوْصِلِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بِأنَّهُ لا يَخْفى أنَّ هَذا الإيرادَ إنَّما نَشَأ مِن جَعْلِ قَوْلِ القاضِي حَمِيَّةً لِلدِّينِ مَفْعُولًا لَهُ لِطِراحِها وهو غَيْرُ صَحِيحٍ، فَقَدْ صَرَّحَ في أوائِلِ تَفْسِيرِهِ لِسُورَةِ طه بِأنَّ الفِعْلَ الواحِدَ لا يَتَعَدّى لِعِلَّتَيْنِ وإنَّما هُوَ: مَفْعُولٌ لَهُ لِشِدَّةِ الغَضَبِ وفَرْطِ الضَّجْرَةِ عَلى سَبِيلِ التَّنازُعِ، والتَّوْجِيهُ الَّذِي ذُكِرَ لِلْآيَةِ هو ما أرادَهُ القاضِي، وتَفْسِيرُهُ الإلْقاءَ بِالطَّرْحِ لا يُنافِي ذَلِكَ عَلى ما لا يَخْفى. اه. وأقُولُ: أنْتَ تَعْلَمُ أنَّ كَوْنَ هَذا التَّوْجِيهِ هو ما أرادَهُ القاضِي غَيْرُ بَيِّنٍ ولا مُبِينٍ عَلى أنَّ حَدِيثَ كَوْنِ التَّعْبِيرِ بِالإلْقاءِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ السَّلامُ مُنْحَطٌّ عَنْ دَرَجَةِ القَبُولِ جِدًّا؛ إذْ لَيْسَ في السِّباقِ ولا في السِّياقِ ما يَقْضِي بِكَوْنِ المَقامِ عِتابَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِيُفْتِيَ بِهَذا التَّغْلِيظِ نَظَرًا إلى مَقامِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بَلِ المَقامُ ظاهِرٌ في الحَطِّ عَلى قَوْمِهِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ أدْنى حَظٍّ مِن رَفِيعِ النَّظَرِ، والَّذِي يَراهُ هَذا الفَقِيرُ ما أشَرْنا إلَيْهِ أوَّلًا. وحاصِلُهُ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَأى مِن قَوْمِهِ ما رَأى غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا حَمِيَّةً لِلدِّينِ وغَيْرَةً مِنَ الشِّرْكِ بِرَبِّ العالَمِينَ، فَعَجِلَ في وضْعِ الألْواحِ لِتَفْرُغَ يَدُهُ فَيَأْخُذَ بِرَأْسِ أخِيهِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الوَضْعِ بِالإلْقاءِ تَفْظِيعًا لِفِعْلِ قَوْمِهِ حَيْثُ كانَتْ مُعايَنَتُهُ سَبَبًا لِذَلِكَ وداعِيًا إلَيْهِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإشارَةِ إلى شِدَّةِ غَيْرَتِهِ وفَرْطِ حَمِيَّتِهِ، ولَيْسَ في ذَلِكَ ما يُتَوَهَّمُ مِنهُ نَوْعُ إهانَةٍ لِكِتابِ اللَّهِ تَعالى بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وانْكِسارُ بَعْضِ الألْواحِ حَصَلَ مِن فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ ولَمْ يَكُنْ غَرَضَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولا مَرَّ بِبالِهِ ولا ظَنَّ تَرَتُّبَهُ عَلى ما فَعَلَ، ولَيْسَ هُناكَ إلّا العَجَلَةُ في الوَضْعِ النّاشِئَةُ مِنَ الغَيْرَةِ لِلَّهِ تَعالى، ولَعَلَّ ذَلِكَ مِن بابِ: ﴿وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾ واخْتَلَفَتِ الرِّواياتُ في مِقْدارِ ما تَكَسَّرَ ورُفِعَ، وبَعْضُهم أنْكَرَ ذَلِكَ حَيْثُ إنَّ ظاهِرَ القُرْآنِ خِلافُهُ. نَعَمْ أخْرَجَ أحْمَدُ وغَيْرُهُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والبَزّارُ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ حِبّانَ، والطَّبَرانِيُّ، وغَيْرُهم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««يَرْحَمُ اللَّهُ تَعالى مُوسى، لَيْسَ المُعايِنُ كالمُخْبَرِ، أخْبَرَهُ رَبُّهُ تَبارَكَ وتَعالى أنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا بَعْدَهُ فَلَمْ يُلْقِ الألْواحَ، فَلَمّا رَآهم وعايَنَهم ألْقى الألْواحَ فَتَكَسَّرَ مِنها ما تَكَسَّرَ»». فَتَأمَّلْ ولا تَغْفُلْ، وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ألْقى الألْواحَ رُفِعَ مِنها سِتَّةُ أسْباعٍ وبَقِيَ سُبْعٌ، وكَذا ما رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ نَحْوُهُ مُنافٍ لِما رُوِيَ فِيما تَقَدَّمَ مِن أنَّ التَّوْراةَ نَزَلَتْ سَبْعِينَ وِقْرًا، يُقْرَأُ الجُزْءُ مِنهُ في سَنَةٍ لَمْ يَقْرَأْها إلّا أرْبَعَةُ نَفَرٍ: مُوسى ويُوشَعُ وعُزَيْرٌ وعِيسى عَلَيْهِمُ السَّلامُ. وكَذا لِما يُذْكَرُ بَعْدُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أخَذَ الألْواحَ﴾ فَإنَّ الظّاهِرَ مِنهُ العَهْدُ. والجَوابُ بِأنَّ الرَّفْعَ لِما فِيها مِنَ الخَطِّ دُونَ الألْواحِ خِلافُ الظّاهِرِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ. ﴿وأخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ﴾ أيْ: بِشَعَرِ رَأْسِ هارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّهُ الَّذِي يُؤْخَذُ ويُمْسَكُ عادَةً ولا يُنافِي أخْذَهُ بِلِحْيَتِهِ كَما وقَعَ في سُورَةِ طه، أوْ أُدْخِلَ فِيهِ تَغْلِيبًا. ﴿يَجُرُّهُ إلَيْهِ﴾ ظَنًّا مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قَصَّرَ في كَفِّهِمْ ولَمْ يَتَمالَكْ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ وفَرْطِ غَيْظِهِ أنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وكانَ هارُونُ أكْبَرَ مِن مُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ بِثَلاثِ سِنِينَ، إلّا أنَّ مُوسى أكْبَرُ مِنهُ مَرْتَبَةً ولَهُ الرِّسالَةُ والرِّياسَةُ اسْتِقْلالًا، وكانَ هارُونُ وزِيرًا لَهُ، وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَمُولًا لَيِّنًا جِدًّا، ولَمْ يَقْصِدْ مُوسى بِهَذا الأخْذِ إهانَتَهُ والِاسْتِخْفافَ بِهِ، بَلِ اللَّوْمَ الفِعْلِيَّ عَلى التَّقْصِيرِ المَظْنُونِ بِحُكْمِ الرِّياسَةِ وفَرْطِ الحَمِيَّةِ، والقَوْلُ بِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما أخَذَ رَأْسَ أخِيهِ لِيُسارَّهُ ويَسْتَشْكِفَ مِنهُ كَيْفِيَّةَ الواقِعَةِ مِمّا يَأْباهُ (p-68)الذَّوْقُ كَما لا يَخْفى عَلى ذَوِيِهِ، ومِثْلُهُ القَوْلُ بِأنَّهُ إنَّما كانَ لِتَسْكِينِ هارُونَ لِما رَأى بِهِ مِنَ الجَزَعِ والقَلَقِ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أجْرى أخاهُ مَجْرى نَفْسِهِ فَصَنَعَ بِهِ ما يَصْنَعُ الإنْسانُ بِهِ عِنْدَ شِدَّةِ الغَضَبِ، وقالَ الشَّيْخُ المُفِيدُ مِنَ الشِّيعَةِ: إنَّ ذَلِكَ لِلتَّألُّمِ مِن ضَلالِ قَوْمِهِ وإعْلامِهِمْ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ عِظَمَ ما فَعَلُوهُ لِيَنْزَجِرُوا عَنْ مِثْلِهِ، ولا يَخْفى أنَّ الأمْرَ عَلى هَذا مِن قَبِيلِ: غَيْرِي جَنى وأنا المُعاقَبُ فِيكُمُ فَكَأنَّنِي سَبّابَةُ المُتَنَدِّمِ ولَعَلَّ ما أشَرْنا إلَيْهِ هو الأوْلى، وجُمْلَةُ (يَجُرُّهُ) في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ مُوسى، أوْ مِن (رَأْسِ) أوْ مِن أخِيهِ؛ لِأنَّ المُضافَ جُزْءٌ مِنهُ، وهو أحَدُ ما يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، وضَعَّفَهُ أبُو البَقاءِ ﴿قالَ﴾ أيْ: هارُونُ مُخاطِبًا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إزاحَةً لِظَنِّهِ: ﴿ابْنَ أُمَّ﴾ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّداءِ لِضِيقِ المَقامِ، وتَخْصِيصُ الأُمِّ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهِما شَقِيقَيْنِ عَلى الأصَحِّ لِلتَّرْقِيقِ، وقِيلَ: لِأنَّها قامَتْ بِتَرْبِيَتِهِ وقاسَتْ في تَخْلِيصِهِ المَخاوِفَ والشَّدائِدَ، وقِيلَ: إنَّ هارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَتْ آثارُ الجَمالِ والرَّحْمَةِ فِيهِ ظاهِرَةٌ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ووَهَبْنا لَهُ مِن رَحْمَتِنا أخاهُ هارُونَ نَبِيًّا﴾ وكانَ مَوْرِدُهُ ومَصْدَرُهُ ذَلِكَ؛ ولِذا كانَ يَلْهَجُ بِذِكْرِ ما يَدُلُّ عَلى الرَّحْمَةِ، ألا تَرى كَيْفَ تَلَطَّفَ بِالقَوْمِ لَمّا قَدِمُوا عَلى ما قَدِمُوا فَقالَ: يا قَوْمِ ﴿إنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ﴾ ومِن هُنا ذَكَرَ الأُمَّ ونَسَبَ إلَيْها؛ لِأنَّ الرَّحْمَةَ فِيها أتَمُّ، ولَوْلاها ما قَدَرَتْ عَلى تَرْبِيَةِ الوَلَدِ وتَحَمُّلِ المَشاقِّ فِيها، وهو مَنزَعٌ صُوفِيٌّ كَما لا يَخْفى، واخْتُلِفَ في اسْمِ أُمِّهِما عَلَيْهِما السَّلامُ فَقِيلَ: مِحْيانَةُ بِنْتُ يَصْهَرَ بْنِ لاوِي، وقِيلَ: يُوحانِذُ، وقِيلَ: يارْخا، وقِيلَ: يازْخِتُ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، ومِنَ النّاسِ مَن زَعَمَ أنَّ لِاسْمِها رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها خاصِّيَّةً في فَتْحِ الأقْفالِ، ولَهُ رِياضَةٌ مَخْصُوصَةٌ عِنْدَ أرْبابِ الطَّلاسِمِ والحُرُوفِ، وما هي إلّا رَهْبانِيَّةٌ ابْتَدَعُوها ما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى بِها مِن كِتابٍ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ هُنا وفي طه: (ابْنَ أُمِّ) بِالكَسْرِ وأصْلُهُ: ابْنَ أُمِّي فَحُذِفَتِ الياءُ اكْتِفاءً بِالكَسْرَةِ تَخْفِيفًا كالمُنادى المُضافِ إلى الياءِ. وقَرَأ الباقُونَ بِالفَتْحِ زِيادَةً في التَّخْفِيفِ أوْ تَشْبِيهًا بِخَمْسَةَ عَشَرَ. ﴿إنَّ القَوْمَ﴾ الَّذِينَ فَعَلُوا ما فَعَلُوا ﴿اسْتَضْعَفُونِي﴾ أيِ اسْتَذَلُّونِي وقَهَرُونِي ولَمْ يُبالُوا بِي لِقِلَّةِ أنْصارِي. ﴿وكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ وقارَبُوا قَتْلِي حِينَ نَهَيْتُهم عَنْ ذَلِكَ. والمُرادُ أنِّي بَذَلْتُ وُسْعِي في كَفِّهِمْ ولَمْ آلُ جُهْدًا في مَنعِهِمْ. ﴿فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ﴾ أيْ: فَلا تَفْعَلْ ما يَشْمَتُونَ بِي لِأجْلِهِ؛ فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ سِرَّ فِعْلِكَ، والشَّماتَةُ: سُرُورُ العَدُوِّ بِما يُصِيبُ المَرْءَ مِن مَكْرُوهٍ. وقُرِئَ: (فَلا تَشْمُتُ بِي الأعْداءُ) بِفَتْحِ حَرْفِ المُضارَعَةِ وضَمِّ المِيمِ ورَفْعِ الأعْداءِ - حَطَّهُمُ اللَّهُ تَعالى - وهو كِنايَةٌ عَنْ ذَلِكَ المَعْنى أيْضًا عَلى حَدِّ: لا أرَيَنَّكَ هاهُنا. والمُرادُ مِنَ الأعْداءِ القَوْمُ المَذْكُورُونَ إلّا أنَّهُ أُقِيمَ الظّاهِرُ مَقامَ ضَمِيرِهِمْ، ولا يَخْفى سِرُّهُ. ﴿ولا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ أيْ: لا تَجْعَلْنِي مَعْدُودًا في عِدادِهِمْ، ولا تَسْلُكْ بِي سُلُوكَهم بِهِمْ في المُعاتَبَةِ، أوْ لا تَعْتَقِدْنِي واحِدًا مِنَ الظّالِمِينَ مَعَ بَراءَتِي مِنهم ومِن ظُلْمِهِمْ، فالجَعْلُ مِثْلُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب